أَدْخُلُ إلى المكتبة باحثاً عن كتب عربية جديدة؛ فأجد روايات صدرت للتو، أو كتباً دينية أو سياسية. أطيل البحث فأجدني في القسم الإنجليزي الذي ينضح بكتب جديدة في الإنسانيات، والاختراعات الحديثة، وعلم الحيوان، والسفر، والكتب المصورة وغيرها.
أعود إلى قسم الكتب العربية وأبحث عن كتب القيادة والإدارة التي يفترض بها أن تُغرّد خارج السرب، فأجد أصحابها قد وضعوا صورهم على الأغلفة! أتصفح بعضها فأكتشف بأن معظم ما بها عبارة عن ترجمات لكتب أجنبية، وقلّما وجدتُ إنتاجاً عربياً محضاً؛ فأتساءل: إلى أي مدى نشارك نحن العرب في إثراء المعرفة الإنسانية؟ ولماذا نكتب لأنفسنا وعن أنفسنا في أغلب الأحيان، ونعيد اجترار المواضيع نفسها ونكرر الاستشهادات نفسها ونقتبس المقولات نفسها للأشخاص التاريخيين أنفسهم حتى أصيبت عقولنا بالتخمة!
كلما أردتُ الخروج من هذه القراءات التقليدية أقرأ أحد كتب مالكوم غلادويل، وهو كاتب كندي متخصص في علم الاجتماع ويعمل حالياً في صحيفة «نيويورك تايمز»، حيث توصل إلى عدة نظريات اجتماعية فريدة أهمها «نقطة التحول» التي تُدرّس الآن في مختلف التخصصات الجامعية. وكلما قرأتُ له أتساءل في نفسي عن سبب إحجام الكُتاب العرب عن إصدار مثل هذه الكتب القائمة على دراسات وأبحاث اجتماعية ونفسية تم إسقاطها على الواقع لفهم متغيراته. لا أظنّه عجزاً، ولكن يبدو لي أننا لا نُلقي بالاً إلى مثل هذه الأعمال الإنسانية لأننا لا نشعر بانتمائها إلينا.
لماذا لا نولي اهتماماً كبيراً بالعلوم والدراسات التي تقع خارج المجلات الدينية أو السياسية؟ أتساءل وأنا أرى شباباً يُخرجون أفلاماً سينمائية، وفتيات يصممن أزياء ومجوهرات، وأشعر بالأسى تجاه هؤلاء الذين يعانون كل يوم ليجدوا فرصة لممارسة ما يحبون. لي صديق حاول أن يدرس في أستراليا علم الحيوان فمنعه أبوه وقال له بأنه لن يقبل أن يعمل ابنه حارساً في حديقة؛ وأجبره على التخصص في إدارة الأعمال! لا ألوم الأب على تصرفه، فمجتمعاتنا لا تُعلي من قيمة التخصصات التي لن تقود إلى وظيفة مرموقة؛ فتصنفها بأنها تخصصات هامشية أو هوايات جانبية.
إننا في حاجة إلى الخروج من حصارنا النفسي والذهني لفهم الإنسان ككيان مجرد من كل دين ولغة وهوية حتى نستطيع استيعابه واحترامه ثم الاهتمام بشئونه والكتابة عنها. ونحتاج قبل ذلك إلى خلع ثوب الضحية، والانطلاق لاكتشاف الأفكار التي يضج بها العالم من حولنا، ثم المشاركة في استشراف الرؤى الإنسانية التي تتشارك فيها البشرية.
إن القضايا التي تناقشها أمة ما تحدد مستوى وعي أفرادها ومكانتها المعرفية ومن ثم دورها في صنع الحضارة الإنسانية، وبالتالي، فإننا في حاجة مُلحّة إلى ربيع فكري نجتَرِئ فيه على البلادة الفكرية، ونطالب برحيل الأفكار القديمة والعقيمة وخاصة تلك التي نظن من خلالها أننا مركز الكون.
نحن في حاجة إلى إعادة النظر في مفاهيم الحداثة التي لا تعني إطلاقاً الكفر أو التخلي عن القيم كما يحب أن يصنفها كثير من الناس، بل تعني فهم العالم من حولنا بمعطيات زماننا ثم التفاعل معه من خلال الأرضية الإنسانية المشتركة التي تجمعنا مع الآخر. فمازالت فئة كبيرة منا مشغولة حتى اليوم ببيان الخلاف بين المعتزلة وتلامذة الإمام أحمد، ولم ننفك بعد نناقش مدى جواز وفائدة قراءة كتب الفلسفة، بينما تَقَدم العقل البشري جداً لدرجة أن الباحثين في العالم - على الحدود السويسرية الفرنسية بالتحديد - يُجرون تجارب لمحاكاة الانفجار العظيم الذي نشأ منه الكون.
لماذا كانت الروح الإسلامية، قديماً، خلاّقة، مبتكرة، مُحلقة، وجامعة لكل الأطياف والأفكار الإنسانية تحت مظلتها؟ لأنها كانت أكثر إصراراً على التعلم ونيل المعارف بمختلف أنواعها وبغض النظر عن مصادرها، وعندما يصل الإنسان إلى مراتب علمية عالية فإنه يكون أكثر استيعاباً للحياة وصيرورتها، بشرط ألا يكون علمه ماضوياً بحتاً؛ أي ألا يدرس الماضي لكونه ماضياً يستمد مكانته من قِدَمِه وليس من حاجة الناس إليه ومناسبته لظروفهم.
ولماذا صارت الروح الإسلامية اليوم منفصمة عن الحياة ذاتها، أي ديناميكيتها وحيوية استمرارها؟ لأنها تقوقعت على ذاتها وأقامت حولها جدراناً عازلة بحجة الخصوصية والحفاظ على الهوية. وبسبب تعاقب عدة أجيال في هذه العزلة، أصيب العقل الإسلامي، والعربي منه على وجه التحديد، بنرجسية فكرية جعلته يظن أن ما يحمله من معرفة تكفيه عن المعارف الإنسانية الأخرى، لأنه يعتقد بأنه يملك الحقيقة المطلقة المتمثلة في أجوبة معلبة يرفض أن يعيد النظر فيها أو يناقشها.
إذا استطعنا أن نؤمن بأننا جزء من هذا العالم الكبير ومن حقه علينا أن نهتم بشئونه ونسهم في تطويره؛ فحينها سيخرج من بيننا كاتب عربي كمالكوم غلادويل، وسيتمكن صديقي من دراسة علم الحيوان ثم لن يضطر أن يعمل حارساً لقفص القردة.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3472 - الجمعة 09 مارس 2012م الموافق 16 ربيع الثاني 1433هـ
هذه الامة ماتت !
استاذ ياسر .. مقالاتك شيّقة وقلمك ثرٌ سيّال.. ولكنك هنا لم تكن منصفا! ..ترى ماذا يمكن ان يقدّم المؤلف او الكاتب او حتى المترجم لأمةٍ "لا تقرأ"! (احيلك لمقال الاستاذ محمد عبدالله قبل يومين) .. أقول .. حتى المدرس في الفصل إذا وجد طلاّبه خاملين بليدين كسالى فإنه يكتفي بالقراءة من الكتاب وشرحه بطريقة روتينية مملة لكي ينتهي من المنهج .. ماذا يفعل المؤلف إذا طرح 5000 نسخة من كتابه ولم يُبع سوى 10 او 20 نسخة!؟ .. يا عزيزي .. لم يعد يجدي الكلام .. هذه الامة ماتت والسلام (احمد مطر).