العدد 1448 - الأربعاء 23 أغسطس 2006م الموافق 28 رجب 1427هـ

إنها الأرض المقدسة...

يقول الجندي: رأيت رجالاً بلا رؤوس تجوب جنوب لبنان

عادل مرزوق Adel.Marzooq [at] alwasatnews.com

-

«المقدس في اللغة المتنّزه... ومعنى نقدّس لك: أي نطهر أنفسنا لك.... ومن هنا بيت المقدس... أي البيت المقدس المطهر الذي يتطهر به من الذنوب...».

ياقوت الحموي

(الله الحافظ، إنهم يعودون أحياناً... نعم الجنود من غيرهم، بلا أقدام يمشون عليها، أو عيون يرون بها، وربما بلا رؤوس).

القاصة العراقية ذكرى محمد

يقارب شمس الدين الكيلاني التصور الديني للجغرافية الروحية. ويرى انه يتقاطع مع النظرة الحيادية والعلمية، ويقسم الكيلاني المكان إلى ثلاث تقسيمات رئيسية: الجليل/ العادي، والسماوي/ الأرضي، والشاعري/ النثري.

تحاول هذه الرؤية - بحسب الكيلاني - تحديد «موقف المؤمن من العالم الأرضي، بعد أن تشبعه بالرمزية والدلالات، فيتحول بها فضاؤه الكوني (المملوء بالغموض والفوضى) إلى فضاء كثيف بالمعاني والمعقولية، ويضفي معنى رمزياً على أماكنها المقدسة، أرضاً، أو مدينة أو شجرة، أو جبلاً، فتختبر الجماعة المؤمنة، أمام هذه القداسة، أعمق مشاعر الإجلال والغبطة».

وهذا ما يحيل إلى أن الإنسان تحديداً هو من يقوم بإعطاء الأرض دلالات رمزية تنتجها آلة الدلالة الدينية أو الروحية التي تعمل بداخله وتستيطر على أدواته التأويلية للحوادث والتغيرات التي تحيط به لتصنع بالتالي الأرض المقدسة والمكان المقدس، هذه القدسية التي يؤسسها الإنسان عبر الدين تتصف بالامتداد التاريخي بعد أن تمر بمرحلة الأسطرة، هذه الأسطرة تخضع إلى نمط معين من الاستثمار المعرفي، إذ تعمل قوى الخيال على إضافة المزيد من المعاني على الأشياء، تحاول هذه المخيلة إضفاء محاور جديدة للفهم، وغالباً ما تستعير هذه القوى الرمزية الدينية لتعطيها المصدر الموثوق للتأويل وبالتالي الوصول إلى الحقيقة المنشودة عمداً لا سهواً.

وتلعب هذه التأويلات الدينية دور الجسر الذي «يصل ما بين المؤمن والله، بين المرئي واللامرئي، بين الغياب والحضور، بين الزمان والأبدية» بحسب تعبير الكيلاني.

الجنوب اللبناني المقدس

الجندي الإسرائيلي الذي نقل إلى الخارج لعلاجه جراء إصابته بحالة خلل نفسية، كان قد صرح لشاشات التلفزة انه رأى أناساً بلا رؤوس تخرج عليه، بل وانه كلما صوب ببندقيته على هؤلاء الفاقدي رؤوسهم رصاصاته فإنهم لا يسقطون ولا يموتون»، وبالتالي كان لي أن أطلع على التأويلات الأخرى التي تعدت الفرضية الطبيعية وهي أن الجندي الإسرائيلي مصاب بمرض نفسي أو علة طارئة. هذه التأويلات ذهبت إلى أن الجندي لم يكن يكذب، بل انه كان يروي الحقيقة، فالجنود كانوا ملائكة منزلين لنصرة المقاومة في الجنوب اللبناني، وأن ما رآه الجندي هو دلالة النصر السمائي لمضطهدي العالم الأرضي.

تبدأ من هنا صناعة الأسطورة، بمعنى تعمد الأدوات التأويلية للإنسان إلى إضافة حقائق أخرى كانت مستترة في الحدث، ولم يلتفت لها أحد ما، هذه الحقائق تستمد قواها من تلك الهرمسية الدينية الشرقية كما يذهب الجابري، ولربما يكون الشرق تحديدا المسبب الرئيسي في زيادة الفاعلية لقوى الهرمسية في التأويل، ولن يكون لقوى الكبح التي ستسلط على هذه التأويلات أي تأثير في اشتغالها المباشر على أسطرة الحدث، وبالتالي لن تستطيع التأثير في ذهاب الإنسان - الذي عاصر هذه الحقائق وساهم في أسطرتها - إلى البدء في إعطاء الجنوب اللبناني - الأرض التي حوت الأسطورة/ الحقيقة - قدسيتها الطارئة.

العلم والدين... لعبة التأويل

المعرفة العلمية بحسب الكيلاني «تستهدف (المطابقة) أو الاقتراب من حقيقة ما هو موجود ومن قانونيته الموضوعية» أما الإدراك القدسي - الذي يعتبر الأداة التي ستعطي المكان قدسيته القادمة - فهو «يعتمد على أحكام تفاضلية تجاه المكان، مشبعة بالمعايير والقيم، ووسيلته إلى ذلك المنطق الرمزي والروحي، ويستخدم في ذلك اصطلاحات القداسة، والدناسة، والحرام والحلال».

من يستطيع منا مقاومة فرضية أن تكون الأرض اللبنانية مقدسة قبالة الأرض الإسرائيلية المدنسة - لا تفعل هذه الخاصية على اعتبار أن فلسطين المحتلة هي الأخرى لها قدسيتها - وأن الحلال هو «حزب الله» وأن الحرام هي «إسرائيل»، وان الخير هو حزب الله وان الشر هي «إسرائيل»، وهكذا تستكمل لعبة الثنائيات الحق والباطل، النور والظلام.

وقبالة الأسطورية التي لابد أن تكتسيها الأرض اللبنانية، لابد أن يتزامن هذا مع الأبطال الأسطوريين، الخارجين عن العادة والاستثنائيين حقا، الملاحظ أن شتى العوامل تذهب إلى تبني هذه القداسة وتفعيل الإيمان بها. فالكاريزما التي تصدق في وعودها مهما كانت صعبة او شبه مستحيلة تؤكد صدقية الخيال الديني الذي لا يستوجب العلمية في المطلق، وتدعمه لغة الواقع، فحزب الله ونصرالله معاً صنعا أسطورة تؤسس مقولة الجندي بلغة «واقع» تخضع للاختبار المعملي ولو على استحياء. إلا أنها تستطيع في المجمل دفع الأسطورة وزيادة فاعليتها.

الكيلاني في كتابه «قداسة المكان» يرى أن «الدين التوحيدي قدم تفسيراً شاملاً إلى العالم وإلى الحياة الإنسانية، وإلى دوافعها الأولى، وإلى غاياتها القصوى، وتناول التجربة الاجتماعية وأعطاها مسوغاتها، ووفر ذخيرة وافرة من الدلالات والرموز لعلاقات الإنسان بالعالم والله والآخرين».

هذه الدلالات تميزت بأنها تتمثل في «خطاب ثنائي متماسك بين الأعمال الخيرة والأعمال الشريرة، وبين العادل والظالم، ليضبط سلوك الفرد الاجتماعي لتحقيق ما هو عادل، ولما يرضي الله، ليحل المقياس الأخلاقي على حساب فكرة المدنس والمقدس الأسطوريين، فتصبح حياة الفرد نضالاً من أجل التقوى، وكانت الخطوة الحاسمة التي خطاها الدين التوحيدي، هي رسمه حداً فاصلاً بين القداسة والنجاسة، والعادي، في المكان والزمان وفي تجارب البشر».

ويؤكد كوندراتينكو ما ذهب له الكيلاني في إشاراته إلى أنه لا توجد في المجتمع الإنساني علاقات بين الناس فقط، بل هناك علاقات الإنسان بالطبيعة، وبالمكان الذي يحيط به، وتقف هذه الأخيرة وراء العلاقة الميثية - الدينية بالمكان. فمن محاولة الوعي الإنساني الدائبة في البحث عن تفسير لقوى العالم المحيطة به، وهو مندهش أمام غرابتها، وروعتها وعظمتها، تنشأ العلاقة الميثية الدينية والجمالية.

لذا فإن مجمل ما حدث في حرب لبنان المفتوحة لا يمكن ان يكون خارج حدود الأسطورة وفق الفهم المستند لطبيعة الإنسان الذي عايش هذه التجربة، وتأثر بها. وعليه كان الجندي الإسرائيلي - ضمنياً - في كامل قواه العقلية حين ادعى انه رأى جنوداً أو مقاوميين بلا رؤوس، وأنهم لا يتأثرون بالرصاص، ذلك انه تحديداً أرضى دلالات الفهم والتأويل لدى الإنسان العربي المسلم الذي كان جاهزاً ليستثمر هذا الحادث بما يؤكد العلاقة بينه وبين نصر السماء الذي يأتي للأرض ليفصل بين الحق والباطل، بين النور والظلام

إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"

العدد 1448 - الأربعاء 23 أغسطس 2006م الموافق 28 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً