العدد 1453 - الإثنين 28 أغسطس 2006م الموافق 03 شعبان 1427هـ

محاكمة النوايا أم مخاطبة العقول؟

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

ستبقى القضية اللبنانية هي هاجس المتابعين، فلبنان قد أصيب بكارثة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، إلا أن تحديد المواقف أصبح مهما للتحول من تفسير النوايا إلى استخدام العقل. فأن تكون مع لبنان، هذا ليس معناه أن تكون مع المعنى السياسي الذي يمثله حزب الله، وأن تكون ضد المعنى السياسي الذي يمثله حزب الله، لا يعني أن تكون ضد الشيعة في لبنان أو في غيرها من البلدان. تلك مزايدة ونوع من الإرهاب، فواحد من أهم العيوب التي تلازم التحليل السياسي العربي وتقعده عن مهماته التصويبية، هو الافتقار إلى حرية الرأي من دون تخوين أو تكفير. حرف النقاش العام من السياسي إلى الطائفي خطيئة كبرى، إن تم بحسن نية، وهو مبدد للأوطان إن تم بعمد.

الموضوع اكبر من ذلك بكثير، في المدى القصير ان حزب الله حقق ممانعة لا تخفى على عاقل، إلا أن الحرب خلفت دمارا هائلا أيضا لا يخفى على عاقل. وإذا وضعنا مقياسا للربح المحقق من الحرب تجاه كفة الخسائر، وإن اختلفنا في التقييم، فإن أي عاقل سيرى أن الخسائر افدح بكثير من المكاسب. ليس بسبب عاطفي، غير أن الحرب بأيامها الطويلة لم تحسم أي شيء. فلا هي حسمت انسحاباً إسرائيلياً كلياً من الأرض اللبنانية، ولا هي قدمت مزارع شبعا سياسيا قيد خطوة إلى الأمام، ولا هي أطلقت السجناء اللبنانيين أو غيرهم من سجون الاحتلال، ولا هي حرب تنهي الحروب القادمة. هي حرب خاضتها مقاومة باسلة، وأرسلت دروسا للعدو، نعم، إلا أنها أيضا دمرت لبنان.

يذهب القول عند البعض إن إيران هي المستفيدة من الحرب، أو البعض الآخر يرى أن سورية هي المستفيدة من الحرب، والعقل يقول لتستفيد إيران أو سورية، لا بأس فالحرب قد وقعت، إلا أن المهم ألا يتضرر لبنان أكثر مما تضرر حتى الآن، وهو ضرر ضخم بكل المقاييس.

على المقلب الآخر فان «إسرائيل» لم تنتصر، وهو النصر الذي يعني تحطيم المقابل الآخر، وهو حزب الله، إلا انها وضعت - كمجتمع - خسارتها النسبية، تحت طائل المحاسبة والمراقبة والتدقيق، فهي لم تكتف بتحطيم لبنان وقتل أكثر من ألف من أبنائه، وتدمير بناه التحتية وقراه، بل نظرت إلى نتائج الحرب نظرة نقدية فاحصة، وثارت نقاشات قد تؤدي إلى تغيير جذري في النظرة إلى الصراع ككل، وتغيير في قواعد الاشتباك في المستقبل. في الوقت الذي بدأنا في تهيئة الذات والمسح على الظهر باتجاه الشعر، كما يقال في المثل، إلا من رحم ربي، من دون تبصر، لا إلى الاستفادة من النتائج الايجابية لصراع الثلاثة والثلاثين يوما وتسخير هذه النتائج سياسيا للبنان واللبنانيين، ولا إلى الاستفادة من الدروس وهي جد عميقة. هذا الموقف الذي قد يوصلنا إلى تضييق دائرة الخطأ وتوسيع دائرة الصواب لم نقم به حتى الآن.

ولعلي أضع هنا بين يدي القارئ مؤشرين يحتاجان إلى تفكير عقلاني لا عاطفياً، ويتجهان إلى مخاطبة العقل لا تفسير النوايا.

المؤشر الأول أن هناك خصوصية وطنية وهي المؤثر الأول في قضية الحرب والسلام بين الدول العربية و«إسرائيل»، كان ذلك في تاريخ الصراع كله واضحا جليا، وهو الذي أدى في النهاية إلى أن يتم توقيع اتفاق مع مصر، والأردن، كل على حدة، وعلاقات علنية أو شبه علنية مع دول عربية أخرى. الخصوصيات الوطنية طبعاً لا تلغي كليا المشترك العربي، إلا أن هذا المشترك هو في حده الأدنى. وفي تجربة الحرب الأخيرة على لبنان شهدنا ذلك بوضوح لا يقبل القسمة. فعدا كلام تشجيعي في الإعلام، لم تتقدم أية دولة عربية أو فصيل لإعانة عسكرية ناشطة ومباشرة، ولا يستطيع عاقل أن يطلب مثل تلك الخطوة. طبعاً كان المتاح هو إعانة لبنان على بدء بناء ما هدم، وهو أمر يقود إلى القول إن التعاون الايجابي متاح في السلم، أما في الحرب فان الأمر يختلف. لذلك فان الخصوصية الوطنية تجعل من لبنان، وغيره من البلاد العربية، في حال الأزمات الحادة كالحروب، يقدم الوحدة الوطنية، بدلا من الاعتماد على الخارج، مهما كان هذا الخارج صادقا ونقيا.

الخصوصية الوطنية اللبنانية تفرض على القوى المختلفة التوافق فيما بينها، وهو توافق لا يخرج سقفه اليوم عن تقوية الدولة بأطرها التي توافق عليها اللبنانيون جميعا، إذ إن إدامة الصراع عمل انتحاري للوطن اللبناني، لن يكسب فيه أي فريق، وإن بدا رابحا، غير خراب مدمر.

المؤشر الثاني هو القول المرسل من البعض إن بعض الدول العربية قد ساعدت «إسرائيل» في حربها على لبنان! أو إن بعض القوى اللبنانية قد فعلت ذلك، وهو قول قد يفهم منه التعبئة السياسية وتفسير النوايا أكثر من إعمال العقول. فإن كان هناك رأي مخالف بشأن توقيت العمل العسكري أو حتى فائدته في ظل توازن القوى المعروف من بعض العرب، فان ذلك حق غير مردود يقع في دائرة الاختلاف الاجتهادي، ولا يصل إلى التخوين الوطني الذي وصلت إليه بعض الخطابات. لعدد من الأسباب العقلية والمنطقية. فأولاً لا تحتاج «إسرائيل» إلى من يشجعها في ظل ما هو معروف ومعلن من نوايا إقليمية، وخبرة لها سابقة، وثانيا ما قيمة التشجيع وثقله النوعي الذي تستطيع دولة عربية أو تيار سياسي لبناني أن يؤثر به لدى العقيدة العسكرية الإسرائيلية؟ ربما جاء ذلك الاتهام قراءة لما صدر من تصريحات من بعض القادة الإسرائيليين، وهنا تبرز قضية منهجية وأخلاقية، فالعدو يريد أن يلعب بكل الأوراق المتاحة، حتى أوراق ادعاءات غير محققة، سواء في القطاع السياسي أم العسكري، فكيف لعاقل أن ينبذ ما يأتيه من ادعاءات في القطاع العسكري مثلا، ويقبل من دون تشكيك ادعاءات في القطاع السياسي؟

الانكأ، ارتباطا بما سبق، أن البعض قد ذهب بعيدا بالقول إن موقف النقد الذي فسر بالتردد من بعض العرب، سيؤدي إلى انقلابات على تلك الحكومات أو التيارات السياسية، وهو اخذ الأمور في سكة التمني أكثر من رؤية الواقع، وفتح ملفات ساخنة تشتت الرؤية وتستنزف الطاقات.

هذا الأمر يدخل في إطار مصادرة حق التفكير المختلف مصادرة تامة، ويعطل النقاش الموضوعي الحر الذي يتوخى الوصول إلى الأفضل، ومتى ما تعطل ذلك النقاش دخل الجميع في دائرة مغلقة من التفكير الأحادي الشمولي.

المخجل أن مثل هذه المصادرة للتفكير المختلف، ليست بعيدة عن الممارسة العربية العامة، فجرعة التخويف التقليدية وهي الاتهام باللا وطنية أو باللا دينية للمخالف السياسي، جرعة تفزع كثيرين، وكأن المدعي يحمل مفاتيح الغفران في توزيع الاتهامات أو تعليق المكارم على الصدور.

إذا كانت ثمة ايجابية من تلك الحرب المدمرة فعلينا جميعا أن نحتفي بحق الاختلاف، وهو اختلاف لا يغمط المقاومة حقها في الاعتراف بما حققت من ممانعة، إلا انه أيضا يؤكد أن الأثمان كانت باهظة، والتوظيف السياسي لصالح لبنان مازال فقيرا أو ممتنعا حتى اللحظة، وسيظل ممتنعا إذا استجبنا لتفسير النوايا بالأهواء، من دون استخدام العقول

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1453 - الإثنين 28 أغسطس 2006م الموافق 03 شعبان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً