تفسير الفشل القائم بالإعاقة الذاتية الأنطولوجية التكوينية هو تفسير عنصري دحضته العلوم دحضاً، فالبشر كلهم يتوافرون على قابليات للتحضر إذا توافرت لهم الظروف المناسبة، فعلينا البحث في ظروفهم الموضوعية لتفسير ما يصيبون من نجاح أو فشل، وليس عن جيناتهم البيولوجية أو الثقافية.
موقع العرب
وانطلاقة العرب الأولى يوم استنارت قلوبهم برسالة الإسلام وكانوا أبعد الناس عن التحضر شاهدة على ذلك، وكذا شعوب كثيرة قديمة وحديثة. وكذا الانطلاقة المعاصرة لشعوب آسيوية تعبد الأبقار أو الأحجار. أما تفسير الفشل التحديثي أو الديمقراطي بفشل المشروع القومي في توحيد أمة العرب وفي إرساء نظام ديمقراطي حديث، ما أورثها نزوعات فاشية عدوانية جعلها ميؤوساً منها فهو من باب تفسير الشيء بذاته، هم فاشلون في التحديث والديمقراطية لأنهم فاشلون فيهما.
أما التفسير الأقرب إلى العلمية فهو الذي يلقي الضوء على موقع العرب في الاستراتيجية الدولية الإمبريالية من حيث منزلتهم القيادية في الإسلام، ومن حيث وقوعهم في عقدة التواصل بين القارات، ومن حيث توافر أرضهم على الطاقة التي تحرك العالم، ما اقتضى تصميماً دولياً على إعاقة كل محاولة لوحدتهم القومية أو لنهوضهم الإقليمي والحضاري، وما اقتضته من غرز الكيان الصهيوني في القلب منهم عاملاً آخر لضمان التعويق.
ونظرة واحدة لمحاولات نهوضهم منذ تجربة محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر حتى أيامنا هذه، تكشف بوضوح عن قرار دولي بإعاقة كل مشروع نهضوي أياً كان الفريق الذي يقودهم علمانيا أم إسلامياً أو اشتراكياً. هذه تفاصيل لا تهم الاستراتيجي الغربي، فضلاً عما يجد الكيان الصهيوني من دعم ثابت وما تجد الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة من دعم لاستمرار تسلطها على شعوبها، مقابل ما وجدت مشاريع التحول الديمقراطي في العالم من دعم غربي، والموقف الرافض لأنظف عملية ديمقراطية جرت في المنطقة، أعني الانتخابات الفلسطينية الأخيرة شاهد حديث.
أما النجاح الديمقراطي النسبي في عالم الإسلام غير العربي، فتفسيره ليس عائداً إلى توافر قدر من فكر التجديد هناك لم يستوعبه العرب جهلاً أو استعلاء، منبعثاً من نوع مركزية عربية سائدة، فذلك تفسير عجول. فقد سبق منا القول إن الإسلام سوق دولية لا تعرف فيها البضائع بالمنشأ وإنما بالجدارة والنفع، وقد يحسب للأتراك أنهم من أنشط شعوب المسلمين في مجال الترجمة، ولذلك تنتشر بينهم كتابات المكتبة الإسلامية المعروفة بمختلف مدارسها، سواء التراثية أو الحديثة، حسن البنا وأبوالأعلى المودودي وسيدقطب وسعيد حوى ومالك بن نبي وحسن الترابي ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وراشد الغنوشي، كما ترجموا كثيراً من الكتابات الإيرانية. والملاحظ هنا أن المدرسة التركية لم تتميز بإنتاج فكري محدد بقدر ما تميزت بالنزعة البراغماتية العملية، فهي تأخذ من الأفكار ما يناسب أوضاعها، وهي على علم دقيق بالسقف الذي تتحرك تحته، وقد تدرك في ظروف محددة كالتي قادت إلى تدخل الجيش وعزل البروفسور نجم الدين أربكان من السلطة وحل حزبه. أن السقف الذي وضعه أعلى مما يطيق الواقع فتنزل به درجة أو درجات وتعيد صياغتها التنظيمية، ولكن، أعجب ما في الأمر أنها لا تنشغل مثل العرب بالجدل النظري حول الشريعة وما هو ملزمٌ وما هو غير ملزم. إنها عندما تنزل بسقف مطالبها لا تنزل بسقف الإسلام حتى يتواءم مع ما يطيق الواقع، وإنما فقط تنزل درجةً أو أكثر بمستوى مطالبها العملية، أي ما هو مقدور على تطبيقه من الإسلام، أي أنها لا تقدم تنازلات نظرية كما فعلت العلمانيات الغربية وكما يتوهم بعض العلمانيين العرب، فيتصورون أن للإسلاميين الأتراك إسلاماً خاصاً علمانياً يختلف عن إسلام العرب الأصولي، وهو محض توهم، فلم يسجل على الأتراك أنهم أسسوا نظرياً لإسلام علماني أسقطوا منه الشريعة كلاً أو جزءاً، وإنما هم يعملون في ظل توجيهات الإسلام الواقعية: أن المسلم مكلف أن يطبق من الإسلام ما يستطيع، وفقاً للتوجيه النبوي «ما أمرتكم به فاتوا منه ما استطعتم»، فهم متفاعلون مع بيئتهم مدركون سقوفها ويتحركون وفقها، وذلك ما يفسر اقتصادهم في التنظير، فكان تجديدهم في الحقيقة تجديداً عملياً. المدرسة التركية مدرسة عملية لم تطرح على نفسها المهمة التي نسبها إليهم الفرنسي آدلير «إصلاح الإسلام»، تركوا تلك المهمة لمثله ولتلاميذه العرب، أما هم فقد شغلوا أنفسهم بإصلاح واقعهم في ضوء ما يطيق من التطبيق الإسلامي، لأنهم مع كل المسلمين يؤمنون بحقيقة أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان وما هو في حاجة لإصلاح. والإيرانيون أنفسهم لم يمنعهم تشيعهم من الإفادة من فكر الإصلاح السني، فأهم الكتابات الإسلامية العربية مترجمة إلى الفارسية، كما أن كتابات أساسية إسلامية فارسية ترجمت إلى العربية، مثل كتابات علي شريعتي والخميني وشريعتمداري وغيرها، وكذا كتابات أبوالحسن الندوي من الهند وأبوالأعلى المودودي ومحمد إقبال من باكستان. يبدو التناقض واضحاً في مقولة تقدّم الفكر الإسلامي غير العربي على مثيله العربي وزهد الإسلاميين العرب في الترجمة لفكر إخوانهم اعتداداً واستعلاء بمركزيتهم، فقد تأثر واحد على الأقل، من أشهر، إن لم يكن الأشهر على الإطلاق من بين المفكرين الإسلاميين العرب، سيدقطب، بفكر المودودي، وهو أشهر مفكري الإسلام في شبه القارة الهندية، الذي عده ماكسيم ردونسون منظم الإسلام، أي الذي صاغ الإسلام نُظُماً. الملاحظ هنا أن معظم كتابات المودودي ترجمت وطبعت مرات في العالم العربي، ولم تمنع مركزية العرب أن يتأثروا بالمودودي لدرجة التبعية، ليجني العالم العربي نتيجة ذلك أفكاراً تكفيرية للأنظمة والمجتمعات ودوامات متتالية من العنف، حتى أصبحت غطاءً لعنف الكثير من الجماعات الإسلامية في سبيل استعادة الدولة الإسلامية. ذلك أن أفكار المودودي على طرفي نقيض مع المنظومة الحقوقية، ووجدت في العالم العربي تربة خصبة، وتخطت آثارها الدموية إلى الآخر الحضاري. ولا يتسع المجال لمناقشة هذه الأحكام العجلى بل الظالمة للمودودي وتحويله إلى فرانكنشتاين أو دراكولا، وتكفي شهادة على خطى هذا التأويل للمودودي وتحويله كبش فداء، أن الرجل لايزال الموجه الرئيسي إن لم يكن الوحيد للحركة الإسلامية في شبه القارة الهندية، الهند وباكستان وبنغلاديش وسريلانكا والنيبال، حيث توجد فروع للجماعة الإسلامية مع امتداداتها في المهاجر الغربية. وتعد كتابات المودودي المادة التربوية الأساسية إن لم تكن الوحيدة لكل هذا الامتداد الحركي الذي لم يعرف عنه قط لجوء إلى طرائق العنف رغم الاضطهاد النسبي الذي تعرضوا له على امتداد 65 سنة من عمر الجماعة الإسلامية، وليس ذلك مجرد سلوك عملي بل كتابات الرجل واضحة بلا غبش في رفض العنف سبيلاً للتغيير. وقد دافع المودودي في «الدستور الإسلامي» عن مجتمع ديمقراطي تعددي يتمتع فيه غير المسلم بحق الاعتقاد والدعوة إليه، حتى وإن أفضى ذلك إلى كفر بعض المسلمين، فتبعة ذلك لا تعود إليه وإنما إليهم. أما فكرة الجاهلية والقومية فقد ترجمت في العالم العربي في سياق آخر غير السياق الذي طرحت فيه في الهند. طرحت هناك لخدمة أقلية مسلمة تشعر بخطر على هويتها وسط أكثرية غير مسلمة، بما يجعلها حريصة على التميز، رغم أن المودودي كان ضد انفصال باكستان عن الهند، إذ كانت فكرة الانفصال فكرة الرابطة الإسلامية، وهي منظمة علمانية. فلما نقلت هذه الفكرة إلى العالم العربي لاقت سياقاً آخر، سياق الصراع المحموم الذي اندلع في مصر في مطلع الخمسينيات، وكان في جوهره صراعاً على السلطة، استخدمت فيه كل الأسلحة التي كانت في يد الطرفين، أحدها استخدم قوة الدولة لاستئصال خصمه، والآخر استخدم قوة العقيدة والفكرة للدفاع عن وجوده المهدّد، رغم أن مؤسسة الإخوان الرسمية تصدّت في غياهب السجون وفي أحلك ليالي المحنة لفتنة تكفير السلطة، وهي العمود الفقري لتسويغ الخروج المسلح. إن ما حصل ويحصل من تطرف وعنف وترهيب مما لا يستحق أقل من الإدانة، بصرف النظر عن نوع معتقد الفاعل واتجاهه دينياً كان أم علمانياً، لا يمكن أن يفهم ولا ما تأسس عليه من أفكار ومذاهب خارج الظروف الموضوعية التي حصل فيها، وإلا فلماذا أنتجت أفكار المودودي كل هذه الشرور المنسوبة إليها- إن صحت- ولم تنتج شيئاً من ذلك في منبتها الأصلي؟ تبقى كلمة لا مناص من ذكرها حول موضوعة التجديد، حيث إن أهل التجديد في العالم العربي يعانون من محدودية التأثير وربما الانعزالية أو الإقصاء رغم جهودهم الهائلة بسبب نجاح من يعادون التجديد في تشويه الدعوة إليه وتشويه أهلها، والعرب ينقصهم الاطلاع على التجديد الحاصل في العالم الإسلامي غير العربي. يبدو أن التجديد المقصود هنا ليس هو التجديد في اصطلاح علماء الإسلام، الذي محصوه تمحيصاً بسبب وروده في حديث شهير بشر الأمة بأن الله تعهد ألا يصيبها القدم والهرم، بل تظل تتجدد وتشبّب، فكلما اعترتها الشيخوخة وتباطأت حركتها ودب فيها الفساد أرسل الله من يتولى تجديدها وضخ دماء جديدة في شرايينها. علماء الإسلام مجمعون على أن التجديد المقصود ليس بحال تغييراً للدين بالحذف أو الإضافة أو التأويل السائق له إلى السير مع كل فكرة أو ممارسة تتفشيان في حياة الناس، مهما كان تصادمها مع أصول الإسلام وثوابته، بما يجعله تابعاً لا متبوعاً، محكوماً لا حاكماً. كلا، فهذا الدين كلمة الله الأخيرة، فما يرضى إلا موقع السيادة والقيومية على الحياة. التجديد المطلوب إسلامياً هو نفض غبار التاريخ ونفايات الواقع عن حقائق الإسلام وإماطة ضروب الغلو والتشويه التي تكون قد ألصقت به. والمجددون المسلمون في عصرنا ليسوا بحال معزولين، بل هم أبرز قوى التأثير في الساحة على كل الصعد الفكرية والسياسية والمجتمعية. فهل من شخصيات اليوم أكثر تأثيراً في الساحة من الشيخ حسن البنا ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وسيد قطب وحسن الترابي وأحمد ياسين وعبدالسلام ياسين وسلمان العودة وعائض القرني ومحمد حسين فضل الله ونصرالله والخليلي... وأمثالهم. هؤلاء هم إذا دعوا الأمة لبت وإذا استنفروها نفرت، فهم بحق القادة، فبأي معنى يمكن وصفهم بالعزلة وقلة التأثير، اللهم إلا أن يكون غيرهم هو المقصود بالتجديد ممن استهدفوا ليس تجديد الإسلام وإنما تغييره، بافتراض علة الفساد كامنة فيه، كما يدعي غلاة المحافظين الجدد وعتاة الاستشراق الصهيوني، مثل برنارد لويس ودعاة الحرب الحضارية.المدرسة التركية والبراغماتية
الخميني والمودودي
نفض غبار التاريخ
فإذا كان التجديد المطلوب للإسلام هو إصلاحه بهذا المعنى، وكان من رموزه السياسية أتاتورك وبورقيبة وشاه إيران، ومن رموز تفسيره أركون ونصر أبوزيد وعبدالمجيد الشرفي وسلمان رشدي، فهؤلاء هم فعلاً معزولون عن الجماهير تلاحقهم الشبهات بعد أن ألجأهم المجددون الحقيقيون ممن ذكرنا إلى جحر الضب. إذا كان التجديد كذلك، فهو إلى خيبة محققة وفشل مضمون بشهادة الواقع وأبلغ من ذلك شهادة رب العزة الذي تعهد بحفظ دينه «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» (الحجر:9). (يتبع)
العدد 3471 - الخميس 08 مارس 2012م الموافق 15 ربيع الثاني 1433هـ