إنه النصر، نصر الشباب المؤمن المجاهد الذي اشترى الله منهم أنفسهم بأن لهم الجنة، لأنهم كانوا يقاتلون في سبيل الله، فقَتلوا وقُتلوا وارتفعوا إلى مستوى القمة في الجهاد، وامتدوا في أهدافهم الى كل امتدادات الأمة، وعاشوا الحرية من أجل تحرير الأرض والإنسان، وصنعوا القوة التي أراد الله لهم أن يصنعوها في مواجهة الاستكبار الذي أراد أن يفرض على الواقع المتحرك في أوضاعهم عناصر الضعف. إنه النصر، نصر الطليعة الإسلامية التي ارتفعت بأرواحها الى مواقع القرب لله، لتتعبّد له في محراب الشهادة، ولتسبّحه في سلاحها الذي يعرف كيف يحدد أهدافه، ويصوّب مواقعه، فلا يطلقه إلا ضد أعداء الله والإنسانية، فهم يحترمون إنسانية الإنسان فلا يقاتلون إلا الذين يقتلون إنسانية الإنسان، ويذبحون الطفولة على صدور الأمهات، وهم اليهود الذين كانوا يقتلون النبيين ويعيثون في الأرض فساداً، ويتحركون في مجازرهم الوحشية ليهدموا البيوت على رؤوس أهلها، حتى الأطفال، ويشرّدوا الناس من أرضهم ليصادروا أوطانهم، هؤلاء العنصريون الذين لا يحبّون أحداً ولا يفكرون إلا بأنفسهم، ويستبيحون البلاد والعباد. إنه النصر الذي صنع للإسلام الحيّ المنفتح على الإنسان كله، وعلى الحرية كلها تاريخاً جديداً يضيف إلى «بدر» بدراً إسلامية جديدة، ويصنع في «خيبر» الجديدة فتحاً جديداً يقتحم القلعة المحصّنة بأنواع الأسلحة المتطوّرة التي زوّدت بها الإدارة الأميركية المستكبرة الصهاينة في فلسطين، ليقتلوا بها العرب والمسلمين، وخصوصاً اللبنانيين والفلسطينيين. لقد ربح شباب المقاومة الحرب عندما بدأوا قتال جنود العدو وجهاً لوجه، وعندما دمّروا دباباته المتطوّرة، وجرافاته المتقدّمة، وقصفوا مستوطناته بصواريخهم المباركة ما لم يتوقع العدو أن يواجه مثله في كل تاريخه الذي أسقط فيه الواقع العربي وهزم جيوشه، فكانت الطليعة الإسلامية هي التي أعادت للعروبة عزتها، وللإسلام عنفوانه، وللعرب والمسلمين كرامتهم في عملية الانتصار الذي غسل آثار هزائم العرب الماضية. لقد كانت الحرب حرب أميركا التي خططت لها من خلال حليفتها «إسرائيل» التي أرادت أن تكون يدها الضاربة في المنطقة، من أجل أن تنفّذ مشروعاتها الاستكبارية ضد الشعوب للسيطرة على مقدّراتها السياسية والاقتصادية والأمنية... وقد كانت الخطة الموضوعة لحرب لبنان سابقة على هذا التاريخ، من أجل انتظار الفرصة السانحة المبررة لذلك، من أجل تدمير لبنان ولاسيما «جبل عامل» وإسقاط المقاومة التي استطاعت أن تربك سياستها في لبنان الذي أرادته قاعدة لنفوذها، وساحة لضغوطها على أكثر من محور في المنطقة، وموقعاً لحماية أمن «إسرائيل» الذي التزمته بالمطلق ولم تلتزم غيره من أي بلد، بما في ذلك لبنان الذي أفسحت المجال فيه للمخابرات الإسرائيلية المتحالفة مع مخابراتها لتغتال فيه من تشاء، وتحرّك الفتنة فيه بألاعيبها المخابراتية الموسادية، وتوظّف فيه من تشاء من العملاء على أكثر من صعيد سياسي طائفي أو مذهبي أو حزبي، ولعل الجميع يعرف أن أميركا منعت الحكومة اللبنانية من تقديم شكوى الى الأمم المتحدة عند اكتشاف الخلية المخابراتية الإسرائيلية التي قامت بأكثر من عملية اغتيال للمجاهدين في صيدا وبيروت. وها نحن نستمع الى رئيس حكومة العدو وهو يعلن تهديده لقيادات المقاومة الإسلامية وعناصرها، بملاحقتهم بالاغتيالات في كل زمان ومكان من خلال أجهزة مخابراته التي ستمتد في لبنان برعاية من السفارة الأميركية وحمايتها، وتشجيع من عملائها، من دون أن نسمع أي اعتراض أو إنكار من الإدارة الأميركية والإدارات الغربية التي كانت ولاتزال تتحدث عن «بقاء المخابرات السورية في لبنان وخطورتها على أمنه»، لأن الغرب بكل دوله التي شجّعت العدو على قتل اللبنانيين وتدمير وطنهم، لا يرى في حركة الموساد وعبثه بلبنان أية مشكلة سياسية أو أمنية، لاسيما ضد المقاومة، لأنه ينفّذ خططه في العقدة التي يحملونها ضد العرب والمسلمين. وهذا هو الذي تتمثّل فيه الكذبة الكبرى التي يقدّمها الغرب في حقوق الإنسان وحريات الشعوب، أو في شعار الحرب ضد ما يسمّونه الإرهاب والذي تمارس أميركا و«إسرائيل» فيه إرهاب الدولة الوحشية ضد الشعوب، ولذلك فهم يشجّعون الاحتلال ومحاربة حق الشعوب في مواجهة المحتل، ولاسيما الشعب الفلسطيني الذي اعتبروا مقاومته إرهاباً، بينما اعتبروا الوحشية اليهودية ضده دفاعاً عن النفس. والى جانب ذلك، ما نتمثّله في الشعب العراقي والأفغاني، والشعب اللبناني حديثاً، إذ اعتبروا كل هذا الدمار الذي أصابه، وكل هذه المجازر من قِبل اليهود بحق أطفاله ونسائه وشيوخه «دفاعا عن النفس»، ولذلك أجمعت مؤتمراتهم ومجلس أمنهم على رفض وقف إطلاق النار إلا بشروطهم الخاصة. لقد تحدث الرئيس الأميركي بعد انتهاء المعركة أن المقاومة «انهزمت» وان العدو «انتصر»، على طريقته في صنع الأكاذيب التي لا يمكن أن يصدّقها أحد، لأنه لو تكلم بالصدق وتحدث عن الحقيقة التي صرّح بها بعض مسئولي العدو من سياسيين وعسكريين، لعرف أن «إسرائيل» قد انهزمت في ساحة المعركة، على رغم من اللعبة السياسية في مجلس الأمن التي انطلق الغرب فيها مع التابعين له لإعطاء «إسرائيل» بعض ما يحفظ لها ماء وجهها، وليمنح حكومتها الدفاع عن نفسها أمام شعبها، وليطوّق لبنان ببعض القيود التي تربك أوضاعه الداخلية، وتفسح المجال لبعض التعقيدات السياسية أو الطائفية لإيجاد بعض حالات الإرباك التي يحاول البعض أن يخطط فيها لفتنة داخلية، أو لحرب أهلية لايزال اللبنانيون يرفضونها. ومما يضحك الثكلى أن بعض المسئولين في واشنطن يصرّح بأنه «ليس هناك بلد يدعم مصالح لبنان أكثر من الولايات المتحدة»... وإننا نسأل، ويتساءل اللبنانيون معنا: أيّ مصلحة للبنان في تسليط «إسرائيل» عليه لتدمّر بنيته التحتية، ولتقتل أطفاله ونساءه وشيوخه، ولتهدم بيوته على رؤوس أصحابها، ولترتكب أبشع المجازر الوحشية بحق أهله، ثم تمتنع في قرار الأمم المتحدة عن وقف إطلاق النار بشكل فوري؟، أما حديث الرئيس الأميركي عن المقاومة المسلّحة بأنها «دولة في داخل الدولة»، فهو كلام مناف للواقع، لأن فريق المقاومة هو جزء من الدولة، سواء في داخل الحكومة أو المجلس النيابي، وهو لم يحرّك سلاحه للضغط على أيّ موقع داخلي سواء أكان رسمياً أو شعبياً، بل كل منطقه أنه سلاح للدفاع عن الوطن في مواجهة عدوان «إسرائيل»، وهو ما قام به كرد فعل على الحرب التي شنّها العدو على لبنان، فهو لم يبدأ القتال بل جاء قتاله وقصفه للمستوطنات في فلسطين المحتلة بعد قصف العدو للجنوب ولأكثر من منطقة، وتدميره للبنية التحتية للبنان... أما خطف الجنديين الإسرائيليين فإن من السذاجة السياسية اعتبار هذه الحرب ناتجة عنه، لأنه سبقت هذه التجربة تجارب أخرى لإطلاق الأسرى، واستجاب العدو لها من دون حرب، ولو كانت أميركا مخلصة وداعمة للبنان لتدخّلت في حلّ هذه المشكلة بالطريقة التي تحفظ للبنان أمنه، ولـ «إسرائيل» جنودها، ولكن الخطة للحرب كانت أميركية إسرائيلية، حتى أن بعض المسئولين الصهاينة اعتبر أن أميركا «تستخدم (إسرائيل) لتنفيذ مشروعها الذي أعلنت عنه (رايس)، وهو مشروع الشرق الأوسط الجديد، لا لتحقيق أهداف (إسرائيل) في إطلاق الجنديين والحفاظ على أمنها مستقبلا». وأخيراً، إن عودة العاملين الى أرضهم المدمرة، وطرقاتهم المقطوعة، تمثل مقاومة سياسية للعدو ولأميركا في الخطة التي كانت تريد ابتزاز لبنان وشعبه في مسألة عودة النازحين الى بيوتهم بالشروط الإسرائيلية... إن أهل جبل عامل عاشوا في كل تاريخهم الارتباط بأرضهم في كل عدوان العدو في الماضي، ولا يزالون يعيشون المقاومة في أبنائهم وفي صمودهم وتحدياتهم، وفي التزامهم بقضية الحرية التي تواجه كل الذين يستعبدون الشعوب. وإننا بهذه المناسبة ندعو كل أطياف الشعب اللبناني والشعوب العربية والإسلامية الى دراسة هذه التجربة الرائدة في الصراع مع «إسرائيل»، في هزيمتها في سلاحها المتطوّر، وفي رفض السياسة الأميركية الاستكبارية التي تعمل للضغط على الشعوب لمصالحها الاستراتيجية ضد مصالح المستضعفين، لأن هذه التجربة تمثل تجربة جديدة لا بد من التعمّق في وسائلها وأساليبها، والتعامل مع امتداداتها في كل معركة فيها للحق قضية ضد الباطل، وللخير ضد الشر، لتتحرك المقاومة في كل عالم الدكتاتوريات التي يدعمها الاستكبار لتحويل الأوطان الى سجون للشعوب. وكلمة أخيرة للبنانيين الذين يعتبرون أن «إسرائيل» هي العدو: إن عليهم إذا كانوا جادّين في ذلك أن يحافظوا على سلاح المقاومة، وأن يكونوا جنباً الى جنب مع المجاهدين، لتكون المقاومة مقاومة لبنان كله في مواجهة أيّ موقع عدواني إسرائيلي... وعليهم أن يدرسوا تاريخ «إسرائيل» مع لبنان الذي كانت فيه هي الدولة العدوانية منذ أن احتلت فلسطين، ولذلك كنا نقول: كان ينبغي على المجتمع الدولي إن يقرر نشر القوات التي تحمي لبنان من «إسرائيل» على الجانب الفلسطيني، وليست التي تحمي «إسرائيل» من لبنان الذي لم يكن في يوم من الأيام إلا في موقع الدفاع عن أرضه وشعبه وكرامته
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1443 - الجمعة 18 أغسطس 2006م الموافق 23 رجب 1427هـ