بدأ الجيش اللبناني انتشاره في جنوب نهر الليطاني. هذا الانتشار الذي بدأ أمس يرجح ان يستمر في تموضعه نحو أسبوع أو أكثر بانتظار وصول طلائع القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة (يونيفل). ومن الآن وحتى انتهاء المدة المتوافق عليها لاستكمال تمركز القوات الدولية - اللبنانية من الخط الأزرق (الحدود) إلى الليطاني يمكن توقع الكثير من الاستقطابات السياسية اللبنانية والإقليمية والدولية.
دولياً تجري عملية الانتشار العسكري في الجنوب تحت سقف القرار 1701. وهذا القرار يتضمن مجموعة الغام سياسية تفخخ الوضع الداخلي في حال لم تتجه القوى المحلية إلى تثبيت تفاهمات تنقذ ما تبقى من مرتكزات صمود ومقومات دولة استعداداً لاستحقاقات دولية مؤجلة.
ما حصل في لبنان بعد 12 يوليو/ تموز الماضي ليس حدثاً عادياً يمكن تجاهله أو تجاوزه. فهذا البلد الصغير تغير كلياً ولم يعد كما كان عليه وضعه قبل العدوان الأميركي الصهيوني. كذلك لم تعد المنطقة على حالها كما كانت عليه التحالفات الإقليمية التي تفاهمت على ضمان استقرار لبنان ومنع تفككه الأهلي/ السياسي.
الأمور دخلت في نفق طويل ومن الصعب التكهن بمصير البلد الصغير من دون معرفة اتجاهات الرياح الدولية والإقليمية في المنطقة. «إسرائيل» تلقت صفعة استراتيجية وفشلت محاولة إعادة تجديد وكالتها الأمنية الإقليمية بعد أن أظهرت ضعفاً في ادائها العسكري الميداني. وهذه الصفعة القوية ستدفع الاحزاب والمؤسسات الصهيونية إلى مراجعة نقدية لنظرية الأمن التي كانت تقوم على فرضية التفوق الجوي. فتل ابيب التي انكفأت بسرعة إلى حدودها بعد الإعلان عن وقف اطلاق النار أخذت تعيد النظر باستراتيجيتها ورؤيتها وأسلوب تعاملها «الفوقي» مع المحيط العربي.
المشروع العربي
عربياً أيضاً لم يعد بالإمكان العودة إلى تلك القرارات التي صدرت مراراً عن القمم. فالدول العربية لابد لها من أن تعيد قراءة توجهاتها السابقة التي لاقت الرفض الصهيوني لكل المبادرات السلمية وآخرها قرارات قمة بيروت. تل ابيب كما يبدو فهمت خطأ كل دعوات التفاوض والسلم التي صدرت تباعاً عن القمم العربية وقرأت تلك الدعوات قراءة خاطئة واعتبرت انها أصبحت في موقع القوة وخصوصاً بعد حرب الخليج الثانية في العام 1991 وحرب الخليج الثالثة في العام 2003.
الدول العربية باتت في وضع يفرض عليها إعادة النظر في تفصيلات تلك المبادرات من دون أن تسقط من حساباتها احتمالات المواجهات العسكرية. فالسلم لا يمكن أن يأتي من دون قوة. والضعف الذي ظهر في السياسة العربية اعطى اشارات فهمت منها الدولة العبرية انها أصبحت في موقع القوي القادر على فرض شروطه مستفيدة من تلك المتغيرات الإقليمية التي ظهرت بعد حرب 1991 وما اعقبها من متغيرات دولية بعد احتلال بغداد وتقويض دولة العراق.
الآن وبعد الذي حصل في لبنان من حرب دمار شامل باتت الدول العربية في طور مختلف يفرض عليها قراءة عقلانية ونقدية تعيد النظر في بعض التفصيلات بقصد إخراج المبادرات في صيغة أكثر وضوحاً وصولاً إلى عدم استبعاد الخيارات الأخرى.
«إسرائيل» التي خسرت فرص السلام منذ العام 1991 إلى العام 2006 تبدو الآن على قاب قوسين من خسارة فرص الحرب بعد تلك التجربة الغنية بالدروس على الجبهة الميدانية في الجنوب اللبناني. وربما تشكل هذه المناسبة فرصة جديدة لإعادة طرح مشروع مبادرة عربية يطرح خيار السلم على قاعدة القوة لا الضعف.
الكيان اللبناني
لبنان الآن امام وضع دقيق. وهو بحاجة إلى نوع من الراحة لإعادة النظر في قواعد اللعبة وما انتجته الهزات من انهيارات داخلية أخذت تهدد صيغة الكيان السياسي. وما حصل في 12 يوليو فاق التوقعات وكان أكبر من قدرة البلد على التحمل وأثقل بكثير من إمكاناته على الرفع. وهذه التجربة الصعبة يمكن أن تتحول إلى مناسبة للتفكير بعيداً عن تلك التجاذبات الإقليمية والتوترات الأهلية.
الثمن الذي دفعه لبنان كان غالياً. ومن حق اللبنانيين رفع صوتهم والاعتراض وطرح الأسئلة والنقاش والدخول في قراءات نقدية عميقة لمعرفة ماذا حصل ولماذا؟ وكيف يمكن الاستفادة من التجربة والسيطرة على الانفعالات وشد الأطراف إلى نقطة مركزية تمنع التسلل أو التفكك.
لبنان الآن وقبل فوات الأوان بحاجة إلى مكاشفة ومصارحة. فالنقد ليس عيباً فهو أصلاً من شروط التطور. والنقد الذاتي ليس إهانة وانما هو خطوة للتقدم نحو عقد مصالحة تاريخية تنقذ البلد من تشنجات أهلية تهدد توازنه القلق. فما حصل يجب ألا يمر مرور الكرام. ولابد من قراءة التجربة على سلبياتها وايجابياتها حتى لا تكون مجرد عاصفة في فنجان.
العدو الصهيوني بدأ يراجع حساباته ويقيم فشله في الغزو الميداني ويدرس الاخطاء والثغرات ويحاول دراسة الأسباب والتعامل مع النتائج في إطار قراءة نقدية لمنع تكرار المشكلات. وهذا النهج تتبعه كل الدول التي تحترم نفسها بغض النظر عن سلوكها السياسي في الخارج. فالتجربة دائماً تحتمل قراءات مختلفة وفيها عناصر تعليمية تساعد على تطوير الخبرات واختصار الكثير من الوقت.
لبنان الآن امام امتحان عسير. فهو إما أن يسكت وينفجر غضباً، وإما ان يتشنج عاطفياً وترتد عليه انقساماته الأهلية، وإما ان يتصارح وتبدأ عملية مكاشفة توضح الكثير من الملابسات. الخيار الأخير هو الأفضل، ولكن الأمور تبدو للأسف ذاهبة إلى وجهات أخرى تقوم على سياقات ليست بعيدة عن اجواء الاستقطابات وسياسات القيل والقال وانا وانت.
وفي حال استمر هذا الوضع المتشنج يتدافع في الاتجاه السلبي فمعنى ذلك ان تجربة 12 يوليو على صعوبتها لم تكن كافية. وحين لا تتعلم القوى السياسية من هكذا تجربة غنية بالعبر والدروس فيجب الا نستبعد تكرارها في القريب العاجل أو في العاجل البعيد
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1442 - الخميس 17 أغسطس 2006م الموافق 22 رجب 1427هـ