العدد 1442 - الخميس 17 أغسطس 2006م الموافق 22 رجب 1427هـ

نصان استشراقيان... وآخر استغرابي

اختلاف القراءة بين المغلوب والغالب

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

من أين نبدأ بقراءة الاستشراق؟ من التاريخ والاحتكاك مع الآخر، من الوظيفة والحاجة إلى معرفة المختلف، من المنهج والتصورات التي يتداخل فيها الخيال مع الواقع، من المعرفة المجردة أو حقل المعرفة الاستشراقية ذاته؟ نقرأه من جهة الوافد (الغالب) إلى الشرق أم من جهة المتلقي (المغلوب)؟ حقول الاستشراق واسعة، ومدارسه متعددة، وانماطه مختلفة، ومحطاته التاريخية متدرجة. ولأن الاستشراق حركة تاريخية مرتبطة بالتطورات الزمنية واختلافها، اختلف الاستشراق وتناقضت نصوصه. فهناك حركات استشراقية وليس حركة واحدة وهناك «استشراقات» متعددة وليس واحداً. بدأ الاستشراق بالاحتكاك، وتطور إلى حاجة، وانتهى إلى وظيفة، ودخل الآن مرحلة الفوات الزمني وتجاوزه التاريخي في عصر لم يعد بحاجة إلى مغامر ليقرأ ومصور ليرسم ومرشد ليدل. فالاختراق حصل وموضوع الهيمنة حسم لمصلحة الغالب. ودراسة الأشياء وتفاصيلها تطورت وتجاوزت العموميات السابقة وأسلوب تنميط شخصية الآخر. فنحن الآن في مرحلة «استشراق» معاصر يولد من رحم استشراق قديم وفي الآن يتجاوزه. نحن الآن في مرحلة الصدام مع مناهج الاستشراق وهي آخر ما تبقى منه. من الصعب أن نلخص الاستشراق بفقرات قليلة، فهو حقول معرفة. وتاريخه يعكس علاقة الوافد ووعيه للآخر وفي الآن يعكس علاقة المتلقي واكتشافه للقادم. حتى نحصر بحثنا في حدود زمنية لابد من قراءة نصوص مختارة تعبر بعفوية عن مرحلتها وتعطي فكرة عن اختلاف قراءة الظالم عن قراءة المظلوم. نختار هنا ثلاثة نماذج كتبت في فترات زمنية مختلفة، لكنها تعطي فكرة عن عصر كاتبها ونظرته إلى الأمور ومراقبته للحوادث واندهاشه باختلاف الآخر. فالنص إذا كتب في زمنه عن حوادث معاشة يختلف في أسلوبه عن نص كتب في زمن لاحق عن حوادث سابقة حصلت في زمن مختلف. لا شك في أن الكتابات والنصوص لا تتشابه حتى لو كتبت في وقت واحد، لكنها عموماً تعكس روح عصرها وانماط التفكير السائدة ومستوى التطور الذي بلغه المجتمع في تلك اللحظة، لحظة تسجيل النص.

ثلاثة نصوص

نقرأ هنا عصر ثلاثة نصوص كتبت في مراحل ثلاث: ­ الأول استغرابي (الدهشة) كتبه الشيخ عبدالرحمن الجبرتي في «عجائب الآثار» عن حملة نابليون بونابرت الفرنسية على مصر في نهاية القرن الثامن عشر. يصف الجبرتي الحملة ويراقبها يومياً، ويسجل انطباعاته المباشرة عنها ويقرأ انعكاساتها ونتائجها وما جلبته من عجائب تدهش وويلات مدمرة. نص الجبرتي يعكس رؤية المثقف المهزوم والمغلوب على أمره ولا يستطيع أن يفعل شيئاً سوى الملاحظة والمراقبة ومحاولة تفهم الآخر والتفاهم معه لتقليل الأخطار والمضار. ويعكس نص الجبرتي أيضاً حوادث عصره ومستوى تطور مجتمعه والتدهور المخيف والمريع الذي أصاب الأمة في مرحلة كانت أوروبا تعيش لحظة صعودها التاريخي وسيطرتها العالمية. آنذاك كانت فرنسا بدأت تخطط إلى الاستيلاء على المغرب العربي وبدأ الصراع الدولي الفرنسي ­ البريطاني يتجه نحو مصر والمشرق العربي في وقت كانت السلطنة تخوض حروبها في شرق أوروبا ووسطها ضد التمدد الروسي ­ الأوروبي. ­ الثاني كتبه الشاعر والرحالة الانجليزي تشارلز داوتي يصف فيه رحلته إلى الجزيرة العربية وبلاد الشام برفقة قافلة الحجاج إلى ميدان (أو مدائن) صالح. كتب داوتي نصه بعد حصول الاختراق الأوروبي ومحاولة السيطرة على مصر وبدء التغلغل إلى المشرق العربي ومحاولة زعزعة دعائم السلطنة العثمانية في بلاد الشام. راقب دواتي الشاردة والواردة وسجل انطباعاته ويومياته في رحلته التي ابتدأت في العام 1875 وامتدت على أكثر من سنتين. وعندما انتهى منها في 1877 عاد إلى بلاده وأصدر عمله في العام 1888 في مجلدين، أحدث آنذاك ضجة كبيرة في عالم الصحافة والفكر واعتبر لتاريخه أحد أهم الأعمال باللغة الانجليزية. وأقدم المفكر رينان على ترجمته إلى الفرنسية واستقى معظم أفكاره عن عادات العرب وتقاليدهم وحياة البدو وطبيعة البداوة من نصوصه. لم يقتصر عمل دواتي على الوصف كما هو شأن الجبرتي بل لجأ في أحيان كثيرة إلى التوصيف، وتنميط شخصية العربي والاعرابي وظروف الصحراء وحياة البداوة. آنذاك كانت أوروبا بشقيها البريطاني والفرنسي قد بسطت نفوذها على المعمورة وحاصرت قلب العالم الإسلامي غرباً وشرقاً وأخذت تخطط لاقتحامه وانهاء آخر شكل من أشكال الخلافة الإسلامية. بدأت رحلة داوتي في عهد السلطان عبدالحميد الثاني في وقت اشتد فيه نفوذ قناصل الدول الأوروبية وتدخلهم في الشئون الداخلية واستغلال ثغرات الأمة وطوائفها وأديانها وتحريض الملل والنحل على بعضها. عندما وصل داوتي إلى الشام كانت حوادث التذابح الطائفي (الدروز والموارنة) مر عليها 15 عاماً في جبل لبنان ودمشق ازداد خلالها النفوذ الأجنبي ودور قناصل الدول الأوروبية. وعندما سجل داوتي انطباعاته لم يخف آثار ذاك التذابح فأشار إليه مراراً. كذلك لم يخف مراقبته لكل الآثار الدارسة من قرى وحواضر ومحطات تجارية قديمة. وصف الحياة الاجتماعية ورسم النقوش وكل ما شاهده لينقل للقارئ الأوروبي صورة واقعية ودقيقة وتفصيلية عن مشاهداته وانطباعاته. فنص المثقف الأوروبي داوتي يختلف في كثير من جوانبه عن نص المسلم الجبرتي. الثاني قرأ الحوادث بلغة المراقب المهزوم والمغلوب على أمره والأول قرأها بلغة المراقب الوافد المنحاز والغالب في الآن. الجبرتي وصف وقائع الأيام أما الثاني فتجاوز الوصف إلى التوصيف. فعندما صدر عمل داوتي (الطبعة الأولى) كانت بريطانيا احتلت مصر وبدأت المنازعات للسيطرة على ما تبقى من المشرق العربي. ­ النص الثالث كتبه المستشرق والمستعرب والقائد العسكري ت. اي. لورنس المعروف بـ «لورنس العرب» وهو مقدمة الطبعة الثانية لكتاب داوتي. صدرت الطبعة الثانية في العام 1921 بإشراف لورنس بعد مرور أربعة عقود على الأولى. وأهمية الطبعة أن داوتي كان لايزال على قيد الحياة وشاهد ولاحظ ما استجد من تطورات وحوادث. تلخص مقدمة لورنس كل ما تريده عن أهمية الرحالة ودور كتاباتهم في ارشاد الدول الغازية آنذاك وتقديم معرفة ميدانية لعالم مجهول ومجبول بالأسرار والألغاز. آنذاك في عشرينات القرن الماضي كانت المهمة انتهت. فالسلطنة سقطت عملياً ورسمياً، وفرضت أوروبا بشقيها البريطاني ­ الفرنسي سيطرتها على بلاد الشام والمشرق العربي ودخلت المنطقة بكاملها في فترة الانتداب. فلغة لورنس لغة المنتصر الذي نجح في مهمته. ولغته كانت تعكس حال منطقة بدأت تعيش نتائج اتفاق سايكس ­ بيكو ووعد بلفور. لم يتردد لورنس في تبجيل كتاب داوتي وفي تقديمه بأبهى صوره. ولم يتردد في اعادة التأكيد على أهميته المعلوماتية كمرشد سياسي وأهمية رسومه وخرائطه كمرشد عسكري من حيث لا يدري داوتي أو لم يرد ذلك. ولم يتردد في القول إن ما ذكره داوتي كان دقيقاً للغاية وأن الطائرات والكاميرات في القرن العشرين أكدت صحة معلوماته وتجاوزتها في الآن. لغة لورنس لغة المنتصر المرتاح لنتائج المهمة التي كلف بها وكانت تأليب القبائل العربية ضد الأتراك في وقت كان انقلاب اسطنبول قد وقع ضد السلطان عبدالحميد وانتهت عملياً الفترة العثمانية. إذاً نحن أمام ثلاثة نصوص: الأول استغرابي مندهش، كتبه المغلوب على أمره الجبرتي في لحظة انتقالية فاصلة حسمت الخلل في توازن القوى وسجل مذكراته وملاحظاته عن بداية مرحلة الاختراق الأوروبي لمصر ومنطقة المشرق العربي. الثاني كتبه الغالب داوتي في لحظة بداية اختلال موازين القوى في المشرق العربي وبلاد الشام بعد السيطرة على مصر وهي المرحلة التي مهدت للهزيمة النهائية وفيها سجل داوتي ملاحظاته عن الآخر واختلافه. الثالث كتبه المنتصر والعائد إلى بلده لورنس بعد أن حسم الصراع الدولي وتم اقتسام المشرق العربي ومصر بين منطقة للنفوذ الفرنسي ومنطقة للنفوذ البريطاني. هذا هو عصر النصوص الثلاثة؟ يبقى أن نقرأ ماذا تقول؟

نص الجبرتي

يغطي نص الجبرتي تفاصيل الحملة الفرنسية. ويعتمد في عرض اخبارها على مشاهدات مباشرة أو معلومات حصل عليها من الناس والاعيان. تبدأ التغطية من لحظة نزول قوات انجليزية تسأل عن وجود قوات فرنسية. ثم خروج الانجليز وقدوم القوات الفرنسية إلى ثغر الاسكندرية. ومنذ تلك اللحظة يتابع الجبرتي اخبار الحملة يوماً بيوم. ويسرد وقائع الحوادث ويصف ما شاهد ويروي ما سمع بدقة وموضوعية. فالجبرتي هو أقرب إلى المثقف ­ المراقب ويصعب تصنيفه من فئة المثقف ­ المناضل. يوثق الجبرتي مناشير نابليون بونابرت التي وجهها إلى شعب مصر وأكد فيها أن حربه ضد المماليك الذين أذلوا تجار فرنسا وأهانوهم. ويسرد بعد ذاك الوقائع واليوميات. ولا يتردد في وصف الفوضى التي دبت، وانحلال النظام العام، وضعف تجهيزات الجند، وعدم انتظام القوات المصرية امام حسن تنظيم القوات الفرنسية وقوة تجهيزاتها وسهولة انتصاراتها. وينتقد الجبرتي أسلوب المواجهة الفوضوي وهزال الإدارة وتردد الأمراء وهياج الناس وضعف المعلومات وعدم تقدير خطط العدو وأهدافه. بعد تساقط المدن والقرى وهزيمة القوات المصرية دفاعاً عن القاهرة يصف الجبرتي مشاعر الخوف والفزع والرعب وحالات الهروب والتفكك والانهيار وتعطل الأرزاق والأسواق. ثم يأتي إلى أخبار الحملة وما فعله بونابرت ويستعرض حوادث السرقة والسلب والوشايات وتفتيش البيوت ومصادرتها واللعب على تناقضات البلد ومذاهبه وطوائفه ودياناته، وكيف استخدمت القوات الغازية بعض الفئات المحلية كواجهة لفرض الخوات وانتزاع الضرائب وجمع الأموال مقابل اجراء المصالحات. ويروي الجبرتي كل الاتصالات والمكاتبات التي حصلت وكيف تفرق أهل مصر وتباينت آراء قادتها وشيوخها بين متفهم كالشيخ السادات ورافض كنقيب الاشراف عمر افندي ومتردد بين الموقفين كالشيخ الشرقاوي. ويتناول الجبرتي القوانين التي اصدرها نابليون وتشكيل الدواوين وترتيب محكمة القضايا وتغيير معالم المدينة وهدم البيوت والمساجد وقلع الاشجار وبناء التحصينات العسكرية. ويتحدث عن الصراع الانجليزي ­ الفرنسي في ثغر الاسكندرية وحصار الانجليز البحري لمصر وكيف أدى الأمر إلى انهيار الاشغال وتدهور المعيشة وارتفاع الأسعار واغلاق الحوانيت والمشاغل ودكاكين الحرف وتشرد العائلات وتمزق المجتمع. ويصف الثورة التي حصلت في القاهرة ضد الظلم الذي لحق بالناس وينتقد فوضاها ثم يروي وقائع اقتحام قوات «أمير الجيوش» الجامع الأزهر والتخريب الذي حصل في صحنه ومكتبته واعتقال الشيوخ واتهامهم بالتحريض على الفتنة وقتلهم بسرية ومن دون محاكمة أو تحقيق. يطول الحديث عن نص الجبرتي، الغني بالمعلومات والسرديات اليومية. إلا أن الأساسي فيه هو عفويته وامانته ودقته، إذ إنه ينقل كل ما شاهد وسمع ويعكس كالمرآة الحوادث والأخبار. لذلك يمكن أن نقرأ فيه نتائج الحملة الفرنسية وانعكاساتها السلبية المدمرة على المجتمع. وفي الآن نفسه نستطيع أن نستنتج منه الكثير من الوقائع التي كانت سائدة آنذاك. أبرز ما نلاحظه في نص الجبرتي الحقائق الآتية: الصراع الانجليزي ­ الفرنسي على المنطقة. تفكك السلطنة وضعف الاتصالات بين المركز والاطراف. فوضى المعلومات وضعف التنظيم وعدم وضوح الرؤية. التخلف العام وانقطاع المجتمع عن تطورات العصر. تطور اهداف الحملة من ذريعة مساعدة مصر لتحريرها من حكم المماليك إلى السيطرة عليها والانطلاق منها للسيطرة على المنطقة... وخصوصاً بلاد الشام. التفاوت المخيف بين حال مصر وتراجعها عن مكانتها السابقة وحال أوروبا التي تقدمت وازدهرت. لا يسجل الجبرتي تلك الملاحظات واحدة بعد أخرى لكننا نستنتجها في سياق سرده للحوادث والأخبار، فهو لا يتردد في انتقاد حالات الفوضى وسوء التنظيم وضعف المواجهة العسكرية. ولا يتردد ايضاً في كشف اكاذيب قادة الحملة الفرنسية وسوء تصرفهم والقصف الوحشي للاحياء المدنية، وقتل الرجال والاعتداء على النساء وانتهاك الحرمات ونشر الخلاعة والفساد واللعب على تناقضات المجتمع المذهبية والطائفية والدينية. كذلك لا يتردد في شرح الاختلاف بين الجهتين وتوضيح الملابسات السياسية وصولاً إلى وصف ملابس الجند وألوان راياتهم واستعراضاتهم العسكرية وما جلبوه معهم من أشياء (اندية اللهو، المطاحن، الرسوم، التصاوير، صناعة الأدوية، استخراج الملح، المختبرات، المتاحف، الساعة، مخارط النجارة والحدادة) إلى تجربة اطلاق المنطاد في سماء القاهرة وتجارب مزج المواد الكيماوية في المختبرات وغيرها من «أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول امثالنا» على حد تعبير الجبرتي. فهو من جهة يعترف بالضعف والعجز ويبدي دهشته من أمور كثيرة ومن جهة ثانية يظهر نفوره من قساوة جيوش فرنسا وارتكابها المخالفات والسرقة والنهب والتسلط على الناس. يضع نص الجبرتي الفواصل ويرسم الألوان للتمييز بين الحق والباطل والحقائق والاكاذيب، لكنه ايضاً يكشف من حيث لا يدري عن الواقع المر الذي كانت تمر به امتنا وتخلف نخبنا الفكري والعلمي وانقطاع «النخبة» ليس عن حقائق عصرها بل عن ماضيها. فنخبنتا آنذاك كانت مقطوعة الصلة عن حاضرها وفي الآن عن ماضيها. فالكثير من الأشياء التي ذكرها الجبرتي وأبدى فيها دهشته من «عجائب الافرنج» كانت معروفة سابقاً وتوصلت امتنا اليها أو اخترعتها قبل ألف سنة مثل الساعة والطب والمختبرات الكيماوية وعلوم الفلك والحساب والتراجم والموسوعات وغيرها من المسائل. وإذا قارنا مثلاً بين حياة الجبرتي وعصره وحياة الطبري وعصره نجد أن الأخير الذي توفي قبل الجبرتي بـ 900 سنة أكثر تقدماً وأعمق علماً وأوسع معرفة. حتى لغة الطبري نجدها أكثر وضوحاً وتماسكاً من لغة الجبرتي. فالاختلاف الذي يلاحظه الجبرتي لا يعكس التفاوت بين حاضر الأمة وحاضر أوروبا بل يكشف تخلف حاضر الأمة عن ماضيها والتدهور المخيف الذي حصل من القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر وانقطاع حاضر النخبة في زمن الجبرتي عن ماضيها وانفكاك التواصل بين اطراف الأمة وثغورها. ومن ينفصل عن ماضيه ينفصل عن حاضره ولا مستقبل متقدماً له. طبعاً، نص الجبرتي ليس «استشراقياً» فهو من طليعة الكتابات «الاستغرابية» التي نتجت عن الاحتكاك المباشر والمعايشة اليومية. وأهمية نصه أنه يعكس لحظة الاصطدام بين ثقافتين في زمن بداية الغلبة الأوروبية، لذلك طغت علامات «الدهشة» على ذاك النص. تختلف «دهشة» الجبرتي في نهاية القرن الثامن عشر عن «دهشة» رفاعة الطهطاوي في مطلع القرن التاسع عشر التي تولدت لحظة قدومه إلى باريس للدراسة. «دهشة» الأول تعكس لحظة انطلاق السؤال وتعكس «دهشة» الثاني بداية الجواب. لذلك طغت على سؤال الجبرتي السلبية بينما حاول الطهطاوي صوغ جواب انطلاقاً من المقارنة بين وضعين مختلفين. فالطهطاوي ذهب إلى باريس زائراً في بعثة علمية للتخصص بينما الجبرتي استقبل هجوم الغالب على أرضه وشهد آثار الدمار الذي نتج عن ذاك التفوق الذي لاحظه الطهطاوي لاحقاً. يفصل بين النصين قرابة نصف قرن من الزمن وهي الفترة التي عاشتها «النخبة» حائرة للاختيار بين نموذجين وبين دهشتين، الأولى سلبية ممانعة بدأت بأسئلة الجبرتي والثاني ايجابية مستسلمة انتهت بأجوبة الطهطاوي، وهي الأجوبة التي اخذت «النخبة» تعيد انتاجها وتكرارها بصيغ مختلفة من دون أن تنجح في التقدم خطوة حاسمة من عالمها إلى عالم الآخر.

نص داوتي

يختلف نص داوتي عن نص الجبرتي، لا من حيث موقع القراءة فقط بل من جهة رؤية الآخر ايضاً. الجبرتي سجل انطباعاته واكتفى بالوصف وابدى الدهشة واستغرب وقوع الحوادث. اكتفى الجبرتي بالنقل لكنه لم يفسر الحوادث ويشرحها. سجل الحادث وانعكاسه على الواقع وانعكاس الواقع على حياته ووعيه. فهناك الحادث ثم انعكاس الحادث واخيراً انعكاس الانعكاس اي ردود فعله وانفعالاته. عانى داوتي من مشكلة مختلفة. لم تكن تلاحقه قذائف نابليون. لم يحبط بسبب الهزائم المتكررة أو يصدم بسبب الانهيار العام والكارثة الاجتماعية. تلخصت مشكلة داوتي في الحصول على رخصة تسمح له بمرافقة قافلة الحجاج وهو المختلف في بشرته ودينه وملابسه وعاداته. حل داوتي مشكلة الرخصة وبدل ملابسه وتعلم بعض العادات. وبقيت مشكلة الدين إلى جانب اللون. زالت مشكلة اللون قليلاً بعد ان لفحته الشمس واطلق لحيته. ولازمته مشكلة الدين إلى آخر محطة سمح له فيها بمرافقة القافلة. بعدها انتقل إلى القرى والاحياء والخيم وعاش حياة الصحراء والبداوة لينقل مشاهداته وملاحظاته وتسجيلاته وتوصيفاته ووصفه للتلال والسهول والحقول البركانية. وبسبب اختلاف الظروف اختلفت الهموم. هموم الجبرتي تركزت على حماية الأهل والدفاع عن الثغور وتحصين الدين. هموم داوتي تركزت على وصف أهل الثغور وسكان الصحراء وعادات البدو وتقاليد العرب. بطل تسجيلات الجبرتي كان نابليون بونابرت، بينما داوتي كان بطل يومياته. الأول تابع يلاحق الحوادث ويسجلها، والثاني متبوع هو الرجل الذي يصنع الوقائع ويفسرها. باختلاف الهموم اختلف الاتجاه. اتجاه الجبرتي طغى عليه «الاستغراب» بينما طغى على اتجاه داوتي «الاستشراق». ادى اختلاف الاتجاه إلى اختلاف النظرة إلى الأمور. الجبرتي نظر من موقع الخائف، داوتي نظر من موقع الواثق. الجبرتي سجل وقائع الحملة الفرنسية للتاريخ، داوتي سجل وقائع رحلته للمعرفة. الأول يريد أن تطلع الاجيال اللاحقة على ما حصل والثاني اراد من رحلته ان يعطي للاجيال الحالية فكرة راهنة عن حياة البدوي وسلوكه. لجأ داوتي إلى وصف دقيق لرحلته وسجل انفعالاته وانعكاساتها على الوقائع وقراءته للحوادث. تركز همه في رسم صورة عن حياة الآخر واسلوب معاشه وسلوكه وطريقة تفكيره. كان هم داوتي اعادة تركيب الصورة المشوشة في ذهن الأوروبي عن قوافل الحجاج وخطوط المواصلات ومسار الجمال. حاول تقريب تلك الصورة من الواقع وشرحها والتعليق عليها. دخل الخيمة وفك ألغازها في مخيلة الأوروبي. فالخيمة في المخيال الذهني كانت اشبه بالرموز السحرية تثير في العقل كل الشبهات وتشطح إلى خيال لا يوصف ولا حد له. داوتي دخل الخيمة ­ اللغز ونقل للقارئ الأوروبي ما رأى فيها، وما وجده ليس سوى اسرة مؤلفة من أب وأم واولاد. فالخيمة ليست كما اشتهت المخيلة إنها مجرد منزل للأسرة. وهكذا، اخذ داوتي يفك الرموز والطلاسم ويقرب الخيال من الواقع ويصف المشاهدات بدقة لتكون صورة العربي أو البدوي أكثر واقعية من التصورات الذهنية المسبقة. تحوي الرحلة الكثير من السرديات التي يصعب نقلها وشرحها إلا أن اخطر ما سجلته كانت تلك الخواطر التي كتبها داوتي في وصف شخصية البدوي والعربي والصحراوي. اذ تحولت تلك الخواطر والملاحظات والانفعالات إلى ثوابت أيديولوجية في رسم صورة العربي ­ البدوي والعربي ­ الصحراوي. فالوصف تحول إلى توصيف للآخر وتنميط لشخصيته من خلال التجربة لا من المخيلة. أكثر داوتي عندما حاول وصف الاختلاف من استخدام مفردة «السامية» و«السامي». آنذاك لم تكن «السامية» في أوروبا من المحرمات والممنوعات، ولم تكن تعني اليهود حصراً. مصطلح السامية كان يطلق على الآخر المختلف وكان منهج تحليل وأداة من ادوات الشرح والتفسير. السامي هو الآخر، وكانت السامية ترسم حدود الاختلاف مع الآخر. لذلك نجد تعابير كثيرة عند داوتي مثل «العرق السامي» و«الطبيعة السامية» و«الروح السامية» و«العقلية السامية» عندما كان يتحدث عن الاختلاف ويحاول تفسيره وشرحه والتعليق عليه. فالاختلاف ناجم عن ذاك العرق والروح وتلك الطبيعة والعقلية. فالاختلاف عنده نتاج طبيعة أصلية (عرق وجنس) وجوهر أصل. وقد استعار الكثير من المفكرين الأوروبيين أوصاف داوتي عن العربي والاعرابي والبدوي والصحراوي لتفسير الاختلاف في الدين والثقافة والحضارة. وتحولت شروح داوتي عن الاختلافات إلى قوانين اجتماعية ثابتة كالطبيعة، تتغير اذا تغيرت الجغرافيا وليس إذا تغيرت الحياة / التاريخ.

نص لورنس

لم يعترض لورنس «العرب» في مقدمته على استنتاجات رحلة داوتي بل زكاها ودعمها. آنذاك في عشرينات القرن الماضي لم تكن الهتلرية قد وصلت إلى الحكم في ألمانيا ولم تكن «السامية» تهمة أو جريمة في نظر القانون. فالمحرقة حصلت في الاربعينات ولورنس كان يتحدث عن الآخر البعيد. تكشف مقدمة لورنس كل ما نريد قوله عن الاستشراق والمستشرقين. فهو يعترف بأهمية كتاب «الصحراء العربية»، إذ «كلما عرفنا أكثر عن جزيرة العرب وجدنا أكثر في الكتاب». درس لورنس كتاب داوتي لمدة عشر سنوات قبل أن ينتقل إلى الجزيرة وتنفيذ المهمة التي كتب عنها لاحقاً. كانت مهمة لورنس تحريض القبائل العربية ضد الاتراك وإعلان الثورة ضد حكم «جمعية الاتحاد والترقي» في اسطنبول لتخفيف الضغط العسكري على جبهة قناة السويس ضد القوات الانجليزية المتمركزة في مصر. وعندما قامت الثورة اهتزت الجبهة العسكرية التركية (العثمانية) ونجحت القوات الانجليزية في اختراق السويس واحتلال فلسطين ودخول القدس ولم تنسحب بريطانيا من القدس الا بعد تسليمها للقوات الصهيونية في فلسطين (دولة إسرائيل). وأغرب ما سجلته تلك «الثورة» أنها بدأت بنسف خط سكة حديد الحجاز أي أنها باشرت عملها بنسف التحديث في المنطقة العربية. فسكة الحديد كانت واحدة من أهم انجازات التحديث التي قام بها السلطان عبدالحميد لتسهيل مرور قوافل الحجاج. وكان القصد من نسف السكة قطع الاتصالات والعلاقات بين الترك والعرب وفي الآن نفسه تعطيل الامدادات العسكرية لتعزيز الجبهة التركية في مواجهة تقدم القوات البريطانية من مصر إلى فلسطين. يزكي لورنس كتاب داوتي ويصف ملاحظاته بأنها «منقولة بدقة متناهية». فهذه جزيرة العرب الحقيقية «بروائحها واوساخها» و«بنبلها وحريتها». ويصف الكتاب بالشمولي فهو خال «من العواطف السطحية» التي اتسمت بها «كتب الرحلات الاستشراقية» ويميز لورنس بين عصره وعصر داوتي. فالصحراء كانت «قبل 40 سنة أقل ترحاباً بالاجانب مما هي الآن. وكانت تركيا لاتزال قوية هناك (...) جاء وحده من دمشق مع قافلة الحجاج، وتركته في مدائن صالح (...) وضرب في الصحراء (...) مسافراً مثلما يسافرون (...) ودخل خيام العرب ضيفاً، ليشاركهم ضيافتهم اليسيرة (...) كان يجول ابداً راكباً احياناً من الفجر إلى الغروب (...) في رحلات تعبر أراضي صخرية صعبة وتحت شمس محرقة أو في رياح حادة مرهقة (...) ما يعطي شهادة عالية ليس فقط على قوة ذهنه، بل أيضاً لما لجزيرة العرب والعرب من جاذبية لمخيلته ومخيلتنا». بعد أن يمدح لورنس احكام داوتي الثاقبة واسلوبه الفني يتحدث عن العرب (الساميين) ويصفهم بالاوصاف ذاتها فهم «أناس محدودون ضيقو الافق، تخلو عقولهم الخامدة من روح التساؤل وتقبع في حال من العقم. مخيلاتهم حادة لكنها ليست خلاقة». ويتحدث لورنس عن «عقول الصحراء» التي ترفض المادة «إنهم يتطلعون دوماً إلى تلك الاشياء التي ليس الإنسان منها ولا يشارك فيها». وأهم ما في مقدمة لورنس ليس مشاركة داوتي في تنميط شخصية العربي ­ الصحراوي والعربي ­ البدوي بل في رسم اختلاف حياة الجزيرة، والاختلاف الذي حصل بعد اربعة عقود على تأليف كتاب الرحلة. يستفيض لورنس في شرح الفروق التي حصلت بعد رحلة داوتي فيتحدث عن «الثورة السياسية» التي حصلت في الجزيرة ضد الاتراك وانضمام القبائل للحلفاء. ويرى أن كتاب داوتي لعب دوره إذ تحول آنذاك إلى كتاب تعليمي عسكري و«ساعد على قيادتنا إلى النصر في الشرق». ويتحدث لورنس عن اختلاف نظرة قبائل الجزيرة فلم يعد التمييز بين الناس على اساس ديني اذ تعلم «العرب ما يكفي من الأفكار الأوروبية للقبول بالانتماء الوطني كأساس للتحرك» ويمدح ثورة العرب ضد خليفتهم «سلطان تركيا». الانجاز إذاً تحقق والمهمة التي نفذها لورنس بدأها داوتي في رحلته الطويلة والشاقة من دون أن يدري أن كتابه ورسومه وكلماته وخرائطه ستتحول إلى وظائف وتستخدم سياسياً وعسكرياً. في مطلع الحرب العالمية الأولى كانت مهمة لورنس في غرب الجزيرة العربية تحريض قبائل الحجاز باسم العروبة والاستقلال الوطني ضد الاتراك وضمناً الإسلام. كما كان دور نابليون ضد المماليك حين غزا مصر في عصر الجبرتي. وفي الحالين كان الهدف يتوحد على نقطة مشتركة: تمزيق المنطقة وتأليب أهلها ضد بعضهم للاستيلاء عليها. وهذا ما حصل في نهاية الحرب العالمية الأولى

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1442 - الخميس 17 أغسطس 2006م الموافق 22 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً