العدد 1441 - الأربعاء 16 أغسطس 2006م الموافق 21 رجب 1427هـ

المرصد اللبناني

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

مضت ثلاثة أيام على وقف العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان. وتبدو الأمور حتى الآن سائرة نحو الاستقرار القلق على الجبهتين. فحكومة إيهود أولمرت بدأت تتحرك دولياً لجمع التبرعات لترميم ما هدمته الحرب كذلك أخذت تتجه داخلياً نحو إعادة إنتاج تسوية تضمن بعض الهدوء لدولة اعتقدت أنها تمتلك قدرات ردعية لا يقوى أي طرف إقليمي على اختراقها.

إلا أن مراقبة المشهد اللبناني تعتبر أهم وأعقد. فالورطة الإسرائيلية غير ظاهرة للعيان وتحتاج إلى وقت لتنكشف سياسياً بعد تلك الضربة الاستراتيجية التي تلقتها الدولة العبرية. بينما الورطة اللبنانية فهي ظاهرة ومكشوفة على كل الاتجاهات. ويمكن من خلال رصد تفاعلات الهزات الارتدادية قراءة الاتجاه العام الذي يحتمل أن تمر به المنطقة العربية - الإسلامية. فالبلد الصغير لا يصنع السياسة وانما يعكس تقليدياً توازنات القوى في المنطقة ويؤشر جزئياً إلى ذاك المسار الذي تتجه إليه التجاذبات الإقليمية.

من هذه الناحية تعتبر الساحة اللبنانية أهم من «إسرائيل». فالأخيرة محكومة بسقف دولي واحد تقريباً (الولايات المتحدة) بينما لبنان فهو يعتمد تقليدياً سياسة المظلات ولا يكتفي بمظلة واحدة لحمايته من حرارة الطقس أو برودته أو من تساقط الأمطار أو القنابل والصواريخ. فهذا البلد الصغير المتنوع الطوائف والمذاهب متعدد الاتجاهات وتتحكم به مجموعة شروط وعوامل تصنع السياسة به وتحدد له ألوانها وخرائطها.

«إسرائيل» في مأزق كبير ولبنان في مأزق أكبر. فهو الآن وقع في كماشة سياسية لا يعرف كيف يخرج منها بعد أن تلقى ضربات أميركية - إسرائيلية حطمت بناه التحتية والبنية السكانية وغيرت معالم الطريق السياسي الأمر الذي انعكس سلباً على خط علاقاته الأهلية. فالدولة الآن مقوضة (ضعيفة ومشلولة) وغير قادرة على تطبيق تلك الفقرات التي تضمنها القرار الدولي الأخير 1701. والمقاومة الآن (التي خرجت منتصرة) في وضع صعب فهي غير قادرة على توظيف انتصارها في مكان محدد، وكذلك فهي لا تستطيع أن تستمر في الممانعة من دون غطاء محلي وإقليمي وعربي. فما هو مطلوب من الدولة دولياً مطلوب من المقاومة. وهذه مشكلة بنيوية يجب معالجتها بسرعة للتوفيق بين صلاحيات الدولة وسلطة القرار الذي تملكه المقاومة.

قرار عشوائي

القرار 1701 ينص على فقرات كثيرة (فضفاضة وعشوائية)، ولكنه يستند إلى شرعية قانونية يعطي صلاحيات تدخلية تستطيع أن تبقي لبنان (دولة ومقاومة) في وضع قلق يسهم بحدود معينة في رفع التوتر الأهلي إلى درجة الغليان. وهذا النوع من القرارات السيئة كان سبباً في تفجير لبنان داخلياً وجرجرته إلى مواجهات محلية وإقليمية (القرار 1559 مثلاً) انتهت أخيراً إلى تقويض مرتكزاته ومقوماته ويحتاج الآن إلى ستة مليارات لتعويضها وعشر سنوات للخروج منها سالماً معافى.

القرار 1701 لا يقل خطورة عن 1559 فهو ينص على سلسلة شروط لا يقوى البلد الصغير على تنفيذها وخصوصاً بعد ذاك العدوان الذي جرده من كل إمكانات التجاوب أو التعامل مع نصوص فوقية لا تأخذ حجم البلد ولا قدراته ولا حساسياته في الاعتبار. لبنان الآن مطلوب منه نشر قواته (15 ألف جندي) في الجنوب في وقت لاتزال الجسور التي تسمح لأرتال الجيش وآلياته ودباباته ومدفعياته بالعبور محطمة ومدمرة. هذا من الناحية اللوجستية. اما من الناحية السياسية فالقرار يطلب منه التعاون مع قوات الأمم المتحدة الدولية (يونيفل) وحتى الآن لم تتشكل تلك القوات بسبب مخاوف صدرت عن عواصم عالمية طلب منها المشاركة في تنفيذ مهمات أمنية. والقرار أيضاً يطلب من حكومة مقوضة ومشلولة وضعيفة إخراج حزب الله من منطقة جنوب الليطاني إلى شماله في وقت عجزت الأقمار الاصطناعية عن تحديد أمكنة وجوده وانتشاره.

إنها شروط تعجيزية للغاية والهدف الدولي منها وضع لبنان تحت الرقابة ومنعه من التحرك أو التكيف مع متطلبات مرحلة صعبة تحتاج إلى كثير من الروية والادراك والوعي لتخفيف حجم الخسائر والحد من تداعيات العدوان السلبية وتأثيراته على التوازنات الأهلية.

هذه العناصر التفجيرية لا تكترث لها الدول الكبرى في مجلس الأمن التي تعمل ليل نهار على الضغط والمزيد من الدفع لجرجرة البلد المحطم والمنهوك القوى لتلبية طلبات لا يستطيع الدخول في متاهاتها من دون توافقات تضمن له الحد الأدنى من الاستقرار وتمنع القوى المتربصة للعبث بما تبقى من وحدته الوطنية الهشة أصلاً.

المشهد مقلوباً

مراقبة المشهد اللبناني مهمة في هذه المرحلة لأن حركة الواقع في داخل البلد الصغير هي أقرب إلى المرآة التي تعكس سياسات المنطقة وتوازناتها الإقليمية والدولية. وما يحصل في الساحة الآن يعكس تلك الاتجاهات ويرصد المسار العام الذي تتجه إليه حركة الرياح والعواصف.

وبهذا المعنى يعتبر لبنان أهم، كمرصد مراقبة، من «إسرائيل». فالدولة العبرية مثلاً تواصل انسحابها السريع من ذاك الشريط الحدودي الذي احتلته خلال فترة العدوان. والانسحاب السريع الذي بدأ قبل انتشار الجيش اللبناني وقبل الانتهاء من تشكيل القوات الدولية له دلالة على وجود «شيء ما» يحضر له في الأيام المقبلة. تل أبيب قالت إنها لن تنسحب قبل تشكيل القوات اللبنانية - الدولية وها هي بدأت بإعادة الانتشار والتمركز والتموضع على «الخط الأزرق» لتأمين قواتها وتسكير حدودها وقفل خطوط التماس مع المقاومة. فالانسحاب السريع يدل على انكفاء سياسي وليس لأسباب عسكرية فقط. والاكتفاء بوضع بعض جنود قوات الطوارئ والجيش كفاصل بينها وبين الداخل اللبناني يشير إلى رغبة في الانسحاب من مشكلات لا تنتهي. فهل خطوات الإسراع في إعادة ترتيب خطوط جيش الاحتلال الدفاعية لها علاقة باحتمالات تتوقع تل أبيب حصولها في الأيام المقبلة في الساحة اللبنانية، وهي تستعجل خطواتها لترك الأمور تأخذ مداها السياسي وبعدها تتدخل وتحصل على حصتها؟

هذا السؤال لا يمكن الحصول على رد عليه من الجانب الإسرائيلي. فتل أبيب مبهمة وتطلق حكومتها يومياً تصريحات متعارضة بقصد التشويش والتضليل. رئيس الحكومة يتحدث عن حرب ملاحقات طويلة، ووزير الدفاع لا يستبعد أن تدخل تل أبيب في مفاوضات ومباحثات مع أطراف النزاع (لبنان وفلسطين وسورية). ورئيس الأركان يتحدث مرة عن استقالته بسبب فضيحة بيع البورصة، ومرة يقول إن قواته باقية في القشرة (الحدود) لفترة طويلة ومرة لفترة قصيرة... وهكذا.

الصورة غير واضحة من الجانب الإسرائيلي. فالمشهد الإقليمي يمكن مراقبته ورصد إشاراته من الجانب اللبناني، إذ من ساحته المهشمة والمحطمة يمكن تشكيل أجزاء تعطي فكرة تقريبية عن المسار العام وتلك التجاذبات التي أخذت تظهر بوضوح في هذا الخطاب أو ذاك التصريح أو تلك الرسالة.

هناك خطوط كثيرة وملونة بدأت ترتسم في الأفق المحلي والإقليمي. ويبدو أنها تنتظر في حدودها الدنيا ذاك الاتجاه الذي ستتخذه طهران بشأن ملفها النووي والجواب النهائي الذي يرجح أن تقدمه قبل نهاية الشهر الجاري. كل الخيوط مرتبطة بذاك الموعد السحري ويبدو أن إيران أخذت تفهم الرسالة القوية التي تلقتها من ساحة لبنان. فالمشهد اللبناني لابد أن قيادة طهران اطلعت عليه وراقبته على شاشات التلفزة وأخذت فكرة مصغرة عن بانوراما كبيرة. وبسبب هذا المشهد يرجح أن تتجه طهران نحو تليين موقفها والقبول بمبدأ التفاوض على خلفية أخذ تلك الحوافز (الإجراءات التشجيعية) التي سبق ورفضتها مقابل التخلي عن التخصيب النووي.

هذا الاحتمال مرجح وليس أكيداً. اما إذا كانت الوجهة هي الذهاب نحو التصعيد والتصادم فيمكن فهم تلك الإشارات السريعة والقوية التي وردت في خطاب الرئيس بشار الأسد على أنها بداية تأسيس لمواجهات إقليمية تبدأ من الساحة اللبنانية أيضاً.

الأمور غامضة حتى الآن. ولكن خطوات التسارع في الاتجاهات يزيد القلق ويرفع من درجة التوتر الأهلي/ السياسي في لبنان وصولاً إلى الملف النووي في إيران. المشهد ربما يتطلب فترة زمنية لتوضيح زواياه، إلا أنه بسبب صغر الساحة اللبنانية يمكن رؤية الأمور بصورة أفضل وأسرع

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1441 - الأربعاء 16 أغسطس 2006م الموافق 21 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً