العدد 1452 - الأحد 27 أغسطس 2006م الموافق 02 شعبان 1427هـ

ممنوع تمزيق الوطن

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تخرج فيها جماهير الأمة وشعوب الوطن العربي والإسلامي إلى الشارع، حاملة الصور واللافتات وهي تهتف وتصرخ معبرة عن مواقفها وتضامنها مع الشعب اللبناني، أو غيره من الشعوب المقهورة، ولن تكون الأخيرة أيضا، لأننا تجاوزنا زمن السماع وأصبحنا في زمن الحضور والمشاهدة.

الملايين من الناس يتسمرون أمام شاشات التلفزيون، فتشحنهم الصور التي تبثها الفضائيات شحنا يفوق الطاقة، ويتجاوز الخيال، ليبدأ وخز الضمير يموج بهم ذات اليمين وذات الشمال، ثم ليقذفهم وهم حمم ملتهبة، لا يجدون إلى النصرة الميدانية سبيلا، ولا للعطاء من أجل قضاياهم طريقا ينفس بعض ما تطفح به قلوبهم من غيظ وعذاب.

ليس لهم سوى حناجرهم التي يطلقون العنان لها لتستغيث وتضج، وتملأ سماءهم صراخاً، فهناك في فلسطين الألم وفي بقية بقاع الأرض الصرخة، وهناك في لبنان القنابل والحمم وفي كل شبر حي يقظ حياة جديدة مليئة بالأمل والثقة بنصر الله ترتسم على شفاه الناس وقبضاتهم.

إنها ممارسة طبيعية للتعبير عن الرأي والموقف، لكنها في مناطقنا تحاط بكثير من التحريم والتجريم السياسي وحتى الشرعي أحياناً، ولذلك أصبح الإقدام عليها ضرباً من المجازفة المجنونة وإلقاء للنفس في محيط لجي زاخر بخليط من الاتهامات الأمنية والسياسية والشكوك الولائية أو العدائية لهذه الدولة أو تلك ولهذه الراية أو لغيرها من الرايات والتوجهات.

وقد عزز ذلك أن الهياج والاندفاع الشعبي والجماهير قد تحصل فيه تجاوزات على النظام المعمول به في بعض الدول، أو مخالفات يتخطى بها المؤيدون أو المستنكرون بعض الحدود المتعارفة، ويقفزون بفعل حماسهم على القانون الدارج سواء بالأقوال والهتافات أو الأفعال والممارسات.

فقد تحمل لافتات هنا وصور هناك، وشعارات تؤيد نهجاً وتشجب آخر، ومواقف تفترق فيها الشعوب عن أنظمتها القائمة، وتباينات تجاه حدث ما في مكان ما، كل ذلك وربما أضعافه قد يحدث، ولكن ينبغي أن يتعامل مع هذا الموضوع الحساس ضمن سياقات طبيعية ولينة وحكيمة، تجذب ولا تطرد، تستوعب ولا تتشنج، وترتقي بردة الفعل ولا تصطدم.

ممنوع أن تخرج الأمور من سياقاتها الطبيعية ويتعامل مع الموضوع بنفس أمني متوجس، وتفسر التصرفات باعتبارها ضدية وتمردية ومعارضة للأنظمة القائمة أو باعتبارها تآمرية مدفوعة من خارج السور الوطني الحصين، لأن ذلك يعني القيام بإجراءات قاسية وشديدة ضد الداخل، ويعني مزيداً من التشنج، وتحريكاً للقوة والعنف لتحل محل الأبوة والرعاية والمراعاة لحساسية الظرف، وللدافع الإنساني والديني والقومي الذي حرك الناس في اتجاهات قد تختلف مع السائد والمألوف.

ممنوع دينياً أن نجير هذا الحادث الجماهيري العام على مستوى العالم قسراً للتقسيم والاصطفاف الطائفي، وأن نعزف على هذا الوتر الخطير على البلاد والعباد، وعذرنا أن المتظاهرين أو المؤيدين في بعض مناطقنا العربية والإسلامية سمحوا لأنفسهم برفع صورة لرمز ديني مقاوم كما حصل في تعامل الكثير من الشعوب مع صورة السيدحسن نصرالله، فلقد رفعت غالبية الشعوب التي تجاوبت مع الحادث اللبناني صور طاغية العراق صدام حسين، وصور الزرقاوي وغيرهما.

معيب أن يشكك في الولاءات الوطنية للشعوب والمجتمعات على خلفية اللافتات والصور، فولاء الفلسطيني هو لفلسطين والتركي لتركيا والكويتي للكويت وإن رفعوا رايات حزب الله وهم يسعون إلى اغاظة أعدائهم الصهاينة، وولاء كل شعب لدولته وإن كانت صور الرئيس الفنزويلي حاضرة في مسيراتهم ومظاهراتهم.

ولو تساءلنا: هل كان ولاء الاندونيسيين بالأمس لأفغانستان يوم خرجوا ينددون بحمم الأميركيين المتساقطة على أطفالها؟ وهل فجأة تحول ولاؤهم إلى العراق حين بدأ الأميركيون يوسعون شروق أوسطهم المزعوم؟ وهل بتلك السرعة تبدل ولاؤهم إلى فلسطين حين اقتحم الصهاينة مخيم جنين؟ وهل يقبل عاقل أن ولاءهم الآن حسم للرايات والصور التي رفعوها تضامنا مع الوضع اللبناني المقاوم؟ أليس من الإنصاف القول إن ولاء كل إندونوسي وتركي وبحريني وسعودي إلى بلده، وإن امتد تعاطفه ليصل إلى المشتركات بينه وبين بقية شعوب الأرض سواء كانت على أرضية قومية أو دينية أو إنسانية؟

نعم ستبقى تفسيرات الاصطياد في المياه العكرة ترسم صوراً مشوهة لمختلف المواقف والتصرفات، وهذه الأصوات ذات موقف مضاد وأعمى يدفعها لافتعال الاصطدام بكل من شخصتهم أعداء تاريخيين لها، وهذا ما يدعو إلى يقظة دائمة من أجهزة الأمن (خصوصاً) كي لا تتأثر بإيحاءات هذه المجاميع ومن ثم لا تتأثر قراءتها وتقاريرها التي تتحرك في مختلف مفاصل الدولة والمجتمع برسم أعداء داخليين وهميين، إذ في حال حصل ذلك فإن كارثة حقيقية ستلحق بالرباط الداخلي الذي يشد المجتمع كأنه بنيان مرصوص، وسيلحق بساحتنا الداخلية بين أطيافها المتعددين وبينها جميعا وبين جهة القرار تمزق وتبعثر لن يجتمع معه قلب على قلب، ولن تصطف لبنة إلى جانب أخرى، وسيسرع الدمار إلى مجتمعنا بسرعة تتالي الحوادث السياسية الساخنة، التي تستدعي بطبيعتها اختلافا في التحليل والموقف.

لا أشك قيد أنملة أن هذا التفسير يمزق النسيج الاجتماعي برمته ويعرضه للوهن، ما يستدعي كلمة وموقفاً رافضاً لهذا الخطر من كل حاكم وسلطة ومثقف وكاتب وصولاً إلى ابن الشارع العام في مجتمعنا فتمزيق المجتمع حرام وممنوع

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1452 - الأحد 27 أغسطس 2006م الموافق 02 شعبان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً