يمكن لإدارة الموارد المائية عموماً أن تتعزز وتدعم بمشاركة القطاع الخاص في خدمات إنتاج وتزويد المياه، وحالياً فإن مشاركة القطاع الخاص في خدمات إمداد المياه والصرف الصحي بمختلف أشكالها في تزايد مستمر في جميع أنحاء العالم وإن كان ذلك بمعدلات متفاوتة. وهناك الكثير من الأسباب التي توضع لهذه المشاركة من قبل مؤيدي هذا التوجه، يمكن حصرها في رفع كفاءة خدمات إمدادات المياه والصرف الصحي وتقليل التكاليف، إذ إن تقليل التكاليف سيؤدي إلى خفض التعرفة وتقليل الدعومات، وزيادة المدخولات من الخدمة أو ما يسمى باسترجاع التكاليف لتحسين مستوى الصيانة واستدامة الخدمة على المدى البعيد، وتخفيض الأعباء المالية الحكومية وتحرير الموارد المالية الحكومية لتوجه إلى أنشطة التنمية الحيوية الأخرى، والاستفادة من المعرفة التكنولوجية للشركات التجارية المتعددة الجنسيات، وربط هيكل مرتبات المهنيين بالأداء والمسئوليات لاستقطاب الكفاءات العالية، والقضاء على الفساد الإداري والمالي الحكومي.
وفي الوقت ذاته ينظر المعارضون إلى خصخصة قطاع المياه بأنها عملية تخلي الحكومات عن مسئولياتها والأعباء المالية المترتبة عليها نحو مواطنيها، وبأنها تنطوي على الكثير من الإجراءات التي لا تلقى شعبية من المواطنين مثل إلغاء الدعم ورفع تسعيرة المياه وتحصيل الفواتير وتقليل العمالة... ألخ، ستقوم بها الشركات الخاصة بدلاً من الحكومات، ولذلك ينظر إلى عملية الخصخصة أنها تهدف إلى تقليل مخاطر السياسات الاقتصادية للحكومات وتحاشي غضب الجمهور من تطبيق سياسات حكومية مقررة مسبقاً.
كما يشير المعارضون إلى عملية الخصخصة في قطاع المياه إلى الكثير من القضايا الحرجة المتعلقة بهذا القطاع الحيوي، مثل تعارضها مع اعتبار خدمة تزويد مياه الشرب حقاً من حقوق الإنسان، إذ تنص الملاحظة العامة عن «حق الإنسان في الحصول على المياه» التي تمت إضافتها إلى ميثاق حقوق الإنسان في عام 2002 على أنه «يعطي حق الإنسان في الحصول على المياه كل فرد الكمية الكافية والآمنة والمقبولة للاستخدام الشخصي والمنزلي، بشكل منصف ويمكنه الحصول عليها وتحمل تكاليفها»، ولذلك على الدولة أن تحترم وتحمي هذا الحق وأن تتحمل مسئوليتها في توفير هذه الخدمة الحيوية. ويضيف هؤلاء أن عملية خصخصة قطاع المياه بطبيعتها تحمل معها خطر الاحتكار بسبب اقتصاديات الحجم المتعلقة بها، إذ تتطلب هذه العملية استثمارات أولية كبيرة من رأس المال وأن يكون حجم السوق كبير بما فيه الكفاية لتكون مجدية اقتصاديا، ولذلك فإنه من الصعب إيجاد أكثر من شركة لتوفير خدمة المياه للمنطقة نفسها، ما يؤدي إلى احتكار إحدى الشركات لهذه السلعة الاجتماعية الحيوية. وأخيراً، يشير المعارضون للخصخصة إلى أن التجارب العالمية قد بينت أن القطاع العام يستطيع أن يحقق أهدافه بسرعة وبكفاءة اقتصادية عالية لا تقل عن القطاع الخاص إذا أتيح له أن يعمل في ظل أنظمة وقوانين الشركات، وأن الأمن المائي هو قضية أمن وطني ويجب ألا تترك في يد الشركات الخاصة وبالأخص الأجنبية منها.
وتعتبر قضية إشراك القطاع الخاص في إدارة الموارد المائية هي من إحدى القضايا الأكثر جدلاً في العالم حالياً، وعادة ما تكون المناقشات التي تدور حول مشاركة القطاع الخاص مكسوة بعقائد ومصالح راسخة ووجهات نظر سياسية متباينة، وكذلك، وللأسف، فهم محدود لاحتياجات الناس ومستوى الخدمة واستدامتها لهم وهم المتأثر الأول من عملية الخصخصة. ونجد أن وجهة نظر الأشخاص أو المؤسسات سواء تلك التي مع أو ضد عملية خصخصة قطاع المياه عادة ما تكون متعصبة ولا يكترث أي طرف لسماع وجهة نظر الطرف الآخر والتعرف على مصادر قلقه، ولذا فإن النقاش في هذه القضية، سواء في المحافل العلمية أو على المستوى الوطني، عادة ما يكون بمثابة الحوار المقطوع وشبيه بـ «حوار الطرشان».
وعلى مستوى العالم، سيجد المراقب لعملية خصخصة قطاع المياه أنها في تزايد مستمر وكانت متزامنة مع الإصلاح الاقتصادي وإعادة هيكلة الاقتصاد في الكثير من دول العالم، وتمثل الشركات الخاصة لتزويد المياه حالياً جزءاً ليس بالهين من حجم هيئات تزويد المياه في الكثير من الدول المتقدمة مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. إلا انه لوحظ كذلك أنه وبعد حصول توسع كبير في إدماج القطاع الخاص في مجالات تزويد المياه والصرف الصحي، حدث بطء كبير في معدلات الخصخصة بدءاً من العام 2002، كما تدل المؤشرات بأن هذه العملية أخذت، وبشكل متزايد، بعداً سياسياً في الكثير من الدول، مثيرة جدلاً كبيراً بين قطاعات المجتمع. كما بينت الدراسات أن ضغط المنافسة الذي أوجدته الشركات متعددة الجنسيات قد أدى إلى تحسين أداء شركات القطاع العام في كل من الدول المتقدمة والدول النامية على السواء، ومن المتوقع أن يستمر تحسن أداء هذه الشركات الحكومية بشكل أكبر في المستقبل، وأنه من دون منافسة القطاع الخاص للقطاع العام ما كان من الممكن أن يتحسن أداء الأخير في فترة قصيرة.
وتدل الدراسات والتجارب العالمية إلى أن هناك الكثير من الأشكال والطرق التي يمكن أن يتم فيها إشراك القطاع الخاص في قطاع المياه، ويمكن تقسيمها بشكل عام إلى سبعة نماذج تتراوح من الأقل مشاركة في القطاع الخاص إلى الاستملاك الكلي له، وهي: 1) عقود الخدمات للقيام بمهمات معينة لقطاعي تزويد المياه والصرف الصحي. 2) عقود إدارة تزويد المياه وتجميع مياه الصرف الصحي ومعالجتها لمدة قصيرة ( في الغالب 5 سنوات)، إذ تكون الشركة مسئولة عن التشغيل والصيانة وتحصيل الرسوم والأنشطة الإدارية الأخرى. 3) عقود الإيجار وفيها يكون القطاع الخاص مسئولاً عن التشغيل والصيانة وكذلك تحديث الأصول لفترات زمنية طويلة (من 10-20 سنة)، إلا أن الأصول تظل ملكاً للحكومة وتظل الاستثمارات ضمن مسئوليتها. 4) عقود الامتياز طويلة الأجل وتصل إلى أكثر من 25 سنة ويكون فيها القطاع الخاص مسئولاً عن كل الاستثمارات الرأسمالية والتشغيل والصيانة، إلا أن الأصول تظل ملكاً للحكومة. 5) عقود البناء والتشغيل ونقل الملكية أو عقود البناء والتملك والتشغيل ونقل الملكية، وفيها يتم التعاقد مع القطاع الخاص لبناء مرافق معينة مثل محطة تحلية أو معالجة، ويكون فيها القطاع الخاص مسئولاً عن الاستثمارات الرأسمالية ويمتلك الأصول لفترات طويلة تسمح باسترجاع استثماراته وتحقيق الأرباح قبل نقل ملكيتها إلى الحكومة، ويعتبر هذا النموذج الأكثر انتشاراً في العالم حالياً. 6) الشراكة التجارية وفيها تشكل الحكومة شركات خاصة مستقلة بالمشاركة مع القطاع الخاص. و7) عقود البيع الكامل للاستثمارات وفيه تقوم الحكومة ببيع أصولها أو أسهمها أو إدارتها للقطاع الخاص ويكون بدوره مسئولاً عن الاستثمارات المطلوبة والتشغيل والصيانة وتحصيل الرسوم، كما حدث في بريطانيا وويلز، والتي تعتبر من أقدم تجارب الخصخصة في العالم، إذ تمت خصخصة الخدمات المتعلقة بالمياه كاملة في العام 1989، وتملك وتشغل هذه الخدمات شركات خاصة تتم مراقبتها من قبل الحكومة، وتم تعويم أسهم هذه الشركات في البورصة، وتعتبر هذه التجربة هي المثال الوحيد في العالم إذ لم تتبع أي دولة هذا النموذج حتى الآن، كما لا يوجد أي اتفاق على تأثيرات هذا النموذج على المستهلكين وجودة الخدمة المقدمة لهم ويتراوح تقييمها ما بين مستويات خدمة عالية جداً إلى مستويات متدنية جداً.
وتدل الدراسات التحليلية المعمقة لتقييم نماذج الخصخصة في العالم على أنه لا يوجد نموذج واحد يصلح لكل الدول، بل وحتى في الدولة نفسها، وعلى أن هذه النماذج تعتمد على الكثير من العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية السائدة، كما تحذر من تعميم نتائج أداء شركات القطاع العام والقطاع الخاص، فعلى سبيل المثال تعتبر أفضل مصلحة مياه في العالم باستخدام معظم المعايير هي مصلحة المياه في سنغافورة وهي قطاع عام. كما تدل هذه الدراسات على أن أداء شركات القطاع الخاص كان متفاوتاً، ويتراوح من ممتاز إلى سيء، وكذلك بالنسبة إلى الشركات متعددة الجنسية فإن أداءها متغير بين مدينة وأخرى بل وفي المدينة نفسها من فترة إلى أخرى. ولذا فإن أي تحليل موضوعي لعملية الخصخصة سيستنتج أن أداء القطاع العام ليس بالضرورة سيء بشكل كامل، أو أن إنجازات شركات القطاع الخاص ليست بالضرورة جميعها جيد. وكل حال يجب الحكم عليها بناء على إنجازاتها وإخفاقاتها ولفترة زمنية محددة، واستخلاص الدروس المستفادة منها.
ولذا فإن كلاً من المؤيدين، الذين يدعون بأن القطاع الخاص سيحل جميع المشكلات، والمعارضين، الذين يدعون بأنه لا يوجد للقطاع الخاص أي دور يلعبه في قطاع المياه، مخطئون. إذ إن تحويل احتكار القطاع العام إلى احتكار للقطاع الخاص لن يعطي أي حوافز تنافسية للأخير ليعمل بشكل أكثر كفاءة أو يتعامل مع متطلبات المستهلكين، وبالمثل فإن إشراك القطاع الخاص لن يؤدي إلى رفع أداء قطاع المياه إذا كانت الحكومات لا ترغب أو لا تقدر على مواجهة المشكلات المتعلقة بهذه العملية مثل سياسات تسعير المياه غير الاقتصادية، والترهل الوظيفي والبطالة المقنعة.
وبسبب خواص قطاع تزويد مياه الشرب والصرف الصحي، فإنه لا بد من أن يوجد إطار قانوني وتنظيمي واضح وشفاف للقطاع الخاص وكذلك القطاع العام على السواء، بل يجب أن تلعب الحكومات دوراً رئيسياً في هذا القطاع من خلال وضع سياسة مائية وطنية واضحة، يتم فيها تحديد دور القطاع الخاص بشكل واضح وصريح، ووجود الشفافية في سياسة تسعير المياه وتحديد الجهة المسئولة عنها وحجم الدعم، وإنشاء آلية تنظيمية قوية وفعالة لحماية كل من المستهلك وصحته وصحة البيئة.
ويتطلب ذلك إنشاء جهاز/ هيئة تنظيمية مستقلة قبل البدء في عملية الخصخصة يحتوي على كفاءات عالية من المتخصصين تمثل الحكومة والمستهلكين للمياه والقطاع الخاص، تقوم بدراسة جميع الخيارات المتاحة لمشاركة القطاع الخاص في مجالات المياه المختلفة، وأن تكون أهداف الخصخصة واضحة ومحددة، وألا تكون هدفاً في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق هدف أسمى وهو زيادة الكفاءة الاقتصادية وتحسين جودة الخدمة واستدامتها، مع الأخذ في الاعتبار الشرائح الفقيرة وذات الدخل المحدود في المجتمع. سيتم في المقالات المقبلة التطرق إلى وضع وتطور عملية خصخصة قطاع المياه في دول مجلس التعاون وتوجهاتها مع التركيز على هذه العملية في مملكة البحرين
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1451 - السبت 26 أغسطس 2006م الموافق 01 شعبان 1427هـ