مع اقتراب 31 أغسطس/ آب الجاري بدأت ترتسم في الأفق معالم معركة إقليمية - دولية سيتقرر في ضوء نتائجها مصير المنطقة. فهذا الموعد الذي طال انتظاره سيشكل نقطة افتراق في موازين القوى ومنه ستبدأ قراءات جديدة ومختلفة لمسارات عدة تمتد من طهران وتنتهي في غزة.
حتى الآن تبدو أسلحة المعركة دبلوماسية ويرجح أن تأخذ الدبلوماسية مداها الزمني وربما تتمدد إلى حدها الاقصى قبل أن تعود للانكماش مفسحة المجال لعناصر تدخلية أخرى لا يستبعد منها خيار القوة العسكرية.
إيران من جانبها قامت بواجباتها وأرسلت إشارات مختلفة؛ فهي أعلنت عن مناورات عسكرية برية وبحرية جوية وأنزلت إلى الساحة انواعاً جديدة من الصواريخ مضافاً إليها اكتشافات أو انجازات حققها العلماء في حقل إنتاج الطاقة النووية. إلى جانب الجهد العسكري، أقدمت طهران على إرسال ردها المفصل على حزمة الحوافز (الإجراءات التشجيعية) التي عرضتها الدول الخمس زائد ألمانيا.
المناورات والرد فضلاً عن مبادرات ورسائل وزيارات جاءت كلها في وقت واحد وقبل أسبوع من اقتراب الموعد النهائي للجواب الإيراني الذي نص عليه القرار الدولي 1696. فالقرار الذي صدر عن مجلس الأمن غير خاضع للنقاش والتفاوض وهو يلزم طهران بتعليق كل أنشطة تخصيب اليورانيوم. وهذا كما يبدو لم تتضح تفصيلاته في الرد الإيراني على الحوافز، الأمر الذي فتح الباب مجدداً أمام التأويلات واختلاف التفاسير.
وقبل أن يعود الملف إلى مجلس الأمن في نهاية الشهر الجاري بدأت تظهر في افق الساحة الدولية اجتهادات غير متوافقة في قراءة الرد الإيراني وشرح تلك النقاط الغامضة فيه. الولايات المتحدة وجدت في الرد نواقص كثيرة لا تستجيب في نهاية المطاف للطلب الدولي بوقف التخصيب. كذلك ذهبت بريطانيا في رؤيتها لهذه النقطة. وهذا أيضاً كان الموقف الألماني الذي وجد الرد قاصراً في مسألة التخصيب. فرنسا أيضاً ليست بعيدة عن المواقف الثلاثية ولكنها تميل إلى اعطاء فرصة للتفاوض مجدداً على هذه النقطة وتوضيح الملابسات الواردة في الرد. روسيا أيضاً لم تكن مرتاحة للرد ولكنها أبدت استعدادها للقيام بدور ايجابي لتوضيح الصورة. الصين كان موقفها أقرب إلى موسكو ورأت أن المنطقة لا تحتمل التصعيد وطالبت بإعطاء فرصة جديدة للتفاوض منعاً للانزلاق نحو العقوبات.
المواقف الدولية إذاً غير منسجمة في تعاطيها مع الرد الإيراني ولكنها في مجملها متفقة على ضرورة توضيح هذه المسألة وتقديم جواب نهائي بشأنها: وقف التخصيب أو عدم وقفه.
الإدارة الشريرة في «البيت الأبيض» تضغط باتجاه استثمار القرار 1696 وتوظيفه دبلوماسياً والبناء عليه لتطوير موقف دولي متماسك يدفع باتجاه فرض عقوبات على إيران ومنعها بالقوة من استكمال مشروع تخصيب اليورانيوم.
خيار القوة لا تشير اليه واشنطن علناً وإنما تلمح إلى احتمال اللجوء اليه في حال فشلت الوسائل الأخرى. وهذا ما تحاول الدول الكبرى تجنبه حتى لا تنزلق أهم منطقة حيوية للاقتصاد العالمي إلى مواجهة إقليمية غير محسومة النتائج أو على الأقل ستنشأ بموجبها سلسلة تداعيات غير محسوبة ستكون لها انعكاساتها السلبية عمرانياً واقتصادياً واستثمارياً.
هذه المخاوف واقعية وغير مبالغ فيها. فالحرب ليست سهلة. والنتائج المتوقعة منها ستكون مدمرة بغض النظر عن الطرف القادر على حسم المعركة عسكرياً. لذلك تميل مختلف القوى الدولية والعربية والإقليمية والخليجية إلى التحذير من مخاطر الانزلاق إليها حتى لا تدخل المنطقة في حرب رابعة تقضي على فرص السلام والتسوية في دائرة «الشرق الأوسط».
مراهنة معكوسة
كل العالم تقريباً يتمنى تسوية الملف النووي الإيراني سلمياً بما فيه طهران. فالقيادة الإيرانية أظهرت ليونة في ردها وأبدت استعدادها للبحث والتفاوض لتوضيح ملابسات وردت في «الحوافز». فطهران تجد أنه من حقها أن تطلب ضمانات وجدول أعمال وخطة زمنية لتطبيق تلك العروض التي تكفلت الدول الكبرى بتقديمها. وهذا الحق برأيها يحتاج إلى وقت لترسيم معالمه وطرقه ووسائل نقله من النظرية إلى الواقع. كذلك تحتاج التوافقات إلى توضيح الشروط والبدائل والافق العام للتفاهم.
هذه المحاججة الإيرانية لقيت القبول أو على الأقل التفهم من معظم دول العالم باستثناء الولايات المتحدة وحليفها الإقليمي «إسرائيل». أميركا تعتبر أن إيران اعطيت من الوقت ما يكفي وأنها تريد المماطلة والتهرب من الموعد النهائي الذي نص عليه القرار الدولي. و«إسرائيل» تبدو في سباق مع الزمن وتدفع واشنطن لممارسة ضغوطها الدولية لانتزاع موافقة نهائية وواضحة من طهران قبل الاتفاق على إسقاط خيار اللجوء إلى القوة.
خيار القوة حتى الآن يلاقي الاعتراض الدولي. ودول مجلس الأمن غير جاهزة للموافقة عليه وأقصى ما يمكن أن تذهب في ضغوطها على إيران ممارسة نوع من العقوبات المتعددة الاوجه. حتى مبدأ العقوبات ترفضه الصين والى حد ما روسيا وتتردد بشأنه فرنسا، وهذا ما يزيد من صعوبات اللجوء إلى هذا الحل الذي تشجع الولايات المتحدة عليه.
أميركا تبدو قلقة في هذا الجانب، فهي تخطط للحرب بالتعاون مع «إسرائيل» ولكنها تتحفظ في الإعلان عن مشروعها العسكري وتميل إلى إظهار تمسكها بالحل الدبلوماسي. ولكن الحل الدبلوماسي الذي تقترحه واشنطن هو أقرب إلى القوة منه إلى التفاوض. ودبلوماسية القوة التي افصحت عنها واشنطن مراراً تقوم على فكرة الاكراه ومبدأ اجبار طهران على مسألة تعليق التخصيب.
هذا الاختلاف بين منهج التفاوض وسياسة الاكراه يفسر اصرار واشنطن على اتباع أسلوب الضغط الدائم على طهران من خلال استغلال مخاوف دولية وإقليمية والتلاعب بها مستفيدة من قوة الدبلوماسية التي نص عليها القرار 1696 في محاولة منها للبناء عليه وتطويره نحو إصدار قرار جديد يعتمد في نصه دبلوماسية القوة.
هناك أيام قليلة تفصل دول مجلس الأمن عن الموعد النهائي. والسؤال: هل تنجح الولايات المتحدة في جرجرة الدول الكبرى إلى عقوبات قاسية تمهد السبيل إلى خطة حرب مرسومة أم تتكاتف دول المجلس وتتضامن لمنع تمرير قرار جديد يقوض ما تبقى من حلقات السلسلة الرباعية؟
بعد 31 أغسطس يمكن تلمس بعض خطوط التوجهات الجديدة في العلاقات الدولية. والتوجهات مهما كانت ايجابية لن تكون بعيدة كثيراً عن الرد النهائي الذي ستطرحه قيادة طهران بشأن تعليق التخصيب، فاذا وافقت على التعليق ستذهب المشكلة نحو حل دبلوماسي طويل المدى وإذا رفضته صراحة فمن غير المستبعد أن يذهب الخلاف نحو خيار القوة وفي وقت قصير المدى
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1451 - السبت 26 أغسطس 2006م الموافق 01 شعبان 1427هـ