في العام 1907 عقدت الحكومة البريطانية برئاسة رئيس وزرائها كامبل بانرمان مؤتمراً جمع فيه رجال السياسة في الحكومات الأوروبية الاستعمارية وذلك للخروج برؤية موحدة إزاء المشرق العربي، وتبلورت هذه الرؤية في تقرير مفصل أهم ما جاء فيه: «. .. ان الخطر ضد الاستعمار يكمن في البحر المتوسط، فعلى الشواطئ الشرقية والجنوبية لهذا البحر يعيش شعب واحد له وحدة التاريخ والدين واللغة وكل مقومات التجمع والترابط، هذا فضلا عن ثرواته الطبيعية ونزعته للتحرر... فيجب على الدول ذات المصالح المشتركة ان تعمل على استمرار تجزؤ هذه المنطقة... وتقترح اللجنة لذلك إقامة حاجز بشري قوي وغريب... بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة للاستعمار وعدوة لسكان المنطقة». تلاقت المصالح الاستعمارية للقوى العالمية آنذاك مع الأطماع الصهيونية، فعملت بريطانيا على ان يكون الصهاينة هم الحاجز البشري الغريب في فلسطين وعملت على تحقيق ذلك ابتداءً من وعد بلفور، مروراً بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين أثناء الانتداب البريطاني، وانتهاءً بتبني المقترح الذي قدمته لجنة بيل البريطانية والقاضي بتقسيم الاراضي الفلسطينية بين العرب المواطنين واليهود المستوطنين، وتولت الولايات المتحدة الأميركية فيما بعد مسئولية ان يكون ذلك الكيان قوياً ابتداءً من الضغط على مجلس الأمن للموافقة على التقسيم، مرورا بالاعتراف بهذا الكيان الغاصب كدولة في الخريطة الجغرافية، وانتهاءً بتزويده بالعتاد والسلاح ليمثل كيانا للرعب والإرهاب في المنطقة. أصبح العرب وحدهم المعنيين في مجابهة هذا الكيان، وخصوصاً بعد إعلان قيام دولته المعروفة بـ «إسرائيل» العام 1948، ومن ذلك التاريخ بدأت المجابهة العسكري بين الطرفين في حروب طويلة، فالأولى منها بدأت في اليوم التالي لإعلان قيام هذه الدولة في 15 مايو/ أيار 1948، واعتراف الدول الكبرى بها، فدخلت الجيوش العربية إلى فلسطين اذ تولى الجيش المصري مسئولية قطاع القدس، والجيش السوري القطاع الشرقي، والجيش اللبناني القطاع الشمالي، فيما تولى الجيش العراقي أمر القطاع الأوسط، تمكنت تلك الجيوش بمساندة من المتطوعين من العرب من تحقيق انتصارات أولية، لكن الرؤساء العرب أذعنوا لضغط الدول الكبرى لفرض الهدنة التي أتاحت لـ «إسرائيل» التزود بالأسلحة الأميركية، وما أن استأنفت الحرب حتى باغت الجيش الإسرائيلي العرب بهجمات سريعة مكنته من حسم المعركة لصالحه. هذا الانتصار جعل «اسرائيل» بكل ثقة تدخل في حرب ثانية مع العرب، اذ اشتركت مع بريطانيا وفرنسا في هجوم جوي على مصر عرف بالعدوان الثلاثي العام 1956، في أعقاب قيام عبدالناصر بتأميم قناة السويس، لكن المناخ السياسي الدولي لم يكن يسمح لهذه الحرب بالاستمرار، وخصوصاً في ظل الصراع السوفياتي الأميركي في إطار ما عرف بالحرب الباردة، اذ سارع السوفيات الى إعلان مساندة عبدالناصر، فقطعت عليه الولايات هذا المخطط وذلك بالضغط على الجيوش الثلاثة بالانصياع الى قرار مجلس الأمن الصادر في 23 مارس/ اذار 1956 الرامي الى وقف الحرب، وعلى رغم ان العرب لم يحققوا أي انتصار مادي في الحرب، لكنها رفعت من رصيد الرئيس جمال عبدالناصر عربياً ودولياً اذ شهد له بالوقوف في وجه الدول الكبرى في سابقة عربية غير مشهودة لها سابقا. لكن النشوة لم تدم اذ سارعت «إسرائيل» بحرب ثالثة مباغتة استمرت 6 أيام فقط، شنت في 5 يونيو/ حزيران 1967 عدواناً على ثلاث دول عربية مصر والأردن وسورية، وكان من نتيجة هذا العدوان ان احتلت «إسرائيل» الضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء والمرتفعات السورية (هضبة الجولان) كما انها سيطرت على جميع التراب الفلسطيني بعد ان امتدت الى قطاع غزة، هذه النكسة التي مني بها العرب عجلت بهم الى شن حرب رابعة لحفظ ماء الوجه، فكانت حرب العاشر من رمضان 10 أكتوبر/ تشرين الأول 1973، في ساعات الحرب الأولى تحول الحلم الى حقيقة، اذ استطاع الجيش المصري اجتياز قناة السويس وتدمير خط بارليف على الضفة الشرقية من القناة، لكن ما ان أفاقت «إسرائيل» من هول الصدمة حتى حولت ميزان القوى لصالحها بمساندة قوية من الولايات المتحدة الأميركية، ما أدى الى إرباك الجبهة العربية التي سارعت إلى وقف الحرب، وفوق ذلك كله سارع بعدها الرئيس المصري السابق أنور السادات الى الاعتراف بـ «إسرائيل» عبر توقيعه معاهدة السلام، هذا الأمر اشعر «إسرائيل» بأنها القوة التي لا تقهر في المنطقة، وهي التي تقرر متى تبدأ الحرب ومتى يبدأ السلام الذي تريده، هذا الكبرياء دفعها إلى بدء حرب خامسة نحو وجهة أخرى من بلاد العرب وهي الاراضي اللبنانية، اذ اجتاحت بيروت في أغسطس/ اب 1982، وأمام بسالة المقاومة اللبنانية انكفأت بقواتها الى أراض الجنوب والبقاع اللبنانية، ومع انسحاب الجيش الإسرائيلي من بيروت واستقراره في الجنوب، أصبحت المقاومة الإسلامية الجناح العسكري لحزب الله وإلى يومنا الحالي هي الأكثر فاعلية ومقاومة للعدو الإسرائيلي اذ استطاعت دحره حتى حدود شبعا في مايو 2000. صمود جبل عامل بلبنان الذي يسميه الإسرائيليون بأرض اللعنة وفقا لكتبهم وأسفارهم المقدسة لم يمنعهم من الزج بقواتهم في حرب سادسة مراهنين على المال والسلاح اللذين بأيديهم فاستحكم بهم الغرور، لكن ظنونهم لم تكن في محلها اذ لم تمنع قوتهم من إرادة الحق وسيوف المجاهدين المؤيدين بنصر الله سبحانه. وهذا ما يشير إليه عز وجل في كتابه الحكيم «وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فاتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بايديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار» (الحشر: 2) فما أشبه اليوم بالبارحة. نعم هذه الحرب غيرت من مسار تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، الإنجاز الذي حققه حزب الله بقيادة قائده التاريخي الفذ السيدحسن نصرالله، جعلته من دون أي شك سيد الحرب السادسة، وهذه الحقيقة لم تأت من فراغ، فقد قرأ السيد معركة اليوم من الأمس ونبه الإسرائيليين بأنهم يدخلون أرضا ستكون مقبرة لجنودهم، مراهنا على النصر والتحمل مهما طالت الحرب وعظمت إذ يقول «مهما طالت الحرب نحن أهلها ومهما عظمت التضحيات فنحن لم نولد إلا من رحمها». هذه الحرب أثبتت سقوطاً إسرائيلياً مزدوجاً في المجالين الأمني والعسكري، وبدأت وكأنها تخوض صراعاً من أجل البقاء، اذ يشير المدير العام السابق بوزارة الخارجية الاسرائيلية شلومو افينيري «ليس هناك حرب مماثلة لهذه الحرب بين الحروب السابقة العربية الإسرائيلية... الحرب هنا ليست متعلقة بالمستوطنات والأراضي. الجميع يدرك أن الجانب الآخر يريد تدميرنا»، هذه الحرب غيرت من التوازنات الاستراتيجية في المنطقة، وأصبح حزب الله هاجسا بالنسبة إلى الدولة العبرية التي اهتزت ثقتها بكونها الدولة التي لا تقهر فهل ستكون هذه آخر الحروب العربية الإسرائيلية؟ أم أولها بطريقة وانقلبت الآية؟. *كاتبة بحرينية
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 1443 - الجمعة 18 أغسطس 2006م الموافق 23 رجب 1427هـ