يواجه لبنان حالياً أكبر كارثة بيئية في تاريخه، وبحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة أكبر كارثة بيئية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، إذ أدى ضرب الصهاينة في بداية العدوان الصهيوني لإحدى محطات طاقة بيروت إلى انسكاب آلاف الأطنان من النفط الثقيل في البحر وانتشار الأدخنة السامة على مساحات واسعة من لبنان، إذ تم ضرب محطة طاقة «جعية» وخمسة خزانات وقود تابعة لها، وتقع على بعد 20 كيلومتراً جنوبي بيروت وعلى مسافة قريبة من الساحل اللبناني، في 13 و15 يوليو/ تموز الماضي، وبحسب تقديرات المسئولين اللبنانيين فقد سرب أحد الخزانات نحو 15 ألف طن من النفط وصل منه نحو 10 آلاف طن إلى البحر وبدأ بالانتشار على الساحل إلى الشمال من المحطة بفعل الريح، بينما احترق خزان آخر يحتوي على 25 ألف طن من النفط مكوناً سحابة سوداء من الأدخنة السامة غطت سماء بيروت والكثير من المناطق اللبنانية.
وبسبب العدوان الجوي المستمر والحصار البحري للبنان لم يستطع اللبنانيون أو المنظمات العالمية المسئولة عن البيئة التدخل لوقف أو معالجة الوضع حتى صدور قرار وقف إطلاق النار بسبب الحصار المفروض. وقد وصف أحد مسئولي الأمم المتحدة الوضع بأنه «مذبحة بيئية»، وحذرت الكثير من المنظمات البيئية الحكومية وغير الحكومية من أن عدم التحكم في هذا التسرب قد يكون من أكبر الكوارث البيئية التي حصلت في منطقة شرق المتوسط.
وتبيّن صور الأقمار الصناعية ليوم 3 أغسطس/ آب الجاري أن التسرب النفطي قد انتشر بطول يصل إلى نحو 140 كيلومتراً وبعرض نحو 20 كيلومتراً، وبأنه بفعل الرياح انتقل إلى الشمال إلى عشرات الكيلومترات من السواحل السورية، وأن نحو 80 كيلومتراً من الـ 220 كيلومتراً من السواحل اللبنانية قد تأثرت بهذا التسرب، أي نحو ثلث طول الساحل اللبناني. وتخشى المنظمات البيئية أن يؤثر هذا التسرب على قبرص وتركيا واليونان.
ويقول منسق مجموعة عمل التسرب النفطي، وهي ائتلاف للمنظمات البيئية اللبنانية تم تشكيله أثناء العدوان على لبنان، وائل حميدان: «نحن في حال دمار كامل لبيئتنا البحرية، على رغم أن الانسكاب النفطي قد حصل منذ أكثر من أربعة أسابيع لم يتمكن أحد من البدء في عملية التنظيف، وكل يوم يتم التأخر فيه في عملية التنظيف يتصاعد الضرر بشكل كبير وسيكون التنظيف أصعب، إذ سيبدأ النفط في الالتصاق بالصخور والتسرب في الرمال وينتشر أكثر في البحر وقاع البحر، ولذلك قررنا كمنظمات غير حكومية التحرك سواء كان هناك وقف لإطلاق النار أم لا، وبسبب عدم استطاعتنا استخدام الزوارق بسبب الضرب الإسرائيلي والحصار قررنا البدء في تنظيف الساحل اللبناني».
ويضيف «سنعاني من هذا الضرر لعقود مقبلة وسيؤثر ذلك على أنظمتنا الحيوية لكثير من السنوات المقبلة».
وتشير التقارير إلى أن الحكومة اللبنانية استطاعت أن تمنع مزيداً من التسرب من خزانات الوقود من الوصول إلى البحر بعمل حواجز أرضية وكذلك إخماد النيران التي كانت مشتعلة لمدة 12 يوماً في خزان الوقود، إلا أن جميع محاولات المنظمات الدولية مثل «منظمة الأمم المتحدة للبيئة» و«منظمة خطة عمل المتوسط» و«المركز الإقليمي للاستجابة لطوارئ تلوث البيئة البحرية» في مالطا لاحتواء هذا التسرب أو عملية التنظيف قد باءت بالفشل بسبب عوائق الكيان الصهيوني.
وبحسب وزير البيئة اللبناني يعقوب صراف، فإن التأثير لهذا العدوان لم يكن فقط على البيئة البحرية بل كذلك من الحريق الهائل الذي شب في خزانات الوقود لمدة 12 يوماً قبل أن يتم إخماده، وما صاحبه من انبعاثات غازية سامة ومواد عالقة وصلت إلى بيروت غطت نحو ثلث مساحة لبنان وسجلت حالات تقيؤ وإغماء وزيادة أمراض الجهاز التنفسي وخصوصاً لدى الأطفال والمسنين.
كذلك أدى تسرب النفط إلى قتل الأسماك وتغطية وتلوث الكثير من الحيوانات البحرية والطيور بالنفط قبالة الساحل اللبناني، مهدداً بعض هذه الأجناس بالانقراض، ويمكن النظر إلى الأسماك الميتة والمغطاة بالنفط بوضوح على ساحل ضاحية الرملة البيضاء ببيروت.
ويتوقع خبراء البيئة أن تكون أول الضحايا لهذه الكارثة صغار السلاحف الخضراء المتوسطية، المهددة أصلاً بالانقراض، والتي تضع بيضها على الشواطئ اللبنانية، ويفقس بيضها في يوليو من كل عام، والتي يخشى ألا تستطيع قطع الساحل الملوث بالنفط لتصل إلى البحر.
كما أنه من التأثيرات البيئية المباشرة للتسرب النفطي التي يتوقعها الخبراء هي تأثر أسماك التونة التجارية ذات الزعانف الزرقاء، وذلك بسبب أن يرقات وبيض هذا النوع من الأسماك يطفو على سطح الماء وبالتالي يتعرض بشكل مباشر للنفط الطافي على سطح البحر، الأمر الذي قد يكون له تبعات على هذه الأسماك في البحر الأبيض المتوسط، إذ تهاجر الأسماك الكبيرة للتونة من المحيط الأطلسي إلى شرق المتوسط وتكوّن تجمعات لوضع البيض هناك، وهذا النوع مهدد بالصيد الجائر إذ تتجاوز كمية الصيد حالياً قدرة هذه الأسماك على التكاثر بمرتين ونصف.
ويقدر الضرر المباشر للأسابيع الأولى الثلاثة من العدوان بنحو 200 مليون دولار وهذه القيمة في تصاعد مستمر، ولقد تضرر بشكل رئيسي قطاعا الصيادين والسياحة اللبنانيان، ومن المتوقع أن يستمر الضرر لسنوات عدة، كما قدرت كلفة التنظيف بنحو 150 مليون دولار وبأن تستغرق من 6 أشهر إلى سنة، وسيحتاج تنظيف السواحل فقط من 34 إلى 57 مليون دولار، وأكثر من عشرة أضعاف ذلك للتنظيف الكلي، ونحو 10 سنوات لإعادة تأهيل البيئة في شرق المتوسط لترجع كما كانت عليه قبل العدوان الصهيوني.
ويشار هنا إلى أن الدولة العربية الأولى والوحيدة التي ساعدت لبنان في هذه المحنة البيئية هي دولة الكويت التي عانت من الكارثة نفسها إبان الغزو العراقي لها في العام 1991، وقامت بإرسال فريق عمل متخصص وثلاث شاحنات تحمل 40 طناً من المواد الخاصة للتعامل مع النفط المنسكب في البيئة البحرية، إلا أنه وبسبب العدوان الهمجي واستمرار الحرب لم يستطع المختصون مباشرة العمل في حينه وظلوا في العاصمة (بيروت) بانتظار قرار وقف إطلاق النار للتحرك.
وبحسب وصف برنامج الأمم المتحدة للبيئة فإن كمية النفط المنسكبة على الساحل اللبناني مقاربة للكارثة التي حصلت مقابل الساحل الفرنسي في العام 1999 حين تسرب نحو 13 ألف طن من ناقلة النفط «إيريكا» في المحيط الأطلسي، والتي غطت نحو 400 كيلومتر من السواحل الفرنسية، وسبّبت تدميراً هائلاً للبيئة البحرية والساحلية، كما أنها مشابهة لكارثة إكسون - فالديز التي حدثت في 1989، عندما تسرب 40 ألف طن قبالة سواحل ألاسكا، والتي تعتبر الحادثة الأسوأ للبيئة البحرية في العالم إذ نفقت مئات الألوف من الأحياء البحرية والطيور، ومازالت الأحياء البحرية والطيور في تلك المنطقة متأثرة إلى الآن من هذا التسرب.
ومن المعروف أنه بعد حرب الخليج الثانية (1991) تم وضع آلية للنظر في الدعاوى البيئية الناتجة عن الحروب، وقدمت الدول المجاورة للعراق دعاواها البيئية للحصول على التعويضات من خلال لجنة الأمم المتحدة للتعويضات، وحصلت هذه الدول على تعويضات مادية بلغت نحو 4.7 مليارات دولار أميركي. ويشار إلى أن لبنان يستعد حالياً لرفع دعوى ضد الكيان الصهيوني للأضرار التي تكبدها من قتل متعمد للمدنيين وتخريب للبنية التحتية مستنداً إلى اعتراف الكيان الصهيوني بضرب هذه الأهداف عن قصد، كنوع من العقاب الجماعي للشعب اللبناني بسبب دعمه للمقاومة، ويمكن أن تمثل الأضرار التي لحقت بالبيئة اللبنانية إضافة لهذه الدعوى
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1444 - السبت 19 أغسطس 2006م الموافق 24 رجب 1427هـ