على مدى شهر ويومين دارت رحى حرب طاحنة بين (فئة قليلة) و(فئة كثيرة)، على أرض مباركة، شاءت الأقدار أن تكون الغلبة فيها للحق على الباطل لأن الله يحق الحق بكلماته، «ولأن الباطل كان زهوقاً».
على مدى تلك الأيام تسمرنا - نحن البعيدين جغرافياً عن رحى الحرب - عن وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، لتلقف خبراً هنا وخبراً هناك، جاهدين قدر المستطاع أن نتجنب السم المدسوس في العسل، فإذا بنا نقاتل لفرز الحق من الباطل، لولا بقية من ضمير لدى بعض تلك الوسائل، ولولا تطور التقنية التي حالت بين مناصري الفئة الكثيرة أو أتباعها، أو قل: معاندي الفئة القليلة من كتمان الحق كله. لولا هذا وذاك لأختلط الحابل بالنابل، إلا أن لله في خلقه شئون، فإذا بالحقيقة، العصية دائماً على التلاعب والتزوير، تصارع وتغالب وتتغلب كما صارعت وغالبت وتغلبت بذور الحق في وديان الجنوب الشامخ لينتهي بها المطاف على أعالي جباله الشاهقة، رافضة سعي الساعين لسحقها ومحقها، فإذا بركام أبنيتها المكوم في الضاحية بفعل قصف طائرات الشؤم الصهيوني وما حملته من قنابل الحقد الأميركي، يتحول إلى رماد يعمي أبصار الأعداء وبصائرهم، مجسداً وعد الله في حفظ الفئة القليلة «وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون» (يس: 9).
أثير النقع في الجبهة وكان المجاهدون في شغل شاغل، وكنا - نحن محبيهم ومواليهم - في شغل نلهث لنتعرف على انتصاراتهم وابتلاءاتهم، في ظل التعتيم الصهيوني إعلامياً، فكان وعدهم الصادق، وكان وعد الله أصدق «فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة» البقرة: 249).
أجل كانت نتيجة الحرب انتصاراً لـ (الفئة القليلة)، وانكساراً لـ (الفئة الكثيرة) إذا ما استذكرنا أهداف الفئتين في هذه الجولة من الحرب الطويلة، فكان للفئة القليلة بأسر الجنديين الصهيونيين هدف واحد درس بعناية فائقة يتناسب والمرحلة وإمكاناتها وظروفها، هو: تحرير الأسرى اللبنانيين، عبر التفاوض غير المباشر.
وكانت أهداف الفئة الكثيرة كثيرة! فمن تحرير الأسيرين، إلى القضاء على حزب الله، إلى نزع سلاحه، مروراً بدفعه إلى ما وراء الليطاني، وانتهاء بالاكتفاء بتدمير البنية التحتية! والاستعانة بقوات اليونوفيل.
وكان لـ (الفئة الكثيرة) أدوات تتنافس بالفتك المادي والمعنوي، فألقيت على رؤوس الأبرياء والمدنيين ما لا نظير له في الحروب المعاصرة، حتى أصبحت الضاحية ركاماً، والكثير من قرى الجنوب يباباً، وأزهقت أرواح ما ينيف عن ألف من شرفاء لبنان كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً، وكان للأطفال نصيب الأسد، فتجاوزت أعداد الشهداء منهم أربع مئة. فألقى الصهاينة كل ما في جعبتهم من القنابل (الذكية) حتى طلبوا المدد منها من رأس الفئة الكثيرة، أعني (أميركا) فلم تبخل عليهم بما احتاجوه فمرت قنابلهم في مطارات عدة من بعض تلك الفئة الكثيرة من الأبعد والأقرب.
وإلى جانب ذلك كان لإعلام الفئة الكثيرة دور مشهود، فتبارى بعضهم بعضاً، حتى يقال في حقه (اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمى) ظنا منهم أن رحى الحرب لن تطول غير أيام قليلة، لأن الفئة قليلة! والنتيجة محسومة، وكان هذا الإعلام الذي اضطررنا إلى أن نتابعه لسبب وآخر، يستحث جهوده لتصيد ثغرة هنا وأخرى هناك، ليعير بها الفئة القليلة، أو يضعف من جانبها، باتهامها بالمغامرة تارة، وعدم فهم موازين القوى العالمية أخرى، وداء العظمة ثالثة، وبالطائفية رابعة، وبالعمل بأجندة غير عربي خامسة... وللحق أقول كان لهذه التهم والافتراءات في نفوس المحبين والموالين آلام ممضة لا تل عن آلام جراحات الجرحى والمصروعين من قنابلهم في لبنان.
ولأن (النصر من عند الله)، وهو الصادق في وعده «إن الله لا يخلف الميعاد»، ولأن الفئة القليلة محسنة وإن الله يحب المحسنين، وطاهرة والله يحب المطهرين، ومؤمنة وكان حقاً علينا نصر المؤمنين، فكان يجب ان تكون النتيجة أنهم منصورون. كان لهذا منطق الفئة القليلة، كان ذلك هدفها. وكان للفئة القليلة منطق تمثل في: «فأجمعوا كيدكم ثم انثوا صفاً وقد افلح اليوم من استعلى» (طه: 46). وكانت تلك أهدافها.
فلما انقضت أيام الحرب ووضعت أوزارها إذا بالجميع يشهد أن الفئة القليلة لاتزال تحتفظ بالأسيرين، ولازالت قائمة بل أقوى مما كانت عليه، شعبياً، إذ تجاوز احترامها حدود لبنان ليصل إلى كل مكان. وإذا بـ (حزب الله) يخرج مرفوع الرأس أبي الضيم منتصراً. هي المرة الأولى، بل الثانية، التي يتمكن فيها العرب والمسلمون من دحر الصهانية من أرض احتلوها، وصدهم عن عدوان شنوه.
بينما خرجت الفئة الكثيرة تجر أذيال الخيبة يجبن بعضهم بعضاً ويسفه بعضهم بعضاً، فلا أسيرين حررت، ولا أرضاً احتلت، ولا مقاومة سحقت، فأين هو الانتصار؟ ولأن بعضهم (جحود) و(حقود) و(حسود) فهو يصر على أن (المقاومة) خسرت! حتى لو صم الصهاينة آذان الناس أن هذه الحرب حياة أو موت، وأن الهدف منها (القضاء) على حزب الله، ولم يقضوا عليه بل زاد عمره أضعافاً واتسعت قاعدة محبيه، وحتى لو قال شاؤول موفاز: علينا أن نقر بأننا هزمنا في هذه الحرب).
فلا عجب من قوم يراد لهم أن يكونوا رؤوساً فيأبون إلا أن يكونوا أذناباً! ويراد لهم أن يكونوا أحراراً فيصرون على أن يكونوا عبيداً! وصدق رسول الله (ص) إذ يقول: (حب الدنيا رأس كل خطيئة). ولا أقول غير «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين» (النحل: 14).
وأخلص إلى التأكيد ضرورة أن تكسر الأمة القيود بإرادة صلبة لا تلين، وأن تسعى بكل جد إلى أن تملك أسباب القوة، ومنها الإعلام الصادق المنحاز إلى قضايا الأمة والمجتهد لإحقاق الحق وإبطال الباطل. ولا نبالغ إذا قلنا إن الإعلام هو الطلقة الأولى والأخيرة في الحروب - وما أكثرها - التي لا تقف عند البعد العسكري بل تمتد إلى السياسة والاقتصاد والتربية والثقافة ... بل الدنيا والآخرة
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حسن النمر"العدد 1442 - الخميس 17 أغسطس 2006م الموافق 22 رجب 1427هـ