كشفت دراسة أعدها مشروع قياس الرأي العام العربي بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومقره في الدوحة ونشرت بوسائل الإعلام الأسبوع الماضي، أن ما يقارب 55 في المئة من المواطنين العرب يؤيدون أن تكون منطقة الشرق الأوسط خالية من الأسلحة النووية، وأن نسبة مماثلة منهم يرون بأن امتلاك إسرائيل لتلك الأسلحة يبرر لدول أخرى في المنطقة المضي قدماً في برامجها النووية، وقد جاءت النسبة العظمى من التأييد في العراق ولبنان. ولا يبدو ذلك مستغرباً نظراً لما شهدته كلتا الدولتين من حروب طاحنة واضطرابات سياسية وعسكرية على مدى أربعة عقود من الزمن.
العاصمة الفنلندية (هلسنكي) على موعد في نهاية العام الجاري مع تنظيم «مؤتمر إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط» وهو ملف ثقيل وشائك في الوقت نفسه ظل يراوح لأكثر من خمسة عقود في مكانه تتقاذفه دول المنطقة فيما بينها في الوقت الذي يقدر الخبراء أن عدد الترسانة النووية الموجودة في الإقليم تتراوح بين 80 إلى 90 رأساً نووياً تتمركز في دولة يرفض أكثر من 84 في المئة من أبناء المنطقة الاعتراف بها ويعتبرونها الدولة الأكثر تهديداً لهم حسب الدراسة السالفة الذكر، بينما طبول الحرب صارت تدق بشكل أقوى من أي وقت مضى تحت ذريعة الشكوك التي يثيرها البرنامج النووي الإيراني لدى المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها.
يبدو أن المنسق الفنلندي نائب وزير الخارجية السفير ياكو لايافا المكلف بالترتيب للمؤتمر يواجه أكثر المهمات الدبلوماسية صعوبة في حياته، وهو بلاشك في وضع لا يحسد عليه نظراً للعقبات والتحديات التي تقف أمامه في سبيل ضمان مشاركة فاعلة في المؤتمر حيث مازال موقف بعض الحكومات المعنية بهذا الملف مترنحاً تجاه المؤتمر وجدول أعماله، لذا فأي تهديد أو تلويح بمقاطعة المؤتمر لاسيما من قبل الدول المعنية والمؤثرة كإيران و«إسرائيل» وتركيا ومصر ودول الخليج، هو بمثابة المسمار الأخير في نعش المؤتمر الذي طال أمده.
التجارب الدولية السابقة في مجال المناطق الحرة الخالية من الأسلحة النووية والمطبقة في أميركا اللاتينية ودول الكاريبي ومنطقة جنوب المحيط الهادي وآسيا الوسطى وإفريقيا ودول جنوب شرق آسيا تبدو جديرة بالدراسة، وخصوصاً أن الدعم الذي يلقاه المؤتمر من قبل الأمين العام للأمم المتحدة والغالبية العظمى من دول عدم الانحياز وبعض الدول الأوروبية يجعل من المؤتمر فرصة تاريخية أخيرة لإبعاد شبح الحرب مرة أخرى من الأجواء ووضع حد لماراثون التسلح النووي في المنطقة التي تعد من أكثر الأقاليم صعوبة وجدلاً في العالم.
مازال التفاعل المصري مطلوباً بل ومحورياً لنجاح المؤتمر لما لعبته الحكومة المصرية في السابق من دور في إطلاق المبادرة سنة 1961م من أجل إيجاد شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية، ولا يبدو أن التغييرات السياسية التي حدثت فيها بعد الإطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك تغير كثيراً من السياسة الخارجية في هذا الصدد، والتي تدعو إلى إخلاء المنطقة من كل أنواع أسلحة الدمار الشامل بما فيها الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية والدعوة للانضمام إلى المعاهدة الدولية لعدم انتشار الأسلحة النووية حيث مازالت «إسرائيل» الدولة الوحيدة الرافضة للمصادقة على الاتفاقية ما يشكل في الواقع تهديداً حقيقياً للسلم والأمن في المنطقة حسب وجهة النظر الرسمية والشعبية.
مشاركة جميع دول المنطقة دون استثناء ضرورية لنجاح المؤتمر، إلا أن الإشكالية التي طرحتها الدبلوماسية المصرية جديرة بالاهتمام حيث أكدت على أهمية انعقاد المؤتمر تحت رعاية الأمم المتحدة ولتكون قراراتها ملزمة قانونياً، بينما مؤتمر المراجعة في العام 2010م أشار إلى تنظيم مؤتمر دولي يخرج بتوصيات غير ملزمة للدول المشاركة، وعليه فإن لم يتحقق المطلب المصري فمن غير المستبعد أن يكون المؤتمر في أحسن الأحوال مؤتمراً جديداً للعلاقات العامة والدبلوماسية كما عهدنا في مؤتمرات دولية سابقة.
العقبة الإسرائيلية والإيرانية معاً تشكلان التحدي الأكبر للسيد لايافا وتفاعلهما مع المؤتمر وجدول أعماله سيحدد بلاشك مدى نجاح أو فشل المؤتمر حتى قبل أن يبدأ، ويبدو أن ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والبرنامج النووي الإيراني سيثيران الكثير من الجدل والإشكالات، لذا فواشنطن تخشى من أن يتم استغلال المناسبة من أجل الهجوم على «إسرائيل» ودعوتها للانضمام إلى الاتفاقية الدولية لمنع انتشار الأسلحة النووية والتخلص من ترسانتها النووية وهذا بطبيعة الحال يزعج السياسة الأميركية والإسرائيلية.
من الضروري أن يخرج المؤتمر بقرارات لا تعطي أي استثناء لأية دولة، وعلى الحكومات التأكيد على أهمية القضاء على كل أنواع أسلحة الدمار الشامل بحيث لا تتمتع أية دولة أو أي سلاح بحالة استثنائية أو انتقائية، وأن لا تتمتع أية دولة بحالة خاصة أو امتياز يعفيها من الالتزام بتوصيات المؤتمر، على أن تكون عملية نزع الأسلحة بإشراف دولي شامل ومباشر عبر وكالات الأمم المتحدة المعنية.
على جميع الدول أن تعلم بأن الأسلحة النووية لن تضمن أمنها، حيث إن امتلاك الولايات المتحدة للترسانة النووية لم يحمِها من أكبر تهديد تعرضت له في هجمات سبتمبر ولم تستطع أن تشكل تلك الأسلحة أي رادع لأعدائها، بل ولم تستطع الحكومة الأميركية التهديد باستخدام أسلحتها النووية فضلاً عن استخدامها في محاربة ميليشيات «طالبان» في أفغانستان أو نظام صدام حسين في العراق، ولذا على «إسرائيل» أن تتقدم بخطوات جادة من أجل تحرير المنطقة من شبح الحرب وسباق التسلح النووي، فالاستمرار في الحديث عن التفوق العسكري الإسرائيلي سيؤدي حتماً إلى استمرار حالة اللاأمن في المنطقة ككل.
الولايات المتحدة الأميركية وفرت في الماضي حماية وقوة ردع نووية لحلفائها في العالم كاليابان وكوريا الجنوبية وتركيا وذلك أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي آنذاك، ويمكن أن تلعب الدور نفسه إن شاءت مع حليفتها في المنطقة من أجل حمايتها، فقد كانت تلك السياسة مجدية لكل الأطراف وقد حالت دون دخول تلك الدول في السباق النووي وحافظت على الكثير من مواردها المالية والاقتصادية.
وعلى الضفة الأخرى فالملف الإيراني يجب أن يحل عبر الطرق الدبلوماسية والحوار وإبداء قدر من المرونة وليس عن طريق دق طبول الحرب، فإيران لها مطلق الحرية في الاستفادة من الطاقة النووية في الأغراض السلمية كما هو حق ثابت لأي دولة منضمة إلى الاتفاقية الدولية لحظر انتشار الأسلحة النووية، ومن الغباء جرّ المنطقة إلى الدمار الشامل بناءً على ظنون وأوهام.
إن إيجاد الشرق الأوسط خالياً من الأسلحة النووية هدف إنساني نبيل يمكن تحقيقه على المدى القصير ولا يحتاج إلا إلى الجدية والإرادة السياسية من الحكومات، فما نحتاجه في المنطقة هو السلام والأمن والاستقرار والتنمية وإزالة التوتر وليس بالتأكيد الأسلحة النووية.
تفصلنا شهور قليلة عن المؤتمر وشعوب المنطقة قالت كلمتها وعلى الحكومات أن تستجيب لذلك النداء حالاً، فشرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية بات مطلباً للجميع وذرائع كسب الوقت طوال خمسين سنة ماضية كافية، فهل ينجح المنسق الفنلندي في ما فشل فيه آخرون ممن سبقوه في هذا المضمار؟ هذا ما نأمله.
إقرأ أيضا لـ "ناصر البردستاني"العدد 3476 - الثلثاء 13 مارس 2012م الموافق 20 ربيع الثاني 1433هـ