العدد 3472 - الجمعة 09 مارس 2012م الموافق 16 ربيع الثاني 1433هـ

كيف تحوّل وقت الفراغ إلى طاقة حيوية؟

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

الأصبغ بن نباتة من تلامذة الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وكان يصف الإمام بقوله: «كان ليصل الليل بالنهار والنهار بالليل تعباً وعملاً». وذات يوم قال الأصبغ للإمام: يا أمير المؤمنين ألا تستريح؟ فقال الإمام: يا أصبغ كيف أنام؟ إن نمت النهار ضيّعت رعيتي، وإن نمت الليل ضيّعت نفسي؟.

يمكننا أن نستنتج من الموقف السابق دروساً متعددة، فالكسل سيكولوجياً ناجم في أحد أسبابه عن الإحساس بالضعف والقصور، أي الإحساس بعدم جدارة الشخصية والعكس صحيح. فالنشاط يفصح عن الإحساس بالثقة والكفاءة، ما يدفع صاحبه إلى ممارسة وظيفته بحيوية وتفاؤل، لأن الشخصية التي تتمتّع بالصحة النفسية لا تجد لديها مجالاً للفراغ، والإنسان السوي لا يجتر مشاكله بل يكون مشغولاً عن ذلك بالعمل. بل إن بعض علماء النفس يعالجون مرضاهم بإشغالهم بـ «العمل»، حتى لو كان ذهنياً أو عادياً لا قيمة اجتماعية له.

إن الشخصية الناجحة السوية بالمعيار السلوكي تتميز بفاعلية في حياتها، بحيث تنشط في ممارسة وظيفتها باعتبار أن رصيد مكونها النفسي مرتبط بمحددات (النشاط - الكسل) في الحياة بشكل عام. لذلك قال الفيلسوف البريطاني برتراند راسل «إن آخر نتاج للحضارة هو أن يستطيع المرء ملء فراغه بذكاء».

هناك تعاريف متعددة للكسل، منها ما تشير له كتب علم اجتماع الفراغ (هو الوقت الفائض بعد خصم الوقت المخصص للعمل والنوم والضرورات الأخرى من ساعات اليوم الأربع والعشرين). كما أن هناك تعريفاً طريفاً لجول رونار: «الكسل هو الاعتياد على الراحة قبل التعب». وسئل فيلسوف عن الكسول؟ فأجاب: هو ذلك الشخص الذي لا يرغب المشي في الشمس حتى لا يحمل ظله»! وبعض علماء النفس يحدّدون معايير للصحة النفسية بين الشخصية السوية والشاذة، وتتمثل في فارق لمظهرين سلوكيين هما: الحب والعمل. وقد جاء في الدعاء عن الرسول (ص): «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل».

والحقيقة أن وقت الفراغ يرتبط بمنظومة القيم لحضارة أي أمة من الأمم، لذا فهو يصطدم بالقيم السائدة في المجتمع. وباستقراء تاريخي سريع نرصد كيف أن ضعف التمسك بالقيم الأخلاقية في المجتمعات الإسلامية ينعكس على انهيار الحضارة، كما حدث في سقوط الأندلس. هنا نوصي بأن يخضع وقت الفراغ في مجتمعنا للدراسة والتخطيط، وأن ينظر في القيم الناشطة في المجتمع، ومن ثم تربط نتائج تلك الدراسات بقرارات وسياسات التنمية الاجتماعية وبرامجها، حتى لا يتحوّل وقت الفراغ إلى عشوائيات.

وبالنظر إلى تجارب الشعوب وجديتها في العمل، كتب الفرنسي ميشيل ألبير في كتابه «الرأسمالية ضد الرأسمالية»: «إن 10 في المئة من الذكور البالغين في اليابان يموتون بسبب كثرة العمل، لذا اقترحت الحكومة اليابانية تخفيض ساعات العمل من 44 ساعة إلى 42 ساعةً أسبوعياً. واللافت هنا أن أكثر الشعب الياباني قد خالف هذا المقترح!

ومن أهم ما يميز تجربة كوريا الجنوبية عمل الناس هناك بلا كلل ولا ملل حتى إن عدد أيام الإجازة السنوية التي يتمتعون بها لا يتجاوز عشرين يوماً. ولكي لا نذهب بعيداً، فإنه يمكننا ملاحظة العمل الدؤوب من قبل العمالة الوافدة في المملكة، فهناك 17 مليار ريال يتم تحويلها إلى الخارج سنوياً من السعودية، وهي تمثل حجم التحويلات المالية التي تبعثها العمالة الأجنبية إلى بلدانهم. وهي بالمناسبة تعادل 37 في المئة من الدخل السعودي من النفط.

إن أغلب الدول وظّفت وقت الفراغ للأنشطة التي تخدم مجتمعاتها، فاليابان على سبيل المثال تعتبر ذات نسبة متدنية من الجرائم، ومعدلات الجريمة في تناقص بسبب النشاط التطوعي لمنظمات مكافحة الجريمة واستغلال أوقات الفراغ، حيث يوجد بها 540 ألف وحدة ارتباط، و126 ألف متطوع من الشباب في منظمة إرشاد الشباب. وكذلك النشاط النسائي المذهل (80 ألف عضوة) إلى جانب جمعية الضباط المتطوعين.

الأمر اللافت أن التوصيات الدينية لا تكتفي بمجرد التحذير من الفراغ والحث على العمل، بل تربط بينه وبين الهدف العبادي. يقول الرسول (ص): «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»، و»من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له». ويقول الإمام علي: «إن الله ليبغض العبد الفارغ»، و»من كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل»، وقال أيضاً «الكسل يفسد الآخرة». هنا نلاحظ كيف تتصاعد التوصيات فتربط قيمة العمل بالسعادة والنجاح في الحياة الدنيا.

وهناك محطة رائعة تتصل بفئة المتقاعدين عن العمل (وهي طاقة مسكوت عنها في مجتمعنا)، فقد روى عن الإمام الصادق أن أحد أصحابه وهو معاذ بن كثير، كان تاجراً للألبسة، وقد أعرب عن رغبته للإمام في ترك العمل بالسوق لاكتفائه المادي قائلاً: «قد هممت أن أدع السوق وفي يدي شيء». فقال له الإمام الصادق: «إذاً يسقط رأيك ولا يستعان بك على شيء».

هذا التوبيخ يستحثنا على أن نتعلم من ذلك المشهد التاريخي درساً عظيماً، وهو أن العمل له تأثير كبير على نضج شخصية الفرد وكمال رأيه وسعة تجربته، وكذلك له صلة بتنمية إمكاناته وقدراته الذاتية وفعاليته الاجتماعية. والأمر لا يتعلق بأن يملك الإنسان المال فقط دون أن تكون له فاعلية في المجتمع... فقيمة الإنسان الحقيقية بقدر ما يعطي لا بقدر ما يملك.

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3472 - الجمعة 09 مارس 2012م الموافق 16 ربيع الثاني 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 11:36 ص

      روعة

      انا متقاعد بعد قرائة الموضوع قررت ان ابرمج اعمالي اليومية قدر الامكان

    • زائر 2 | 6:12 ص

      نشكر الكاتب

      اشكر الكاتب لكني اود الاستفادة من بعض كتب التراث حبذا على الكاتب ان يذكر لنا عنوان الكاتب فلعل الفائدة اكثر للقراء الاعزاء ففيه اثراء .

    • زائر 1 | 11:24 م

      مقال رائع

      شكرا للوسط

اقرأ ايضاً