هل صحيح أن الحرب الأميركية - الإسرائيلية على لبنان هي الأخيرة في المنطقة العربية - الإسلامية، وبالتالي ستعقبها مفاوضات من أجل سلام عادل، أم أنها حلقة في سلسلة طويلة من المواجهات؟
هناك رأي يقول إن ما حصل في لبنان مجرد هدنة قلقة، وإن الحرب عُلِّقت لفترة وجيزة لأخذ راحة بعد إرهاق ناتج عن صعوبات تواجه آلة الحرب الأميركية.
هذا الرأي ليس ضعيفاً، إذ يقول به فريق يقرأ الاستراتيجية الأميركية من زاوية مختلفة. فالفريق المذكور ينطلق من نظرية الشك أو التشكيك بالأهداف الأميركية المعلنة. ويرى أن الولايات المتحدة عندما أعلنت الحرب العالمية على العالم العربي - الإسلامي تذرعت بحرب الأفكار لتغطية برنامجها التقويضي.
نظرية الشك أو التشكيك بصحة الأهداف الأميركية تشكل ركيزة أساسية في تفكير هذا الفريق المغلوب على أمره. فأصحاب هذا الرأي يعتبرون أن تصريحات الإدارة الشريرة في «البيت الأبيض» هي مجموعة أكاذيب لتضليل دافع الضرائب في الولايات المتحدة وإقناعه بعدالة الحروب، وأن واشنطن تحمل معها إلى الخارج رسالة إنسانية تستهدف تطوير الشعوب ومساعدتهم لتحصيل مستوى معين من التقدم الاجتماعي لتكون عندها القدرة أو الاستعداد لتقبل «النموذج الأميركي» الذي يقوم على الحرية والاحترام والحقوق والعدالة.
هذا الخطاب يشكك هذا الفريق في صحته. فأصحاب الرأي المعارض للاستراتيجية الأميركية في المنطقة يعتبرون أن الكلام الذي يصدر عن الإدارة الشريرة في «البيت الأبيض» هو مجرد قنابل دخانية لتضليل شعوب المنطقة بقصد شراء سكوتها أو تحييدها في مجرى صراع لا يعتمد على الأفكار وإنما على سياسة تلبي مصالح لوبيات (مافيات) النفط ومؤسسات التصنيع الحربي.
ويرى هذا الفريق أن المشروع الأميركي يعتمد استراتيجية تقويض الدول من الخارج وتحطيم بنيتها التحتية وتفكيك عناصر القوة فيها تحت مسميات «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» و«تمكين المرأة» و«أندية المستقبل» لجرجرة الشعوب نحو فوضى أمنية تقلب التوازنات لمصلحة أمن «إسرائيل» وضمان موقعها ودورها تحت المظلة الأميركية.
أصحاب هذا الرأي يعتبرون أن السياسة التي اعتمدتها إدارة جورج بوش نهضت على فكرة التحطيم والتفكيك وليس مبدأ التوحيد والتحديث، وأن ما حصل في أفغانستان والعراق وفلسطين وأخيراً لبنان يقع تحت هذا السقف الذي استهدف أساساً الضرب من بعيد لزعزعة الاستقرار ودفع العلاقات الأهلية نحو الاضطراب، بقصد إعادة تشكيل الدول بما يتناسب مع الهيكل الاجتماعي الموروث للشعوب.
وفي هذا المعنى، يرى الفريق المذكور أن السياسة الأميركية لم تهزم حتى لو واجهت صعوبات. فالفشل لا يعني هزيمة مطلقة كذلك النجاح المحدود ليس فشلاً مطلقاً. وانطلاقاً من هذا التوصيف المضاد لنتائج الاستراتيجية الأميركية لا يستبعد الفريق الذي يتبنى هذا التحليل أن تحصل المزيد من الحروب ضد دول المنطقة.
أمثلة ونماذج
ينطلق هذا الفريق من الأمثلة والنماذج نفسها للرد على الفريق الآخر الذي يرى أن الولايات المتحدة انهزمت، وأن مشروعها فشل وأن قواتها في حال يُرثى لها، وأنها في وضع عاجز تبحث عن مخرج للهروب أو الانسحاب السريع إلى ديارها.
المثال الأول أفغانستان. فالولايات المتحدة حين قوضت دولة «طالبان» لم تخطط أصلاً لإنشاء دولة حديثة وعصرية لأنها كانت على دراية بطبيعة المجتمع وانقساماته الأهلية القبلية/ الأقوامية. فالهدف لم يكن «تمكين المرأة» وتطوير الرجل وتأسيس ديمقراطية وفق النموذج الأميركي، وإنما كان تقويض دولة وتفكيك أفغانستان إلى مراكز قوى متنافرة تتعايش تحت مظلة الاحتلال. وتحت هذا السقف نجحت واشنطن في تأسيس قواعد عسكرية ومهابط طيران ونقاط أمنية في منطقة استراتيجية من ناحية وظائفها الجغرافية - السياسية.
المثال الثاني العراق. حرب التقويض التي شنتها الولايات المتحدة على بلاد الرافدين استهدفت أصلاً تحطيم الدولة وتفكيكها إلى أجزاء متنافرة، وتشطير المجتمع إلى مراكز قوى تتضارب مع بعضها وتتزاحم على السلطة وتتنافس على الغنيمة. وهذا ما نجحت به قوات الاحتلال، إذ استخدمت الغزو وسيلة لبناء قواعد عسكرية ومهابط طيران تسهِّل عمليات نهب الثروة (النفط) وسرقة البلاد تحت مسميات «الحداثة» و«الديمقراطية» و«احترام الإنسان». وحتى الآن لاتزال تلك السياسة هي العمود الفقري للاستراتيجية الأميركية. فالعراق يشهد يومياً حالات قتل وخطف على الهوية وتدميراً منهجياً للعلاقات الأهلية بقصد منع التواصل وإنهاك الأطياف السياسية ووضعها أمام أمر واقع، وهو القبول بالتقسيم الفيدرالي شرطاً للاستقرار الأمني.
المثال الثالث فلسطين. فالاحتلال الصهيوني الذي تراجعت مكانته بعد نزول القوات الأميركية في المنطقة في العام 1990 حاول الاستفادة من الضعف العربي والفراغ الأمني وتغيير قواعد اللعبة بعد تقويض دولة العراق في العام 2003 باستعادة دوره الإقليمي وتجديد وظيفته الأمنية بالانقلاب على السلطة الفلسطينية وبناء جدار الفصل العنصري في الأراضي المحتلة. وهذا ما نجحت به «إسرائيل» مستفيدة من المظلة العسكرية الأميركية والفوضى الأمنية في العراق. وحين نجحت حركة حماس في الانتخابات التشريعية لم تتردد تل أبيب في فرض الحصار على السلطة بدعم أميركي/ دولي، ثم الانقضاض على تلك المناطق التي انسحبت منها لا بقصد إعادة احتلالها وإنما لتقويضها من الداخل وشلّ قدرتها على الحركة.
المثال الرابع لبنان. حرب التقويض التي شنتها حكومة إيهود أولمرت لم تخطط للاحتلال أو إعادة الاحتلال وإنما استهدفت تدمير البنى التحتية للدولة والبنية السكانية للمقاومة وتأمين غطاء دولي يعطيها شرعية للعدوان والتدخل تحت سقف القرار 1701. فتل أبيب أرادت تلميع دورها الإقليمي في سياق تكييف وظائفها الأمنية بما يتناسب مع استراتيجية التقويض الأميركية. واستراتيجية التقويض تقوم على فكرة تحطيم الدول وتشكيل حكومات هزيلة وتابعة، وأخيراً العمل على دفع العلاقات الأهلية نحو الظهور على سطح السياسة لتكون البديل الطبيعي (الموروث) عن دولة سابقة هي أصلاً ضعيفة وغير قادرة على ضمان أمن البلد وسيادته.
بناءً على هذا التحليل المضاد لرأي الفريق الآخر يرى أصحاب المنهج المذكور أن الحرب الأميركية - الإسرائيلية على لبنان ليست الأخيرة مادام القصد منها ليس الاحتلال وإنما التقويض. والتقويض يستدعي تدمير الأبنية وليس المساهمة في إعادة الإعمار والبناء.
هذه الاستراتيجية التقويضية اختصرتها الإدارة الأميركية بفلسفة عبثية أطلقت عليها «الفوضى البناءة» وهي تقوم على ثلاث خطوات: الأولى التحطيم، الثانية تشكيل حكومة ضعيفة، والثالثة دفع القوى الأهلية إلى تأسيس مراكز سلطة تتجاذب المجتمع بقصد تشطيره إلى مناطق متجانسة طائفياً ومذهبياً.
وبهذا المعنى يرى أصحاب هذا الرأي أن الاستراتيجية الأميركية لم تهزم حتى لو واجهت مقاومات وممانعات وخسائر بشرية. فالمشروع أصلاً خطط للفوضى وزعزعة الاستقرار وتأمين مواقع للجيوش وترتيب علاقات أهلية متوترة تمنع نهوض الدولة وتزيد من تفكك الاجتماع البشري.
وانطلاقاً من هذه الرؤية المضادة في تحليل المقدمات وقراءة النتائج، لا يستبعد هذا الفريق أن تكرر الولايات المتحدة سياستها في إيران من خلال اتباع نهج التقويض، من دون ضرورة للغزو البري أو التورط في تنفيذ مشروع احتلال على غرار ما حصل معها في أفغانستان والعراق
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1454 - الثلثاء 29 أغسطس 2006م الموافق 04 شعبان 1427هـ