التحولات التي تحدث في المجتمعات عادة تأتي مسبوقة بحدث كبير، أو اهتزاز عنيف، أو إثر صدمة غير متوقعة، هذه الحوادث والهزات تكون أرضية خصبة وقابلة لاستنبات التغير على صعيد الفرد والمجتمع.
لقد كانت الافكار والقناعات تمر بساعات عسيرة وصعبة جراء الابتلاء الذي خاضت غماره في الحرب الاسرائيلية على لبنان في 12 يوليو/ تموز الماضي، وكان اهتزازها آنذاك في حاله القصوى، وما أن وضعت الحرب أوزارها محملة بما وصلت إليه من نتائج مذهلة ووقائع يومية صاعقة على العدو، حتى تحركت تلك القناعات والأفكار تشق طريقها باطمئنان يقطع التردد ويثبت العزيمة لتؤكد أن عزة الانسان وكرامته تصنع المعاجز.
فقبل الحرب كانت المجتمعات العربية والإسلامية قاسية على نفسها، تجلد ذاتها وتحقر قدراتها وتشعر بعدم الجدوى من أي عمل أو حراك.
في مقابل ذلك، كان هناك تهويل مرعب لقوة العدو وتضخيم متعمد لما يملكه من أسلحة وتكنولوجيا ومعلومات وخطط وإتقان في ميدان العمل والتنفيذ.
أما بعد ذلك التاريخ ومع مواصلة العدو اتهاماته الداخلية المتبادلة وترامي الهزيمة بين أقطاب نظامه السياسة والعسكرية فإن للقناعات طعماً آخر، وللأفكار التي تتسارع لتأخذ مكانها في عقل الفرد والمجتمع لوناً مختلفاً عما كانت عليه، فتلك الحرب كانت حربا حقيقية تخوضها الأمة ضد أشرس عدو لها، ونتائجها تستعصي على الإخفاء، وإن كنت اخشى أن تتحول أنظار الأمة من قضيتهما ومعركتها الرئيسية إلى بعض المعارك الجانبية والجزئية.
لقد بدأ الإعلام الأميركي والبريطاني والإعلام الأوروبي عموماً يحرف بوصلة العالم تجاه ما أعلنت عنه بريطانيا من محاولة إرهابيين تفجير طائرة كانت تتجه من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأميركية، وأصبحت هذه القضية مع ما يرافقها هي الشغل الشاغل للإعلام الأوروبي بعد أن كانت الشاشات تمتلئ بأخبار الجنوب اللبناني الشامخ والمقاومة الإسلامية في فلسطين، وذلك ليحجّم النصر، ويعيدنا إلى موقع المتهم والمطارد.
أما في الجانب العربي والاسلامي فهناك اشغال للرأي العام بحديث الرئيس الأميركي بوش عن فاشية المسلمين، وتحويل ذلك إلى سجال وحرب بغية تحقيق بعض الانتصار الذي يلهث الجانب العربي للحصول عليه في هذه الظروف ولأسباب معلومة، إنه لغريب أن يصعد الموقف (كلاميا وإعلاميا فقط) مع بوش لوصفه المسلمين بالفاشيين، في حين يلتزم الصمت واللين والعقلانية بحسب الادعاء حين كانت الطائرات تقصف (بقرار أميركي) أطفال لبنان ونساءه ولاجئيه، وكأن التعامل مع أرواح المسلمين بهذه الطريقة ليس جديرا بأن يحرك الغيرة والحمية على الإسلام وأهله.
أعود لأقول إن محصلة المعركة الحقيقية بين المقاومة الإسلامية في لبنان والجيش الورقي الإسرائيلي ستحرك مسارات كثيرة وستقود إلى تغيرات مذهلة في لبنان وجواره وغير جواره.
ففي لبنان ستحدث تغيرات جذرية (اجتماعية وفكرية وسياسية) كثيرة ومزلزلة لست بصدد الحديث عنها، لكن أكثرها اثارة للجدل هو سلاح المقاومة، التي سيتعين عليها أن تكمل منظومتها الحربية الدفاعية عن أرض لبنان وشعبه، فعلى رغم كل الإثم والفحش الذي يقال عن سلاحها (الشريف) كشفت المعركة بسالة منقطعة النظير في الحرب البرية، وقدرة توضع في الاعتبار من ناحية البحر، لكن ثغرة الجو كلفت لبنان وشعبه الكثير من التضحيات ما يستدعي سرعة العلاج وإحكام المنظومة الدفاعية عن لبنان برا وبحرا وجوا.
أما في جوار لبنان فما أنجزته المقاومة من نصر على ترابها سيحرك الجوار الذي تذله «إسرائيل» وتكبله باتفاقاتها الجائرة؛ لأن الشعوب تيقنت أن النصر يمكن أن يتكرر كما تكرر في لبنان مرتين في العام 2000 حين خرج الاحتلال تحت ضغط عمليات المقاومة، وفي مواجهته المفتوحة 14 أغسطس/ آب الجاري.
نعم لابد من الأخذ بالأسباب والمقدمات التي ساهمت في هذا النصر المبين، التي لن تحصل لشعب آخر على الفور وبشكل سريع، لكن روح النصر في لبنان ستكون قادرة على العدوى وإن احتاجت إلى بعض الزمن والوقت كي ترتب المجتمعات المجاورة أولوياتها، أو تفكر أنظمتها بشكل جاد في تغيير وضعها واسترداد حقوقها.
في هذا السياق، يجب أن يكون لكلمة الرئيس السوري بشار الأسد معنى يحمل في داخله آلية تطبيقه حين أشار إلى أن الجولان ستسترد بسواعد الشعب، فليست هناك فرصة أمام سورية وشعبها أثمن من هذه الفرصة، ولم يكن شعبها ولا العالم العربي والإسلامي يشعر بعنفوانه وزهوته كما هو اليوم، كما لم يكن الإسرائيلي في أشد حالات الإحباط والانكسار والخيبة كما يعيش اليوم ذليلا خاسئا بفعل ضربات المجاهدين وعزيمة الشرفاء.
أما ما هو أبعد عن جوار لبنان فهو الشعب العراقي الذي لابد أن يفكر ملياً (وهو أخبر بواقعه) في الوجود الأميركي الذي يفرخ الإرهاب في أرض الرافدين.
إن الواقع الطائفي الدامي في العراق هو نتاج طبيعي ومقصود للأميركيين الذين يدنسون العراق، إنه مخطط الشرق الأوسط الجديد الذي يقضي بقيام ثلاث دول في العراق كردية وشيعية وسنية، وهذا لا يعني تبرئة الأفكار المتطرفة التي لها تاريخ طويل وساحات كثيرة تحرض فيها على الكره والطائفية، لكن اعتقادي هو أن البنادق إذا توجهت إلى المحتلين في بلاد الرافدين فإنها ستستهدف (حقا) السبب الرئيسي للفرقة والشقاق، فالأميركيون لم يأتوا للعراق كرامة لأعين الشيعة ولا حباً في الوجود السني ولا خدمة للحقوق الكردية، بل جاءوا لتمزيقه وتفريقه وتناحره، ليتسنى لهم بعد ذلك أن يرسموا العراق كما يريدون لا كما يحب أهله.
الأميركيون هم أبشع الخلق بامتياز وأحبهم للدم ورأس كل دمار، وهم شركاء في كل جريمة بحق البراءة والإنسانية، هم الذين قدموا إلى أطفال لبنان قنابلهم الذكية ومثلهم لن يهدي للشعب العراقي الورود والحرية
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1445 - الأحد 20 أغسطس 2006م الموافق 25 رجب 1427هـ