العدد 1450 - الجمعة 25 أغسطس 2006م الموافق 30 رجب 1427هـ

إنها حلقة مفرغة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بعد تردد وأخذ ورد توصلت دول الاتحاد الأوروبي إلى صيغة معدلة لمسألة إرسال قوات دولية إلى جنوب لبنان. فرنسا أعادت النظر في مواقفها وقرر الرئيس جاك شيراك المشاركة بفعالية في القوات الدولية. كذلك وافقت إيطاليا وإسبانيا على المشاركة بقوة لا بأس بها.

هذه الصيغة المعدلة جاءت بعد ضمانات أميركية - إسرائيلية بعدم التعرض للقوات الدولية وتسهيل مهماتها الأمنية والسياسية. كذلك جاءت ضمانات من الجانب اللبناني تؤكد عدم استعداد أي طرف محلي للاعتراض أو تعطيل عمل القوات الدولية.

أسهمت هذه الضمانات المتبادلة في فتح الطرقات أمام هدنة مؤقتة تحتاجها مختلف الأطراف. «إسرائيل» بحاجة إلى فترة نقاهة بعد تعرض أمنها إلى ضربة استراتيجية فرضت على حكومتها إعادة التفكير بالكثير من المسلمات التي اعتمدتها الدولة في سياساتها السابقة. ولبنان أيضاً بحاجة أكثر إلى وقت للتفكير لاستيعاب تداعيات الضربة العسكرية المدمرة والبدء في دراسة نتائجها الميدانية والعمرانية.

الاضرار العينية المباشرة التي أصابت لبنان تبلغ عشرة أضعاف تلك الأضرار التي أصابت «إسرائيل». لكن تداعيات الأضرار التي أصابت الدولة العبرية تعتبر أقوى في عمقها النفسي وأبعادها الكيانية والوجودية.

المهم الآن أن الأمم المتحدة توصلت بعد لقاءات عقدها الأمين العام كوفي عنان في بروكسل إلى صيغة تفاهمات معدلة قررت في نهايتها السير في مشروع تدويل الشريط الحدودي وضمان أمن الطرفين اللبناني والإسرائيلي إلى فترة ليست محددة. والفترة قد تكون هدنة مؤقتة أو دائمة ولكنها مرتبطة في مكان معين بظروف المنطقة وما يطرأ عليها من تحولات دولية وإقليمية.

لبنان في النهاية ليس قطعة أرض منفصلة عن محيطها الجغرافي وبيئتها السياسية. وهذا البلد الصغير الذي دفع كلفة التقاطعات الإقليمية والتجاذبات الدولية بات الآن في وضع لا يحسد عليه ويحتاج إلى عقد من الزمن لترميم ما دمرته الحرب. فالآثار التي أسفرت عنها سياسة التقويض الأميركية - الإسرائيلية لا تعوض. وكل يوم تكتشف البلاد هول الضربات الجوية وما خلفته من دمار شامل للبنى التحتية والمؤسسات والمصانع والإنشاءات والقرى والبلدات والمدن والأحياء. ومن الآن حتى تنكشف التفصيلات وتظهر معالم خريطة التدمير لابد من فترة هدوء تعطي فسحة للتفكير الواقعي بما مضى وما هو البديل المنتظر.

حلقة مفرغة

إلى الآن تبدو الأمور في لبنان على حالها وكأن شيئاً لم يكن. فالكل عاد إلى نقطة الانطلاق التي كان يقف عليها قبل 12 يوليو/ تموز الماضي. وكأن التجربة لا معنى لها ولا فائدة منها ومن دروسها. وهذا النوع من التفكير الطوائفي/ المذهبي/ المناطقي يعتبر في الحسابات السياسية أسوأ من الدمار الشامل. فمن لا يتعلم من التجربة لن يتعلم اطلاقاً. ومن لا يقرأ سيبقى جاهلاً دائماً. ومن لا يغير سلوكه وعاداته ومفردات لغته مستفيداً من رؤيته للمشهد لن يتغير مهما حصل من تجارب وصدمات. وهذا كما يبدو يمكن ملاحظته من كلمات البيانات والتصريحات والمشاحنات والمشادات المتلفزة والمبرمجة. فالكل يتمترس وراء أكياس من الرمل تشكل دفاعات ذاتية ضد الأطراف الأخرى. وكأن الحرب وقعت في تايلند أو في جزيرة نائية. وكأن القصف حصل في صحراء رملية لا بشر فيها ولا حجر.

إنها حلقة مفرغة تدور الدوائر في وسطها لتعود من حيث بدأت. وهذا النوع من التفكير السياسي هو أشبه بالنزق الذي يندفع بالتشنج ولا يتحرك إلا بالنكايات والكيد. ولذلك يتوقع للبنان أن يدور حول نفسه ليعود إلى نقطة البدء نظراً لنمو التقوقع النفسي الذي أحدثه القصف. فكل طائفة تفكر بنفسها ولنفسها. وكل مذهب يجري حسابات الربح والخسارة في دائرة ضيقة لا تتعدى محيطه وأطرافه.

وفي هذا المعنى النفسي - السياسي يكون لبنان (الدولة) انهزم وانتصر لبنان (الطوائف). فالحرب المدمرة كشفت ان الدولة أضعف الاطراف والطوائف أقوى منها. وهذا أمر بديهي في بلد يعتمد الطائفية نظاماً لإدارته. وحين تكون الطائفة أساساً للهوية تتراجع الجوامع المشتركة لمصلحة الحسابات الصغيرة التي تتناسب مع قياسات المنطقة أو المذهب.

عاش لبنان أكثر من 33 يوماً من القصف المدمر. وعصفت به موجات من الغارات الجوية سحقت نحو 30 بلدة وقرية في الحدود الأمامية وحطمت مرتكزات دولة واطاحت بمقومات وطن... وما إن أعلن وقف إطلاق النار حتى عادت الأصوات نفسها محلياً وإقليمياً ترتفع من تحت الانقاض. الكل يريد لبنان كما يراه. والكل يريد الدولة (المقوضة والمشلولة) إلى جانبه. والكل يرى الدولة من زاوية طائفية. فالطائفة في نظر الاطياف السياسية هي أقوى من الدولة. والدولة يجب أن تكون في خدمة الطائفة. فالطائفة أعلى وعلى الدولة الخضوع لها والاندماج فيها.

في لبنان 18 طائفة ولكل طائفة الآن دويلتها أو صورة دويلة غير منظورة. وهذه الدويلة هي البديل عن دولة هدرت املاكها وتقوضت مكوناتها الهزيلة أصلاً. لا أحد يتنازل للآخر حتى لو عادت الحرب غداً. ولا أحد عنده الاستعداد للقراءة والدخول في تسوية تاريخية أو مصالحة تعتمد على مبدأ التنازلات المتبادلة. فالكل يريد الدولة أن تدخل في طائفته وليس هناك من طيف سياسي عنده الاستعداد لادخال طائفته في الدولة.

هذه اللوحة الفسيفسائية يمكن مشاهدة ملامح صورتها من تحت الانقاض. وهي لوحة واقعية وليست مختلقة. فلبنان هذا هو منذ تأسيسه في العام 1920. ولا جديد فيه سوى المقاومة. والمقاومة في بلد طائفي لابد أن تكون، مهما حاولت تجاوز الواقع والارتفاع فوقه، إلا على صورة الوطن ومثاله. وهذا بالضبط مأزق المقاومة وهو يشبه مأزق الدولة.

إنها حلقة مفرغة. وهي تدور مع السنوات من دون تراكم. فبعد كل تجربة هناك عودة إلى المربع الأول. والعودة الأخيرة كما تبدو الأمور من ظواهرها ستكون صعبة أو الأصعب، لأن الكارثة التي سقطت على لبنان في تجربته الأخيرة هي الأعنف منذ تأسيسه. وهذا ربما فتح العيون أمام الكثير لإعادة النظر في مسلمات وبديهيات.

لبنان الآن بحاجة إلى فسحة للتفكير الواقعي بما مضى وما هو البديل المنتظر. ولعل توصل مجلس الأمن إلى توافق على تشكيل قوات دولية للانتشار على الحدود يعطي فرصة لهدنة قلقة ومتوترة ولكنها ضرورية للقراءة والاطلاع على المشهد... وربما إعادة النظر بالكثير من الأمور المتصلة بالدولة وهويتها والطائفة ودورها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1450 - الجمعة 25 أغسطس 2006م الموافق 30 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً