على رغم أن التاريخ، وخاصة الوطني منه يدوّن باستمرار، ومنه ما يؤخذ ومنه ما قد يُرد، مما تملأ به صفحات الكتب والمراجع والبحوث والدراسات، إلا أن التاريخ الكامن في صدور أهل البحرين لايزال يحتاج إلى مزيد سبرٍ، وكثير تتبع، لأن حديث الذكريات الذي تحمله ذاكرة هؤلاء تجد فيه الكثير مما لم تدونْه الأقلام أو الكتب.
قراءة التاريخ استناداً إلى تجارب حياة الأشخاص تحمل نكهة تتفرد عن القراءة المجردة للتاريخ وخاصة الوطني منه، فالزاوية التي ينطلق منها هذا الشخص في سرده للأحداث تبدأ صغيرة لكنها سرعان ما تكبر، ربما تبدأ من غرفة في بيتٍ، لكنها بعد ذلك تسع الوطن وقراه ومدنه ورجالاته وأحداثه وأفراحه وآلامه.
في حديث الذكريات، يخرج رجالات البحرين مكنونات أجيالٍ عاشوها، صغاراً وفتياناً وشباناً وكباراً وشيوخاً، عقوداً عاشتها البحرين، بما مرت عليها من لحظات خير ورخاء أو عسر وشدة، تريك معدن أهل البحرين الحقيقي، وتذيع من تاريخ هذا الوطن، ما قد لا تكون قد كتبته الصفحات أو دونته الأوراق.
وعندما يصل حديث الذكريات إلى عائلة فخرو العريقة؛ فلابد أن تصل إلى عبدالرحمن أحمد يوسف فخرو، ذي الـ 75 عاماً، أحد رجالات هذه العائلة، التي يحق لها أن تفخر بأن صفحاتٍ من تاريخ هذا الوطن كتبت بأيديهم.
يتذكر عبدالرحمن فخرو وليد ثلاثينيات القرن الماضي أن البحرين سنوات لمعانها وألقها في الخمسينيات والستينيات كانت أرفع عن التقسيمات التي جزأت الوطن إلى أعراقٍ ومذاهب، ذاكرته تعود به إلى المحرق حيث انصهر الرجال بالرجال، والتحمت الثقافات وتمازجت، وإلى المنامة بتعايشها فكانت حاضرة الألق البحريني الأصيل حينها، البحرين الجميلة حيث كانت، العصية على الفرقة والخصام، الفتية بعشق أهلها إلى الحياة والحب والتسامح.
يؤكد عبدالرحمن فخرو في هذا الجزء، أن البحرين كانت النجمة الكبيرة في وسط الخليج، فكان أهل عمان والكويت وسائر المناطق المجاورة يحبونها ويحترمون شعبها ويسعون دائماً الى الاحتذاء بها.
يرسم فخرو بالكلمات، التي تنساب برشاقة، صورة جميلة عن خضرة أرض البحرين، فتذهب ريشته إلى الأشجار المتشابكة على امتداد شارع البديع التي تكسو الأرض ظلالاً على رغم حرارة الجو، وتكسو الفضاء خضرة من كثافتها وامتدادها وتراصِّها.
كلامه يقطع أن كل بحريني يحن إلى اللوز السكندري الذي كان يأكل منه، ويشتاق إلى مياه عذاري التي سبح فيها صغيراً، ويتذكر كيف كان الأطفال حوله يلعبون ويمشون وأيديهم متشابكة حتى يحين وقت الصلاة، فيذهب الأول إلى هذا المسجد السني، والثاني إلى المسجد الشيعي، ثم يعودون ليواصلوا لعبهم وحياتهم.
يقرر فخرو في حواره أن سر قوة البحرين الماضية، وسر نجوميتها، هو طيبة أهلها وتحضرهم، يستذكر المحرق وتمازجها، وتعايش المنامة، وكيف كان الآخرون يغبطون البحرين على ما كانت فيه من خير يسع الجميع، ومن وعي وثقافة.
وفيما يأتي الجزء الثالث والأخير من حوار «الوسط» مع عبدالرحمن فخرو:
كيف كانت علاقاتكم كعائلة فخرو بالمناطق المجاورة للبحرين؟
- بالطبع كانت للعائلة ولجدنا يوسف فخرو علاقات مع مختلف الإمارات في الخليج وساحل عمان المتصالح أو المتهادن كما كان يسمى حتى ستينات القرن الماضي (حاليّاً الإمارات العربية المتحدة) وقد اكتشفت أن الوالد كان يعرف أبوظبي قبل 1934. كان والدي يحب التصوير وذهب إلى «أشرف» واشترى كاميرا كهدية إلى ولد الشيخ الحاكم في أبوظبي، الذي ذهب إليها ليشكر الشيخ على التعاون. عموماً وبعد فترة جاءت رسالة من المرحوم الشيخ زايد آل نهيان إلى الوالد لشكره على الهدية، وإعلامه بأن الفيلمين اللذين كانا مع الكاميرا استخدمهما، وتم تحميضهما في دبي على ما أعتقد.
أتذكر قبل وفاة الوالد بسنتين أو ثلاث زار الشيخ زايد البحرين، وسلم على الشيوخ في الرفاع، ثم جاء العصر إلى زيارة والدي ومكث عنده عدة ساعات إلى المغرب.
البحرين كانت في الخمسينيات والستينيات النجمة الكبيرة والكل يطالعها، أهل عمان لليوم يحبون البحرين وخاصة كبار السن منهم، وأهل الكويت يحترمون شعب البحرين، وهناك العشرات من الكويتيين الذين درسوا في البحرين منذ تلك السنوات، ويرجعون الفضل في تعليمهم إلى البحرين بعد أن أصبحوا من كبار الشخصيات هناك.
كنت أذهب إلى العمل في نهاية الستينيات إلى قطر مرتين، الأحد والثلثاء، لأنهي أعمالي وأعود، وكانوا في قطر من كثر إعجابهم بالبحرين دائماً ما يقارنون التصاميم التي نقوم بها لهم بما هو موجود لدينا في البحرين، فكانوا يقارنون حتى أحجام الغرف والبلكونات، ويسألوننا عن تفاصيل وطرق التصميم عندنا ويريدون أن يلحقوا بها.
لو تحولنا إلى موضوع آخر، هل صحيح أن البحرين كانت تبيع الماء العذب إلى المناطق والإمارات المجاورة لها قبل عقود؟
- الماء كان يصدر من البحرين، فشت (الديبل) كانت فيه عين حفرها يوسف فخرو لصالح حكومة البحرين، وقطعة جرادة كان فيها أيضاً عين عذبة، وكانوا يبيعون الماء على قطر وغيرها.
أين ذهبت المياه العذبة من آبار وغيرها مما كان موجوداً عندنا في البحرين بكثرة، وكيف باعتقادك جفت الآبار والمياه الارتوازية؟
- أظن أن الأمر يتعلق بمجموعة من الأمور. هذا الأمر يحتاج إلى خبير في هذا الموضوع، ولست مطلعاً عليه بالشكل الكافي. لكن البحرين لم يكن أحد يحفر لاستخراج المياه، كانت المياه تظهر بشكل تلقائي، وكانت هناك منابع ماء في البحرين تسمى «الكواكب»، ويقال إن سبب تسميتها بذلك يعود لأن شهباً (كواكب من مجموع كوكب) ضربت الأرض في الزمان السحيق وتسببت في حفر عميقة أدت إلى خروج المياه منها، عين عذاري كانت عيناً كبيرة وقد سبحت فيها، لكن خلال 20 سنة نفدت كل العيون في البحرين كما قلت لك هي عدة أسباب، منها التغيرات التي حدثت على المناخ حيث الجو أخذ يسخن كثيراً، وقلة الأمطار، والشفط الكبير للمياه، ونحن أيضاً كان لنا دور في الاستهلاك الكبير لهذه المياه. كما أننا نعتمد على حوض مائي كبير جدّاً في الجزيرة العربية، وهذا لم يكن مستخدماً في الماضي، أما الآن فإن السعودية تستخدمه بشكل مكثف من أجل الانتاج الزراعي، وهي قضية علمية معقدة فيها عدة آراء، منها من يرى أن الاستخدام المكثف للمياه سيجعل السعودية أيضاً تفقد الماء كما فقدناه في البحرين. وهناك من يقول إن عمليات التجريف الكبرى التي حدثت في البحرين في العقود الماضية، من بينها إنشاء «ميناء سلمان» الذي تطلب تجريفاً كبيراً ربما أدت الى إحداث تسريب مائي من والى البحر المالح. لكنني لست المتخصص في هذه الأمور وربما هناك دراسات علمية دقيقية في هذا المجال.
ماذا تذكر عن عيون الماء في البحرين؟
- عين الرحى كانت كبيرة، وكنت أذهب إلى عين عذاري بدراجتي، وكانت هناك عين «أم الشعوم» وكانوا يسبِّحون فيها الحمير، وكان «ساب» عذاري يصل إلى الزنج، ويقفل القفول، ويصل من جهة أخرى إلى شيخ عزيز، وكان الساب مليئاً بالحياة من حيث وجود الكائنات المائية فيه مثل «العفاطي» أي صغار الأسماك و»الجعيونيه» أي الضفادع، بالإضافة إلى الأعشاب المائية.
وبالمناسبة، في قضية التسميات التي كان الناس يطلقونها على الأشياء أو المناطق كانت منطقة العدلية تسمى «ظلم آباد»، وقد انتقل الكثير من أهلها إلى «طشان» لاحقاً.
وأذكر أن البحر كانت حدوده عند مجلس الشورى الآن، وكانت هناك عين في موقع وزارة التربية حاليّاً وسط المنامة.
ما الذي تتذكره عن الزراعة والأشجار في البحرين منذ الخمسينيات والستينيات؟
- أذكر أن شارع البديع كان شبه مظلل من الجهتين بسبب كثافة الأشجار والنخيل على جانبيه، ولم يكن الشارع مرصوفاً لكن تراص الأشجار على جانبيه من جميع الأنواع كانت تعطيك منظراً بديعاً.
كان اللوز «السكندري» الموجود في أشجار منطقة مني (شرق السنابس) الأشهر في البحرين، وكان طعمه حلواً ولذيذاً جدّاً، وأذكر مرة كنت مع عمي (أبوشوقي) وقال لي تعالَ لنأخذ (طشتاً) وذهبنا إلى هناك وملأنا ذلك (الطشت) من ذلك اللوز السكندري بجمع ما كان قد تساقط منه على الأرض، ولم نكن نحتاج إلى قطفه من الأشجار لكثرة ما كان ملقى منه على الأرض.
علاقتك بلبنان شكلت محوراً في حياتك...
- بالطبع لأنني أكملت دراستي الثانوية وبدأت دراستي الجامعية قبل أن أكملها لاحقاً في بريطانيا، ولبنان كان البلد المتطور جدّاً الذي يسعى كل متعلم لأن يتواجد فيه، وأتذكر أن في فترة من الخمسينيات كانت الحكومة اللبنانية تعطي كل سائح مبلغاً من المال عند قدومه إلى بيروت، لكي يشجعوا السياحة في بلدهم، فدول الخليج في تلك الفترة لم تكن معروفة، وأتذكر أنا عندما سافرت إلى بيروت تلقَّاني هناك: ماجد الجشي، عبدالجليل العريض، وعبدالرسول الجشي، وعلي فخرو، وكانوا من الناشطين في الحركة القومية، وأول محاضرة أعطونا إياها هي ضرورة عدم استخدام اسم «الفارسي» للخليج، لأنه كانت كل المراسلات الرسمية الحكومية آنذاك تكتب الخليج الفارسي، والقوميون قالوا لنا إنكم يجب أن تسموا الخليج بـ «الخليج العربي» وليس الفارسي، وبدأنا عندما وصلنا الى بيروت نغير الاسم الى العربي وندعو الى تغييره مع الآخرين، ولحد الآن لا أعرف كيف استطاع هؤلاء القوميون التأثير عليّ!
برأيك ما سر سحر وعظمة البحرين في تلك الفترة عند مقارنتها بجوارها؟
- أنا كنت في المدرسة الجديدة، وكان الصف خليطاً من أبناء الشيوخ وأبناء الدواسر، القصيبي ومن البحارنة مثل أبناء العليوات، وباقر السيدخلف، وأبناء صنقور، وكانوا جميعاً يخرجون من الصف، وأحدهم يقول الوالدة صائمة لأن اليوم أول رمضان، والثاني يقول رمضان بكرة، وذاك يقول العيد في هذا اليوم والآخر يقول في اليوم «إللي» بعده، وكانت الأمور تسير بشكل بسيط ودون تعقيد.وكانوا يعرفون بعضهم بعضاً يسمعون الأذان الساعة في المغرب مثلاً (الثانية عشرة بالتوقيت العربي سابقاً)، والآخر يكون أذانه بعد عشر دقائق أو ربع ساعة من ذلك، فـ «يطلعون» مع بعض ويذهبون إلى مسجدهم سوية، كان هناك قبول من بعضهم بعضاً، في المحرق كان السني أيضاً يذهب إلى المأتم ليستمع وليس ليتفرج فقط، بل كانوا يشاركون في محرم مع الشيعة، لكن الآن يبدو أن الناس صارت تفكر بشكل مختلف مع الأسف.
كيف كان الآخرون ينظرون إلى البحرين؟
- البحرين كانت مركز الخليج، وكانت الإمارات والمناطق المحيطة بنا كلها تنظر إلى البحرين بإعجاب، نعم كانت قلب الخليج النابض، وكانت بالفعل لؤلؤة الخليج. البحرين كانت تتميز عن باقي إمارات المنطقة بأن أهلها لا يأنفون من العمل بأيديهم، كان المزارع والتاجر والصياد كلهم من أبناء البلد، كانت غالبية مناطق البحرين تعمل في صيد الأسماك، لأن البحرين كانت مياهها ضحلة ربما تتوغل فيها كيلومتراً دون أن يصل الماء إلى صدرك، وفي «الثبر» لا يصل الماء إلى الكاهل.
شعب البحرين كلهم، يعملون بأيديهم، حتى عندما جاءت الطفرة النفطية أصبحنا نحن القوى العاملة التي قدمت جهودها للمناطق المجاورة، كان البحريني يدفع 5 روبيات على «اللنج» ليعبر إلى المملكة العربية السعودية ليعمل، في الوقت الذي كانت يوميته لا تزيد على (أربع آنات) في البحرين، لكنه يحصل في السعودية على 20 روبية.
البحرين كان مجتمعها متكاملاً، كانت فيها الزراعة والتجارة والصناعة. كان مجتمعاً مكتفياً ذاتيّاً من ناحية الماء والغذاء الأساسي ومنفتحاً على أغنى المناطق في مطلع القرن العشرين بسبب ثروة اللؤلؤ، وكان تجارها طبقة مثقفة وعصامية صنعت نفسها بنفسها، وكان جزء كبير من دخل الدولة يعتمد على الطبقة التجارية، وأحمد الله أنني ولدتُ في واحدة من العوائل التجارية التي كانت تعتز بكل ما هو بحريني وتحب كل بحريني.
العدد 3475 - الإثنين 12 مارس 2012م الموافق 19 ربيع الثاني 1433هـ
نعم صدقت
نعم صدقت حينما قلت بأن السنة يأتون للمأتم ليستمعوا للخطيب. حقا كان ذلك بل كانوا يشتركون معنا فى مواكب العزاء ويجلسون معنا على سفرة الغداء كما يجلب البعض منهم قدور ليأخذ الغداء لأهله. والشيئ بالشيئ يذكر كما نقول نحن أبناء المحرق . أنه عندما قام بعض من غرر بهم لإحداث شغب فى موسم عاشوراء المنصرم كان هناك بعض اخواننا الستة الكرام من استنكر هذا العمل المشين. محرقي / حايكي
روعة
عجيبه هاللقاءات كثروا منها، والله يعطيكيم العافية على هذا الجهد ، والله يطول اعمار الضيوف.