لم يعد ممكناً الادعاء بأن منطقتنا العربية ستبقى على حالها، كما كانت قبل الثاني عشر من يوليو/ تموز الماضي... فقد تغيرت فيها أشياء كثيرة، وهدرت حوادث بكل الصخب، بعضها إيجابي وبعضها الآخر سلبي، وعاثت فيها الأيدي فساداً وإفساداً، بعد أن سالت الدماء أنهارا.
وها هي الحرب العدوانية الإسرائيلية السادسة ضد لبنان، تعتلي قمة هذه الحوادث، بعد نحو 34 يوماً من التدمير الشامل، الذي انتهج بكل الشراسة، نهج التدمير النازي لمدن أوروبا، ثم ها هي المقاومة ترفع إلى السقف أسهم الكرامة التي كانت راكدة منذ عقود، وكأنما الجسد العربي صار هامداً بلا حراك!
لكن الأخطر والأهم هو القرار الاستراتيجي الأميركي، الذي كلف العدو الصهيوني بالقيام بالمهمة القذرة، والهدف المشترك هو تسوية الأرض وتمهيد الطريق أمام «الشرق الأوسط الجديد» بعد الشرق الأوسط الكبير، وبعد أن فشل مشروع الشرق الأوسط المهادن الخانع القابل لتنفيذ الهيمنة الأميركية الإسرائيلية، من دون مجرد إبداء التململ!
والحقيقة السافرة أن هذه السياسة الأميركية المنفلتة، خرجت من معركة لبنان شبه خاسرة على الأقل في المدى المنظور، فقد حرمتها المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، من جني الثمار التي كانت تحلم بها، وترضي غرور الرئيس بوش وعصابة المحافظين الجدد من حوله، المعبأين بكل المشاعر والمجهزين بكل أساليب الكراهية... كراهية شعوبنا وحضارتنا وثقافتنا على العموم.
ولن نجد في هذا المجال أفضل من الاستشهاد بقول الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر «الذي يجند وقته وجهده للدعوة إلى السلام» بشأن الحرب العدوانية الأميركية الإسرائيلية ضد لبنان وفلسطين... فقد قال بالفم المليان ما سبق أن ذكرناه في أكثر من مناسبة، «إن كراهية العالم العربي للولايات المتحدة الأميركية، ازدادت وبلغت حداً غير مسبوق، وان (إسرائيل) وأميركا تعيشان اليوم في عزلة دولية لم تشهدها من قبل، بسبب العدوان الإسرائيلي على لبنان والدعم الأميركي غير المحدود لـ (إسرائيل)، التي لا تمتلك أي مبرر أو سنداً قانونياً أو أخلاقياً، للاعتداء على الشعب اللبناني كله...». حديث كارتر لمجلة «ديرشبيغل» الألمانية في منتصف أغسطس/ آب 2006!
وبقدر انتقاده العنيف لسياسة الرئيس بوش المسببة لموجات العداء، بقدر صراحته في إدانة الانحياز الأميركي إلى السياسات الإسرائيلية العدوانية، بما تجاوز انحيازات كل الرؤساء الأميركيين السابقين، كما قال بالنص. ولذلك نعتبر موقف كارتر هذا كاشفاً، وخصوصاً أمام الرأي العام في بلاده، لأسباب الكراهية العربية الإسلامية للسياسات الأميركية، فقد شهد شاهد من أهلها له ثقله وصدقيته.
ولعلنا جميعنا مازلنا نذكر، ذلك السؤال الجوهري الذي طرحه بوش، وردده من بعده كثيرون، بعد الهجمات الدموية على نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001، وهو: «لماذا يكرهوننا»؟!
وبقدر ما اجتهد كثيرون من المحللين والمفسرين، في البحث عن إجابة، بقدر ما جاءت السذاجة الكاملة والتزييف المطلق، عبر إجابة الرئيس بوش وحوارييه... إنهم يكرهوننا بسبب حضارتنا وتقدمنا وديمقراطيتنا، مقابل عدوانيتهم وتخلفهم واستبدادهم.
وفوق هذا التبسيط المخل وسذاجة التحليل وعدم التعمق في بحث الأسباب الحقيقية، بنت الإدارة الأميركية استراتيجيتها الهجومية ضد هؤلاء الكارهين الحاقدين المتخلفين، فغزت أفغانستان في العام 2001، ثم غزت العراق في العام 2003، ثم شجعت «إسرائيل» على إقامة المذابح اليومية للشعب الفلسطيني منذ انتفاضته العام 2000، ثم دفعتها وسلّحتها وموّلتها لتدمير لبنان العام 2006.
وبين هذا وذاك مارست ما أسمته الفوضى البناءة، وهي في حقيقتها فوضى هدامة، بهدف قلب كل الأوضاع في المنطقة، سياسياً وأمنياً واقتصادياً وإعلامياً، باسم نشر الديمقراطية، لكي تحرث الأرض وتحرق كل ما فوقها، على أمل أن تعيد بناء ما تريده من جديد!
وهي بهذا راكمت مصادر جديدة للكراهية في الأوساط الشعبية العربية والإسلامية، ووضعت مزيداً من الزيت فوق النار المشتعلة، على أمل أن تجني الثمار ناضجة طيبة حلوة المذاق، فإذا بها تجني مزيداً من العداء الشعبي العارم، بعد دورها العدواني في حرب لبنان ومذابح فلسطين، التي قامت بها «إسرائيل» بما يكسر كل القوانين والأعراف والأخلاق الإنسانية.
وعلى رغم الإعجاب الكامل ببطولة المقاومة اللبنانية والصمود الفلسطيني، الذي كسر هذا الصلف «الاسراتيكي» واستثار مزيداً من العداء والكراهية للسياسة الأميركية، وجدد الرفض العارم للكيان الصهيوني، فإن هذه المقاومة أبرزت لنا وللعالم، وخصوصاً لواشنطن وتل أبيب، أحد أهم العلامات الفاصلة في هذا القرن، وهي أن الأوطان لا تموت ولا تستسلم أمام العدوان، وأن الشعوب تستطيع أن تقاوم وترفض الخضوع والخنوع، وأن الأسلحة الصغيرة في أيدي المقاومين تستطيع أن تقهر إرادة ونفوس المعتدين المسلحين بكل ما أنتجته الترسانات العسكرية من أسلحة ذكية فتاكة.
صحيح أن لبنان دفع الثمن غالياً على مدى شهر الحرب البربرية، وقدم 1200 شهيد و4 آلاف جريح و15 ألف منزل مدمر ومئات الطرق والجسور ومؤسسات المرافق العامة، التي استهدفها العدوان، لكنه قدم أيضاً الدرس الراسخ على الدوام، وهو إرادة المقاومة على جانب، والقدرة على إيذاء العدو وإسالة دمه وتدمير مدنه وقراه وتهجير سكانه على جانب آخر.
وللمرة الأولى على مدى أكثر من ثلاثين عاماً وتحديداً منذ انتهاء حرب رمضان - أكتوبر (تشرين العام 1973)، يشعر العدو الصهيوني بالخطر المحدق يدق أبواب منازله الداخلية، ويسقط جنوده في الميدان بالمئات، ويهدد ويقصف مدنه، ويجبره على تهجير عدة ملايين من سكان شماله، ثم يترك مرارة في الحلوق عند السياسيين والعسكريين والرأي العام، لأنهم فشلوا في اصطياد الهدف الرئيسي، وهو حزب الله!
والثابت الآن، بعد مضي عدة أسابيع على إيقاف هذا العدوان المجنون، أن النتيجة الواضحة تجري في ثلاثة اتجاهات، اتجاه إصابة «إسرائيل» بأزمة سياسية عسكرية كبرى، لإخفاقها في حرب كلّفتها أكثر من عشرة مليارات دولار، غير الخسائر البشرية والمادية الأخرى، من دون تحقيق نصر تفاخر به، بعد أن تعودت أن تخرج من كل حرب ضد العرب منتصرة، وهو أمر يشبه الزلزال في الكيان الصهيوني، لن تقف توابعه عند المشهد الراهن، ولكنه سيستمر ويتعمق مع الأيام، وخلاصته الهزيمة، أو عدم إمكانها تحقيق النصر، في مواجهة مقاومة عرفت كيف تحارب ولماذا تحارب.
والاتجاه الثاني هو إعادة الاعتبار إلى حق المقاومة الوطنية في وجه العدوان، بعد عقود من صمت المدافع وهمود الجبهات، بل بعد أن راجت في الأوساط العربية، حكاية أننا خضنا في العام 1973 آخر الحروب، ولم يعد أمامنا إلا السلام حتى لو كان استسلاماً.
وبقدر استرجاع الشعوب لنَفَس المقاومة وقدراتها، في ضوء التجربتين اللبنانية والفلسطينية، بقدر الحرج السياسي الذي شعرت به معظم النظم العربية الحاكمة، سواء التي شجعت العدوان سراً، أو التي تواطأت بالصمت، وهو حرج بليغ، لن تقف توابعه أيضاً عند المشهد الراهن، لكنه سيتفاعل ويتعمق.
أما الاتجاه الثالث، فهو تعاظم حجم ومدى الكراهية السياسية الأميركية، التي كانت ومازالت، القاسم المشترك الأعظم، في كل حروب «إسرائيل» وعدوانها المستمر على شعوبنا، واغتصابها المتتالي لحقوقنا... وللأسف لم تستطع هذه السياسة الخرقاء، قراءة المواقف في منطقتنا على حقيقتها، وإنما قراءتها بعيون إسرائيلية، فدافعت عن مظالم وانتهاكات وحروب عدوانية، واندفعت بالتالي في الغوص المندفع داخل بئر العداوة والكراهية، من دون حتى أن تستوعب الدرس العراقي والأفغاني، حيث الورطة قائمة ومستمرة.
وبدلاً من استيعاب الدرس على حقيقته، ومحاولة علاج خطأ الانحياز والتطرف في مساندة العدوان، بل في ممارسة العدوان، زادت من سرعة اندفاعها نحو قاع البئر، ووضعت نفسها وأصدقاءها وحلفاءها في أشد المواقف حرجاً وخطورة، وغذّت مشاعر الكراهية بمزيد من الالتهاب، كما قال بحق الرئيس كارتر، وأصبح نزقها السياسي وتهورها العسكري، عنواناً على مرحلة جديدة في السياسة العالمية، هو بطش الهيمنة.
ومن دون أن تدري، أو وهي تدري باسم الفوضى البناءة، انحشرت السياسة الأميركية المتهورة في مأزق لن تنجو منه بسهولة، مثلما لن تنجو المنطقة من عواقبه وهزاته المتتالية، ولن تترك وراءها سوى براكين الكراهية المتجددة، وإن كانت في الحقيقة، أحيت في شعوبنا إرادة المقاومة، التي يمكن البناء عليها بأسس أكثر علمية.
خير الكلام
يقول المازني:
بني آدم ما للغرور رمى بكم
مراميه حتى غدا وهو حاكمُ
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1454 - الثلثاء 29 أغسطس 2006م الموافق 04 شعبان 1427هـ