العدد 1441 - الأربعاء 16 أغسطس 2006م الموافق 21 رجب 1427هـ

أجمل الغِلال ما نبت في حقول الآخرين

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لا يمكن تظهير الدور الإيراني في لبنان ومن ثم توصيفه وتثنيته وتجزيئه وحده وعده وتضمينه (... إلخ) عبر مقاربته آلياً مع أدوار طهران الأخرى في المنطقة، نظراً إلى العلاقات والظروف الخاصة «جداً» بينها وبين هذا البلد تاريخياً واستراتيجياً من جهة، وبينها وبين أحد مكوناته السياسية والدينية من جهة أخرى والذي يشكل بالنهاية جبهة متقدمة للإطار الثوري والديني للهوية الخمينية خارج نطاق الجمهورية الإسلامية. وتمظهر ذلك الارتباط عملياً بمناحٍ أخرى (قد يكون) مبضعها الأشد شاخصاً في أجزاء غير مرئية من الصورة بعضها مرتبط بطريقة ما بغيبيات وماورائيات تأسست عليها نظم للأفكار والسلوكيات المتماسكة والمعقدة في الوقت نفسه، التي تتطلع إلى غايات مكتومة لكنها محددة. وفي مسار ذي صلة بذات الإشكال، يمكن تثبيت حقيقة ما حول طبيعة ذلك النفوذ في الجنوب اللبناني مستلة من ماهية السياسة الخارجية الإيرانية تجاه أزمات المنطقة ومناشطها السياسية وخصوصاً في الدول غير المستقرة أو التي لا تتمتع بحكومة مركزية قوية قادرة على بسط سيطرتها على جميع مؤسسات الدولة وتراب الوطن، وتتلخص تلك الماهية في أن الإيرانيين يجسرون علاقاتهم بطريقة متلازمة لكنها غير متكافئة ما بين دولة المركز المترهلة وبين دولة الطرف القوية، وفي استحقاق ذلك تكون الثانية الاهم بالنسبة إلى طهران (مرحلياً) ما دامت ظروف وصولها إلى مواقع متقدمة في السلطة غير مؤاتية، وهي بالتالي تستثمر وجودها خارج الإطار الأضيق (الصوري) لحين بلوغ الهدف في تكوين قواعد سياسية واجتماعية واقتصادية متماسكة يؤمن لحكومة الطرف الاستقلالية والقوة التي تمكنها من التغلب على متطلبات حكومة المركز الضعيفة وموجبات تأثير قوى إقليمية ودولية المتسترة خلف القانون الدولي واستحقاقاته. وإذا ما أسقط ذلك على حال حزب الله لبنان، لربما تكون المعادلة المذكورة شبه متحققة، إلا أن ما يميزها هو أن الحزب في الكفة الأخرى من الميزان يبقى محكوماً بتركيبة طائفية معقدة في محيطه لا تمكنه من أخذ أكثر مما هو مخصص للشيعة عموماً، فضلاً عن خطه الفكري والسياسي المتباين مع مكونات شيعية أخرى تتجاوره، كما لا تسمح للسنة والمسيحيين أخذ أكثر مما هو مقدار لهم دستورياً وعرفياً، وبالتالي يصبح وضع حزب الله بالنسبة إلى طهران حساسا في ظل ميزان طائفي قائم.

تحقيب مهم

ترجع العلاقة الدينية والسوسيولوجية بين جنوب لبنان أو جبل عامل مع إيران إلى عهد الصفويين (1501 - 1524) الذين استقدموا أعداداً كبيرة من العلماء الشيعة إلى مدينتي تبريز وإصفهان للاستعانة بهم في تسيير شئون الدولة في شقها الديني، ولأن العلاقة تجذرت إلى مناحٍ تجارية واجتماعية أوسع فقد أثر ذلك على إيجاد نسيج فكري وسياسي متقارب بين الضفتين، وحتى بعد التبدل الذي جرى على ريح الأنظمة الحاكمة؛ بقيت تلك العلاقة تسير من خلال قوى مجتمعية وفقهية ناجزة.

وفي الوقت الذي كان فيه شيعة لبنان يسعون لتأكيد ذاتهم السياسية في منتصف القرن الماضي تضاعفت الحاجة بالنسبة إليهم للحصول على قوة إقليمية داعمة خصوصاً بعد تحوله إلى ساحة حرب شبه مفتوحة مع الكيان الصهيوني والمنظمات الفلسطينية المسلحة، بالإضافة إلى أن تزايد منسوب حدة الصراع الداخلي بين الطوائف والأحزاب قد دفع بالأمور لأن تتعقد أكثر وتتشابك مع نظام مصالح خارجي فرض نفسه بقوة، إلى أن انتصرت الثورة الإسلامية في إيران لتترسخ تلك القناعة وتصبح إيران ظهيراً استراتيجياً للشيعة ووعاءً روحياً لهم، في المقابل كانت طهران ترى في لبنان الوصلة العملية لاتحاد المنظومة الثورية الخمينية ورديفها الطبيعي في الجنوب الحاضن لأكبر طائفة شيعية بعد العراق، ثم كونه مدماكاً صلباً للوصول إلى الوطن العربي برمته في ظل وجود فرصة مؤاتية وسانحة بسبب ضعف السلطة المركزية اللبنانية من جهة، والقبول السوري شبه المطلق للوجود الإيراني من جهة أخرى الذي فرضته معطيات التوازن الاستراتيجي المضطرب في المنطقة. وبعد الغزو الشاروني الإرهابي لبيروت في العام 1982 دخل الإيرانيون عملياً على خط الصراع العربي الصهيوني عبر المساهمات العسكرية المباشرة وغير المباشرة، بوصول لواء من الباسدران إلى الجنوب، وعبر دعم حزب الله لوجستياً، ليصبح لاحقا الحليف المميز لإيران في لبنان وفي المنطقة بأسرها. وبسبب بقاء القوات الصهيونية في الشريط الحدودي بعد انسحابها بعد اجتياح بيروت فقد تعاظم النفوذ الإيراني في لبنان عبر حزب الله الذي ازدادت قوته العسكرية بشكل كبير، وتوسع في مشروعه المدني بالمال الإيراني المتدفق بوفرة ومن دون حساب، مرغماً بذلك إيهود باراك للانسحاب من ذلك الشريط في مايو/ ايار 2000.

وساهمت الحوادث والسنون في تجذير تلك العلاقة بين الطرفين إلى الحد الذي وصف فيها ممثل حزب الله في طهران عبدالله صفي الدين تلك العلاقة في كلمة ألقاها أمام مسئولين في حزب المؤتلفة الإسلامي الأسبوع الماضي بأن معتقدات وأهداف ومسيرة وقائد إيران وحزب الله واحدة، وان كل ما يملكه الحزب هو من الثورة الإسلامية والإمام الخميني وآية الله الخامنئي.

تغييب إيران

خلال الأزمة الحالية أظهر الكيان الصهيوني رغبته الجامحة في الحصول على الأمن المطلق بدلاً من الأمن النسبي على غرار الثقافة اليمينية المعمول بها لدى الإدارة الأميركية، وهو ما يعني ضرورة تدمير أمن الآخرين أو الطرف الآخر واتباع منهج الاستبدال والتغيير الجذري، وقد ظهر جلياً في تلك الحيثية وخلال أزمة العدوان على لبنان مدى التماهي القائم ما بين تل أبيب وواشنطن، فالأخيرة لم تتورع في إطلاق يد الآلة الصهيونية للضرب بكل ما أوتيت من قوة من أجل إرغام لبنان والمجتمع الدولي للوقوف عند سقف الرؤية الأميركية الصهيونية للصراع، مستغلة في ذلك تماسك الداخل الصهيوني على مشروعية الحرب وديمومتها. وبين ذلك برز الموقف الفرنسي (الكرنفالي) المرجح للتهدئة ووقف العداءات وتشغيل وسائل الاقناع والترغيب كي يتوصل حزب الله الى الاستنتاج بأن لا خيار أمامه سوى الاستغناء عن سلاحه طوعاً، برز ذلك الموقف مجرداً من أي دعم دولي فاعل، وأفضى لأن ترضخ باريس للضغوط الأميركية لاستصدار مشروع قرار منحاز للكيان الصهيوني بشكل لافت. وقد بين ذلك المشروع مدى حاكمية السياسة الأمنية الجديدة على حلفاء واشنطن، وترجم أيضاً أحد أهم استحقاقاتها وهي إضعاف حضور الخصوم الكبار في المنطقة وفي لبنان تحديداً وهـي إيران.

غالبية الدول العربية وأهمها مصر والأردن ودول الخليج ومعها أطياف الغالبية «الوهمية» في لبنان تعضدت هي أيضاً لإزاحة الدور الإيراني في الأزمة اللبنانية عبر الاستقواء بالموقف الأميركي، بعد إخفاقها في العراق، بل الأكثر من ذلك فإن الخطاب الذي ألقاء الرئيس السنيورة في اجتماع وزراء خارجية الدول العربية خلا تماماً من أية إشارة إلى دور طهران في العملية السياسية والدبلوماسية، بل إنه وحين عرج على المساعدات الإنسانية التي قدمت للبنان خص بالشكر المساعدات العربية وتجاهل بشكل لافت المساعدات الإيرانية التي بلغت أكثر من 15 طائرة!. بل الأكثر من ذلك فإن المساعدات المالية التي قدمتها الدول الخليجية جاءت في سياق التنافس على بناء القواعد الاجتماعية وإنتاج النخب، في ظل إصرار أميركي وعربي متجانس بعدم السماح لحزب الله وبالتالي لإيران للقيام بدور في إعادة إعمار لبنان عبر مساعدات جديدة. هذا التوجه في تجاهل دور إيران ولد ردة فعل لدى الجانب الإيراني وبدا وكأنه توجه ولد وفي أحشائه بذرة دماره، إذ لا يمكن إيجاد تسوية ما إلا عبر الأطراف اللبنانية الفاعلة التي هي امتداد أصلاً لقوى إقليمية أكبر، ومادامت الأطراف الأخرى الأقل تأثيراً قد أخذت موقعها، فمن باب أولى إشراك الأطراف المحورية في التسوية، وفي قبالة ذلك برز اصطفاف تقليدي لكنه نشط بين إيران وسورية وحزب الله بدا متفقاً أكثر من أي اتفاق داخلي، وتجلى ذلك في الموقف من البنود السبعة التي قدمها السنيورة ولاحقاً في رفض القرار الفرنسي الأميركي، ولاحقاً أيضاً في الموافقة على نشر الجيش اللبناني في الجنوب، وبالرجوع إلى تصريحات منوشهر متقي وتصريحات الأمين العام لحزب الله السيدحسن نصرالله ونائبه الشيخ نعيم قاسم تبين ذلك بشكل جلي وهو الموافقة على بنود السنيورة لكن مع دراسة أمر تفصيلها المتعلق بالنواحي الأمنية والعسكرية وبالتالي مصير سلاح حزب الله، وخصوصاً أن إيران لا تريد مطلقاً نزع سلاح الحزب مادامت الدولة اللبنانية ضعيفة ولا تستطيع إعطاء ضمانات بعدم قيام الكيان الصهيوني باعتداءات جديدة على الجنوب اللبناني مركز النفوذ الإيراني.

الإيرانيون وفي أتون هذا النفس التغييبي استطاعوا الحضور من خلال محورين مزدوجين، الأول هو تضخيمهم لترسانة حزب الله العسكرية والأمنية بشكل نوعي استطاع من خلالها تحجيم القدرة العسكرية الصهيونية (البرية)، وخلال المعركة الأخيرة، تبين جلياً حجم الدعم العسكري الذي قدمته طهران لحليفها القوي بل وحتى في فنون القتال وثقافته، وأكدت المعلومات التي توصلت إليها مراكز الأبحاث العسكرية والاستراتيجية أن غالبية العتاد الحربي لدى الحزب هو من إنتاج المصانع الدفاعية الايرانية التابعة للقيادة العامة للجيش والحرس الثوري، أهمها تلك الصواريخ التي يفوق مداها 150 كلم وأكثر (غراد، تايب، بي إم 21 و24 و27، إم 220 واستطاعت تلك الصواريخ أن تخلق توازنا عسكريا وإن محدودا في المعركة البحرية والبرية، بالإضافة إلى إيلامها الموجع عند قصف المنشآت العسكرية والصناعية والمستعمرات والمدن الصهيونية في العمق كحيفا وعكا طبريا ونهاريا والعفولة وبيسان والخضيرة على بعد 40 كم من تل أبيب . مع الإشارة إلى أن التقارير العسكرية تلمح لوجود صواريخ زلزال (125 و270 كم) المصنفة على أنها صواريخ باليستية قصيرة المدى، وصواريخ نازيات (100 و140 كم) كما أن الحشوة المزدوجة التي تزود بها الحزب من إيران استطاعت أن تعطل التفوق الذي كانت تتمتع به دبابة الميركابا، هذه المنظومة جعلت من قوة حزب الله تتعاظم كثيراً، بل إن قيادة الأركان الصهيونية قد تفاجأت بهذه القدرة القتالية إلى الحد الذي جعلها تبدل في أقل من شهر أكثر من أربع خطط قتالية في محور بنت جبيل ومارون الراس، وتحصد أكثر من مئة قتيل وأربعمئة جريح، وخسارة تتجاوز المليار ونصف المليار، وهي أرقام مخيفة ألقت بظلالها على المناورات السياسية ووضع الأجندة، وبالتالي الضغط على واشنطن وتل أبيب لإعادة تقييم العملية العسكرية والاكتفاء بنصر ولو مصنوع .

المحور الثاني، وإن كان أقل منه نشاطاً وتأثيراً فقد كان بالضغط على الحكومة اللبنانية عبر حزب الله لرفض القرار الفرنسي الأميركي، وضرورة تعديله وتحديداً فيما يتعلق بوجود القوات الدولية في الجنوب، ومن ثم القبول بنشر خمسة عشر ألف جندي لبناني على الحدود اللبنانية والذي اقترحته حكومة الرئيس السنيورة، مع اتباع سياسة لا تحرج حزب الله عبر التأكيد «إعلامياً» أن إيران تدعم أي مشروع تطرحه الحكومة اللبنانية وتتفق عليه جميع الأطراف السياسية اللبنانية، وهو ما أكده سفير طهران في باريس علي هني قبل عدة أيـام. كذلك ربما كان للإيرانيين تسويات ما مع روسيا وتركيا ومصر عبر سورية لم تتكشف بعد، لكن الأكيد الآن أن لبنان ليس هو لبنان غداً و«إسرائيل» ليست هي «إسرائيل» كما قال طلال سلمان

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 1441 - الأربعاء 16 أغسطس 2006م الموافق 21 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً