رسالتان سياسيتان بعثهما الرئيس الإيراني أمس الأول إلى العالم. الأولى تصعيدية تمثلت في افتتاح مفاعل أراك الذي يعمل بالماء الثقيل. والثانية تطمينية تمثلت في توضيح ملابسات بشأن تهديدات أطلقها ضد «إسرائيل». الرسالتان واضحتان في استهدافاتهما فالأولى تتصل بالبرنامج النووي ومدى استعداد إيران لمواصلة خطتها في إنتاج الطاقة السلمية البديلة. والثانية سياسية تحاول تخفيف وقع تصريحات فهم منها أنها تطمح نحو تحدي أوروبا أمنياً ومسح «إسرائيل» من خريطة المنطقة.
تأتي الإشارات التصعيدية والتطمينية في وقت بدأ الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان جولته على المنطقة. فالأمين العام وصل اليوم بيروت لبحث ما تم تنفيذه من خطوات تتعلق بفقرات القرار 1701. ومن بيروت سينطلق عنان إلى عواصم المنطقة وسيزور خلال جولته تل أبيب ودمشق ليستقر يوم السبت في طهران أي بعد يومين من انتهاء المهلة التي حددها القرار 1696 لوقف تخصيب اليورانيوم. ووصول عنان في 2 سبتمبر/ أيلول المقبل إشارة مرنة تدل على أن موعد 31 أغسطس/ آب ليس مقدساً ويمكن تمديده وتطويل فترته.
جولة عنان بدأت إذاً بعد انتظار طويل وهي جاءت في ظل فضاءات تنبعث منها إشعاعات متضاربة في سلبياتها وايجابياتها. إيران تؤشر إلى خطين متعاكسين الأول يذهب نحو التصعيد (مناورات، تجارب صواريخ، وتدشين معامل ذرية) والثاني يتجه نحو التطمين (توضيح مواقف أشاعت مخاوف أمنية). «إسرائيل» بدورها ترسل إشارات متعاكسة؛ فمن جهة تبدي الاهتمام بفتح ملفات مغلقه كالأسرى وشبعا وحتى الجولان، ومن جهة تطلب حكومتها رفع موازنة الدفاع نحو 30 مليار شيكل للسنوات الثلاث المقبلة مترافقة مع استعدادات عسكرية لتلقي ضربات متوقعة في حال انفتح باب النار في المنطقة.
سورية أيضاً أظهرت إشارات متعارضة بين الاستعداد لتكرار خيار المقاومة بناء على التجربة اللبنانية الأخيرة والانفتاح على مفاوضات سلام تنهي مشكلات معلقة ومؤجلة. وهذا الأمر يمكن النظر إليه من الزاوية اللبنانية. فلبنان واقع بين خيارين كبيرين أحدهما يتصل بالمتطلبات الدولية التي تشترط عليه تلبية ما نص عليه القرار 1701 والآخر يتصل بمعضلة إعادة البناء وتأمين الاستقرار للنازحين وتعويض ضحايا العدوان ورفع الحصار الجوي والبحري المفروض عليه.
قراءات واحتمالات
كيف يمكن قراءة هذه الخريطة المتناقضة في توجهاتها السياسية؟ وهل يمكن بناء احتمالات على إشارات متعاكسة يميناً ويساراً؟
الأمور فعلاً معقدة ومتداخلة وهي في بداياتها ونهاياتها لا تنطلق من لبنان. عنان بدأ جولته من بيروت ولكن مفاتيح الحلول تنتهي في بيروت. فالمشكلات في جوهرها ليست لبنانية حتى لو كان لبنان هو ساحة المنازلة الإقليمية وما تستتبعه من تجاذبات دولية.
البدء من بيروت ليس مفتاح الحل. فالعاصمة اللبنانية يجب أن تكون نهاية الجولة لا بدايتها. ماذا يستطيع أن يقدم رئيس الحكومة فؤاد السنيورة للأمين العام للأمم المتحدة؟ لا شيء عملياً سوى الوعد بالعمل من أجل تطبيق ما يتوجب على لبنان تطبيقه من التزامات دولية. وغير ذلك يصبح من التعجيزات والمستحيلات لأن الدولة (المقوضة والمشلولة) في لبنان تتمتع بالصلاحيات ولكنها لا تملك سلطة القرار. وكل ما تستطيع أن تفعله أقدمت عليه وهو نشر الجيش اللبناني على الحدود الجنوبية بين الخط الأزرق ونهر الليطاني ومراقبة المعابر ومداهمة مخازن أسلحة ومصادرة صواريخ. أكثر من ذلك يضع لبنان أمام استحقاقات أهلية وتجاذبات دولية وإقليمية لا يقوى على تحمل نتائجها بعد تلك الضربات الجوية التي هدت كيانه واستباحت أهله.
المشكلات إذاً في لبنان ومصادرها ليست لبنانية. هناك مشكلة فلسطينية (مخيمات) وهذه تتصل بعمق الأزمة العربية والنكبة التي حلت بالشعب ومفتاح الحل موجود في تل أبيب. وهناك مشكلة احتلال أراضٍ لبنانية وسورية وهذه مفتاح حلها في يد حكومة إيهود أولمرت. حتى موضوع الأسرى ومزارع شبعا وخريطة الالغام تتوزع مسئولياتها جهات عدة، والسنيورة مجرد وسيط بينها. لبنان في هذا المعنى مرآة تعكس مشكلات المنطقة وهو غير قادر على صنع السياسة وإنما يستطيع أن يلعب دور الوسيط (الخدمات) لترتيب مخارج للازمات.
لابد إذاً من مراقبة جولة عنان في تل أبيب ودمشق وطهران. فهذا الثلاثي يملك مفاتيح الحرب والسلام. ومن خلفهم هناك اللاعب الدولي الرئيسي في العالم: الولايات المتحدة.
زيارة عنان إلى لبنان للاستجمام والاستطلاع وجس النبض والاستماع إلى الشكاوى (الحصار، المساعدات، رعاية دولية للاعمار والانماء). هذه هي العناوين العامة أما الانباء والاخبار والتوجهات فإنها ستأتي من مصادرها الاصلية: تل أبيب، دمشق، وطهران.
حكومة أولمرت، التي لاتزال تدلك آثار الصفعة التي تلقتها ميدانياً في جنوب لبنان، تحمل الكثير من المفاتيح من موضوع الأسرى ومزارع شبعا والجولان ورفع الحصار وخريطة الالغام وصولاً إلى مشكلة الفلسطينيين. وحتى الآن لاتزال تناور وتتحايل على الحلول وترمي الاتهامات على غيرها من دول الجوار القريبة والبعيدة. فهل سيبحث معها عنان كل هذه النقاط أم يكتفي بالاستماع إلى وجهات نظر بشأنها ويقتصر نشاطه على طرح نقاط تتصل بالقرار 1701 تاركاً المشكلات الحقيقية لغيره؟ والأمر نفسه يمكن سحبه على دمشق. فهل سيوسع عنان برنامج زيارته ويتطرق إلى نقاط مزمنة تشكل اساساً للازمات أم أنه سيكتفي بطرح بعض المطالب المتصلة بالقرار الدولي 1680؟ كذلك يمكن تعميم الموضوعات نفسها خلال زيارته لطهران. فهل سيكتفي هناك بمطالبة إيران بالالتزام بالقرار 1696 أم أنه سيفتح موضوعات تفتح أبواب المنطقة على التفاوض كما اقترحت طهران؟
كل هذه المسارات تبدو مفتوحة ولكنها كلها تخضع في النهاية إلى توقعات تحتاج إلى معلومات للبناء عليها. وحتى تتوضح القراءات لابد من وضع احتمالات يمكن أن تلعب الولايات المتحدة فيها دور المرجح لهذا الاتجاه أو ذاك. فالقرار الأخير في «البيت الأبيض»، وواشنطن تملك القدرة على تقديم اجوبة تتصل بنوعية رد فعلها على أجوبة عواصم المنطقة ومدى استعدادها للتجاوب مع المطالب أو رفضها واستمرارها في تحدي إرادة الشعوب والدول.
هناك رسائل كثيرة أعلن عنها في المنطقة عشية جولة عنان منها ضمانات أميركية - إسرائيلية بتسهيل تشكيل قوات دولية وعدم عرقلة انتشارها في الجنوب اللبناني، ومنها مفاوضات تقودها ألمانيا برغبة حكومة أولمرت للبحث في موضوع تبادل الأسرى، ومنها حاجة تل أبيب إلى تبريد الجبهة اللبنانية تحسباً لسخونة تتوقعها في امكنة أخرى. والأمر نفسه يمكن ملاحظته على الجانبين السوري والإيراني. فدمشق وجهت إشارات متعارضة كذلك طهران.
الآن بقي على عنان أن يفهم الرسائل المتعارضة خلال جولته ويقوم بتنسيقها وترتيبها وتوضحيها في تقريره الذي يتوقع أن ينجزه في 11 سبتمبر... الذي يتصادف مع الذكرى الخامسة لهجمات سبتمبر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1452 - الأحد 27 أغسطس 2006م الموافق 02 شعبان 1427هـ