ورشة إعادة ترميم «البيت اللبناني» بدأت سياسيا بعد الانتهاء من المعركة الانتخابية. فهذا البيت «الآيل للسقوط» من كثرة المواجهات والاضطرابات الناجمة أصلا عن تحميله أعباء وطنية وعربية وقومية وإيرانية وإسلامية أكبر من قدرته الجغرافية والسكانية كاد أن ينهار على أصحابه في مناسبات وظروف مختلفة ولكنه نجح نسبيا في مقاومة الضغوط والاحتفاظ بالهيكل ومنعه مؤقتا من التداعي.
الورشة بدأت في ضوء النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات وكشفت عن محصلة رقمية تتصل بنسبة المقاعد النيابية التي كسبها كل فريق. فالمحصلة المؤكدة أن قوى 14 آذار حصدت غالبية نسبية من المقاعد بينما اكتفت قوى 8 آذار بالأقلية النسبية. ولكن بلاد الأرز التي تعتمد نظام المحاصصة وتركن إلى الديمقراطية التوافقية (المشاركة والتراضي والتعايش والتساكن) لا تعطي أهمية دستورية لمنطق الأكثرية والأقلية إلا في الحدود الشكلية. فالديمقراطية في لبنان ليست عددية وهذا ما يتطلب منها أن تعيد ترتيب علاقاتها في ضوء معادلة الواقع لا توازن المقاعد.
المقاعد النيابية في البرلمان طائفية ومذهبية وليست «لبنانية» وهذا الأمر يدفع دائما إلى توليد آليات ذكية للتعاطي مع متطلبات الواقع وعدم الانجرار نحو المباهات ولغة التشاوف والغرور وثقافة الفجور.
طبيعة المقاعد تتطلب إعادة دراسة خريطة التضاريس الطائفية والمذهبية التي فاز بها كل فريق سياسي بعيدا عن منطق الأكثرية والأقلية. وإعادة فرز مقاعد 14 آذار تكشف الصورة الآتية: 37 مقعدا لمجموع الطوائف المسيحية، 25 مقعدا للطائفة السنية، 5 مقاعد للطائفة الدرزية، مقعدان للطائفة الشيعية، مقعدان للطائفة العلوية. المجموع العام 71 مقعدا وهو ما دون معدل غالبية الثلثين الذي يعطي صلاحيات مطلقة لتعديل الدستور.
كذلك فرز مقاعد 8 آذار يكشف عن الصورة الآتية: 27 مقعدا لمجموع الطوائف المسيحية، 25 مقعدا للطائفة الشيعية، ثلاثة مقاعد للطائفة الدرزية، مقعدان للطائفة السنية. المجموع العام 57 مقعدا ما يجعلها في موقع الطرف النيابي الأضعف في معادلة التفاوض على تشكيل الحكومة المقبلة.
هذه الحسابات الرقمية في بلد سياسي يقوم فيه النظام على قانون المصلحة تكون عادة واضحة وعادلة ولا تحتاج إلى ذكاء وعناء للتعرف على «الأكثرية» و«الأقلية». ولكن مثل هذه الحسابات في بلد طائفي ومذهبي تتطلب قراءة متعرجة وتحتاج إلى آلية ذكية في التعامل الحذر مع منطق الأكثرية والأقلية. فالمراجعة الحسابية تفترض دراسة معمقة للانقسامات الأهلية والتجاذبات الطائفية والمذهبية حتى لا تذهب بلاد الأرز إلى مغامرة مجهولة.
المراجعة توضح الصورة الآتية وهي أن قوى 14 آذار تمتلك غالبية نسبية في كل الطوائف بما فيها الأقليات الكاثوليكية والدرزية والأرمنية والعلوية ولكنها ضعيفة بشكل فاضح في طائفة واحدة. كذلك تكشف صورة قوى 8 آذار عن معادلة تشير إلى ضعف نسبي لهذا الفريق السياسي في كل الطوائف ولكنه قوي بشكل واضح وهائل الحجم في طائفة واحدة.
هذا التوزع النسبي بين الطوائف والمذاهب يكشف عن حاجة للتوليف الكيماوي بين 14 و8 آذار حتى تتوازن مادة الصورة وتستقر على منطق التراضي والتساكن والتعايش والتوافق كما ينص الدستور اللبناني. فالحكومة حتى تكون متعادلة في مزيجها الكيماوي لابد أن تتشكل من كل الطوائف والأطياف كما يلزم الميثاق الوطني وبالتالي لا تستطيع الإقلاع من دون دمج بعض 8 آذار في الوزارة الجديدة حتى تستقيم على قاعدة التوازن المعقول والتعادل البسيط.
فريق 14 آذار أخذ الغالبية في كل الطوائف ولكنه فشل في كسب عقول وقلوب الشيعة (مقعدان فقط من مجموع 27). وفريق 8 آذار أخذ أقلية نسبية معقولة ومقبولة في كل الطوائف ولكنه فشل في كسب عقول وقلوب السنة (مقعدان فقط من مجموع 27). وهذا الفرز النيابي يؤشر فعلا إلى وجود حاجة لإعادة ترميم الجسور حتى ترتفع درجة الثقة المتبادلة إلى ما كانت عليه في الظروف السابقة. وبسبب هذا الانهيار النفسي الناجم عن مداخلات إقليمية معطوفة على «تصريحات طاووسية» دأبت «الرؤوس الحامية» على إطلاقها من دون انتباه للحساسيات والمشاعر بات يتطلب من رعاة الوضع اللبناني قراءة عقلانية (تسووية تصالحية) تعيد الغطاء إلى بلاد الأرز.
انكشاف لبنان أعطى فرصة لزعزعة الثقة وتحطيم الجسور (المتخلخلة أصلا) بين الطوائف والمذاهب وبالتالي فإن إعادة ترميم «البيت اللبناني» لا يمكن أن تنجح إذا فشل النظام في ترتيب العلاقات الأهلية وتنظيم تمثيلها الوزاري الصحيح في الحكومة الجديدة.
لاشك في أن ترميم البيت اللبناني «الآيل للسقوط» يحتاج إلى مجموعة عناصر إقليمية تساعد على الاستقرار وتحاول قدر الإمكان التقليل من الاعتماد على توظيف ساحة الأرز وتحويلها عنوة إلى «قوة عظمى» وقاعدة انطلاق أمامية ومتقدمة تواجه وحدها المشروع الأمبريالي والمخطط الصهيوني.
هذه الأثقال السياسية الإقليمية المجبولة بلغة بخارية فضفاضة ساهمت كثيرا في كسر جسور الثقة وإطلاق تيارات مغالية في رؤيتها للإمكانات والذهاب بعيدا في تضخيم الأحجام اللبنانية البسيطة والمتواضعة.
العامل الإقليمي من دون أوهام وأحلام يقظة يلعب دوره المهم في مساعدة هذا الشعب المسكين والمغلوب على أمره في إعادة ترميم «البيت اللبناني». لذلك تتجه أنظار قوى 8 و14 آذار إلى المحيط الجغرافي الجواري والإقليمي لرصد ذبذبات المتغيرات ومجرى رياح التغيير قبل أن تبدأ بإعادة تأسيس منظومة وزارية محكومة سلفا بشروط التراضي والتوافق والتساكن والتعايش.
إلى الدور الإقليمي (الإيجابي أو السلبي) هناك التوجهات الدولية ومدى التزام عواصم القرار الأوروبية والأميركية بوعودها للبنان واعترافها بسيادة دولة بلاد الأرز ورفضها لمشروع إعادة استخدامها ورقة للبيع والشراء خلال عمليات التفاوض المنتظرة كما حصل في العام 1976.
تعاضد العاملين الدولي والإقليمي لمصلحة لبنان يساعدان القوى المحلية على إعادة إنتاج تسوية مؤقتة ترضى عنها كل الأطياف والطوائف المجتمعة نسبيا (أكثريات وأقليات) في 8 و14 آذار.
المزج الكيماوي ضروري حتى تستطيع الحكومة المقبلة الإقلاع بورشة ترميم «البيت اللبناني» ومواصلة ترسيم الضوابط السياسية للمعادلة الأهلية. يبقى الاختلاف على نسبة مزج العناصر والمواد الكيماوية بين هذا الفريق وذاك. الاختلاف موجود ولكن تفاهم القوى السياسية على ابتكار آليات ذكية للتركيب يحتاج فعلا إلى قوى وسطى تتوسط ترجيح المعادلة وتفعيلها بدلا من تعطيلها وتفجيرها. وهذا الاحتمال (الثلث الموازن) يبدو هو المرجح إلا إذا حصلت مفاجأة إقليمية غير محسوبة في ميزان التعادل والمعادلة الكيماوية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2483 - الأربعاء 24 يونيو 2009م الموافق 01 رجب 1430هـ