واحد من التعليقات التي ذكرها أحد المحللين هو أن المجتمعات المتقدمة تقودها النخبة، في حين أن مجتمعاتنا العربية محكومة بعواطف الجماهير. ومثل هذا التعليق يستبطن عدداً من المفاهيم، بعضها صحيح وبعضها غير صحيح. فمفهوم الجماهير ارتبط تقليدياً بما كان يعرف في التراث بـ «الرعاع»، وهم الذين «ينعقون مع كل ناعق»... وقد كانت إحدى نقاط ضعف الممارسة الديمقراطية في أثينا القديمة (قبل 2500 سنة) أنها كانت تخضع لرأي الجمهور بغض النظر عن صحة وعدم صحة ما يريده الجمهور.

على هذا الأساس نشأت فكرة تسليم الأمور إلى «فيلسوف»، أو «حكيم» يقدم العقل على العاطفة، ولكن هذه الفكرة كانت أقرب إلى الخيال ونتج عن ذلك نشوء طبقة أرستقراطية تفسد الأمور في كثير من الأحيان.

وعلى أساس ذلك ظهرت قبل نحو قرنين ونصف القرن فكرة «الديمقراطية التمثيلية»، وهي تعني أن تقوم النخبة المنتخبة من الجماهير بقيادة العمل السياسي، على أن تخضع هذه النخبة إلى محاسبة الناخبين بين فترة وأخرى، وأن تنتظم في عملها من خلال مؤسسات برلمانية وأخرى خاضعة للمحاسبة.

على أن أنموذج «النخبة» المطروح في بعض الأحيان ليس خالياً من العيوب... ففي أميركا مثلاً تسيطر مجموعات الضغط اليهودية وغيرها على مراكز القرار، وبالتالي فإن النخبة تكون خاضعة إلى هذا اللوبي القوي أو ذاك، وهذه واحدة من سيئات النظام الأميركي، بخلاف دول أخرى تكون فيها مثل هذه المجموعات الضاغطة أقل تحكماً بمصير الأمة.

في بلادنا العربية الجماهير لم يتم تمكينها ديمقراطياً، والنخب فشلت في تمثيل تطلعات الجماهير، وأصبحت العلاقة احتكارية بالنسبة إلى متخذي القرار وغير شفافة وغير خاضعة لأية محاسبة تمثل الإرادة العامة للناس.

وعليه، فإن الجماهير في بلداننا عادة تكفر النخبة وتعتبرها فاسدة ومتمصلحة وأنانية، ومستعدة لأن تبيع المبادئ والأوطان مقابل البقاء على كراسيها أو الاستمرار في الحصول على امتيازات لا يحلم بها الإنسان الاعتيادي.

إن ما نحتاجه هو نخبة مخلصة لجماهيرها، وهذا لا يعني بالضرورة الانخراط في مسلسل الشعارات العاطفية لإرضاء العواطف الجامحة، وإنما يعني الصدق في المواقف والاستعداد الدائم لتقديم المبادئ على المصالح الشخصية واعتبار مصلحة المجتمع - بصورة فعلية وليست شعاراتية - هي الأساس في كل عمل تقوم به النخبة المخلصة