العدد 1443 - الجمعة 18 أغسطس 2006م الموافق 23 رجب 1427هـ

روث بقر

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

نفى نائب رئيس الوزراء البريطاني جون بريسكوت ما نقلته صحيفة «الاندبندنت» عنه حين شبه الرئيس الأميركي جورج بوش «براعي بقر يرتدي قبعة الكاوبوي». فنائب طوني بلير انكر التهمة مؤكداً أنه لم يذكر بتاتاً ما نقل عنه، كذلك لم يشر إلى أن سياسة أميركا بين الإسرائيليين والفلسطينيين تشبه «روث البقر». هذا الكلام ربما لم يذكره نائب بلير علناً ويرجح أنه قاله في الخفاء وداخل الغرف السرية. ومثل هذه القراءة للسياسة الأميركية في منطقة «الشرق الأوسط» لم تعد تقتصر على نائب بلير فقط وإنما تحولت إلى لسان حال الكثير من السياسيين في العالم وتحديداً في أوروبا. فالعالم وصل فعلاً إلى مرحلة الاشباع من سلوك ارعن تقوده حفنة شريرة في «البيت الأبيض». ولم يعد بامكان زعماء أوروبا وقادة الأحزاب وكل صاحب رأي مستقل أن يتحمل أو يتقبل تلك الأكاذيب بشأن السياسة الأميركية في دائرة «الشرق الأوسط» التي لم يحدد قطرها الجغرافي حتى الآن. فكل فترة تطلع إدارة واشنطن بصيغة جديدة وتسمية مختلفة. مرة تقول إنها «الشرق الأوسط». ومرة تدمج «الأوسط» بـ «الأدنى». ومرة تطلق عليه «الكبير» ومرة «الصغير» وأخيراً «الجديد». وهكذا. فالناس مجرد «بقر» برأي راعي البقر وهي لا علاقة لها بما يخطط من مشروعات. وكل هذا يحصل باسم «الديمقراطية» و«العدالة» و«الحرية» و«حقوق الإنسان». وبرأي راعي البقر أنه يفهم أكثر من أبناء المنطقة ويعرف مصالحها أكثر من شعوبها وهو انتدب نفسه للقيام بمهمة تاريخية يصعب على جهلة مثل شعوب «الشرق الأوسط» معرفة اسرارها قبل حصولها وتوصله إلى تلك الغايات القريبة والبعيدة. هذا النوع من الادعاء دفع الكثير من السياسيين في أوروبا والعالم إلى نقد الاستراتيجية الأميركية والتهكم عليها والسخرية من نتائجها. والكلام الذي نقل أمس الأول عن نائب بلير ليس مستبعداً. فالكل بات في موقع محرج ويصعب على انصار واشنطن الدفاع عن مواقفها أو تفسيرها أو تأويلها. العالم فعلاً وصل إلى مرحلة الاشباع ولم يعد يملك قدرة على تحمل المزيد من الأكاذيب وتكتيكات الخداع. وما قاله بريسكوت عن «الروث» و«الكاوبوي» ليس غريباً ولا جديداً لأن مثل هذه السياسة الأميركية الرعناء لا يمكن وصفها إلا بمثل هذه الكلمات.

المشكلة باقية

إلا أن المشكلة ستبقى في مكانها مادامت هذه الإدارة قابعة في «البيت الأبيض». فهذه الحفنة الشريرة التي تعتبر نفسها مكلفة من الأعلى وتقوم بمهمات مقدسة وعلى الناس تحمل الأخطاء والكوارث والاهانات والعذابات والآلام. فالرسالة التاريخية برأي هذه الحفنة الحاقدة والكارهة يصعب فهمها من ناس لا يدركون مصالحهم ولا يعلمون ماذا يحصل بسبب نقص في عقلهم ووعيهم... ولذلك على المنطقة أن تتحمل الحروب والقتل والمجازر والمذابح والتحطيم والتفكيك والتشطير حتى تنجح المعادلة الكيماوية البشرية التي رسمت خريطتها السياسية تلك المجموعة الشريرة. تنطلق المجموعة الحاكمة في واشنطن من فكرة بسيطة وهي أن منطقة «الشرق الأوسط» تتشكل من بيئة جغرافية مناخية غير صالحة لنشوء دول سياسية تتألف من أقوام وقبائل وطوائف ومذاهب. وترى المجموعة أن الدول القائمة حالياً لا تمثل فعلاً واقع شعوب المنطقة. لذلك وبرأي هذه الحفنة الشريرة أن الدول الحالية فشلت في تحقيق التنمية أو القبول بمبدأ الديمقراطية بسبب تركيبها الديموغرافي (السكاني) الذي جمع أقليات إلى أكثريات فانتهى الأمر بتحكم الأكثريات بالأقليات. كذلك ترى أن الدول الحالية التي رسمت حدودها السياسية فرنسا وبريطانيا في نهاية الحرب العالمية الأولى ضمت مجموعات اتنية ومذهبية وطائفية في دائرة سياسية واحدة الأمر الذي عطل على الدولة امكانات التطور أو التمثيل النسبي للتوازنات المحلية. وعلى أساس هذا التحليل لتاريخ «الشرق الأوسط» ترى حفنة الاشرار في «البيت الأبيض» أن الحل الأمثل هو العمل، ولو عن طريق القوة والعنف، على تفكيك هذه الدول «الفاشلة» والبدء في تأسيسها من جديد انطلاقاً من تفكيكها إلى دويلات تتناسب أو تتوافق مع طبيعة الاجتماع البشري. فالدولة برأي هذه الزمرة الشريرة يجب أن تكون على هيئة الناس وعليها أن تكون متجانسة مع القاعدة الاجتماعية للجماعات التي تعيش في دائرتها. هذا التحليل أدى إلى تشكيل قناعات ثابتة لدى الإدارة الأميركية بأن سياسة العنف (التقويض) تشكل الأسلوب الأمثل حتى لو أدت إلى اشعال الفتن والحرائق وتفخيخ المساجد والكنائس ومراكز العبادة وقتل الأبرياء وارتكاب المجازر. فهذا النوع من القتل العشوائي يعتبر ضرورة سياسية برأي الأشرار للاسراع في تنفيذ المشروع التقويضي (التفكيكي) لمنطقة تتداخل فيها الطوائف والمذاهب والقبائل. وبالتالي على الدول السياسية الجديدة أن تعكس هذا الواقع السيوسيولوجي المفكك. إنه «الشرق الأوسط الجديد» كما قالت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس تعليقاً على بدء العدوان على لبنان. وحتى يكون الوعد اسرع من المتوقع لابد من مخاض دموي ينتج الاوجاع والآلام ولكنه في النهاية يؤدي إلى ولادة مشروع يتناسب مع هيئة الأب والأم. هذه الاستراتيجية قررتها كما يبدو الإدارة الأميركية في منطقة «الشرق الأوسط» منذ العام 2001. وفي ضوء أهدافها التقويضية بدأت الخطة في أفغانستان (فانتصرت القبائل) ثم العراق (فانتصرت الطوائف) ثم في لبنان (فانكسرت الدولة) وبعدها لا يعرف أين سيتجه «المخاض». المحصلة العامة حتى الآن تنطبق إلى حد كبير مع ذاك الوصف الذي أطلقه نائب بلير على سياسة بوش: «روث بقر»

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1443 - الجمعة 18 أغسطس 2006م الموافق 23 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً