من المفترض أن الجنون هو ما بعد العقل. هو تجرؤ على مقدماته ونتائجه. تجرؤ على الثابت واليقين والمحدَّد منه وفيه. أن تكون مجنوناً يعني - افتراضاً - أن يكون لك تصورك للعالم. رؤيتك التي من خلالها تقترح المبنى والمعنى لهذا العالم. الآخرون يرون في جنونك خراباً؛ فيما ترى هندستهم هي أمُّ الخراب؛ لذلك لا يتردد جنونك في اقتراح هدم ما أنجز العقل لتعيد فوقه بناء ما تعتقد أنه أصل المسألة.
في الجنون الفائض يتحول الأمر إلى محاولة إعادة بناء العالم بما فيه ضمن مزاج لا يخلو من مرض. الوصول ببعضهم إلى تلك الحال اصطناعاً لن يتيح للعالم مساحة من عقل يمكن الاتكاء عليه ولا مساحة جنون يُظن أنها مشروع إنقاذ للعالم في ظل منهجيات ونظريات تأخذ به إلى مزيد من الأفق المسدود ومزيد من تراكم العقد والمشكلات.
جنون فائض لن تكون نتائجه استواء وضع ولا حتى استواء شيء في محيط هائج عدا استواء الإنسان في محيطات من استهدافه، لا من مخلوقات خارج تصنيفه؛ بل من مخلوقات ينتمي إليها وتنتمي إليه. الفارق أن جنون لحظة أتى بها لتتصدَّر المشهد والمصير للبشر كل البشر.
وبقدر حاجتنا إلى جنون يعيد الرشْد إلى هذا العالم والمتحكّمين بأعصابه ومفاصله، نحتاج إلى ما يرشّد ذلك الجنون. يأخذ بيده إلى حيث المساحات البائسة والمظلمة والكالحة ليضفي عليها شيئاً من إمكانات الرؤية والعبور بها إلى أفق يَرى ويُرى.
أؤمن أن السياسة لا عقل فيها. جنونها في حدّه الشاذ والمدمر. حدّه الذي يرى العالم ابتدأ منه وينتهي به. عقل كذاك لا عقل فيه وجنون كذاك هو أكثر من قنبلة موقوتة. إنه جرعة زائدة من الانحراف أكثر منها جرعة زائدة من الأخلاق.
يبرز الجنون اليوم في التشطير والتقسيم ومحاولة إنقاذ خلل مقيم ومؤبد وتجاوزات أصبحت عرفاً لا تكتمل الأخلاق من دونه تكريس مزيد من صوره وشواهده. جنون يرى في التآلف والاتفاق تآمراً عليه. هو المتوهم قدرته على إعادة النظر في تقسيم البشر والخريطة التي يتحركون فيها والقيم التي تحكمهم. هو المتوهم موهبته في إخضاع العالم بكل مخلوقاته إلى إرادة مزاجه وانفعالاته.
جنون له قدرته على تخليص الحياة من عقلها المتكلس الجامد الثابت المؤتِمر بما يفرض عليه، وجنون هو على الضد من ذلك، يحيل الحياة إلى مساحة لاغتيال العقل المدبر للحياة، يعمل على مصادرته وتغييبه والزج به في أتون الهامش وأكثر من غيابة جب.
يذهب العقل في كثير من الأحيان إلى التشطير. إلى تحويل علاقات البشر وأواصرهم إلى جزر معزولة لا يمر بسواحلها أحد. يذهب الجنون في كثير من الأحيان إلى. تصحيح الوضع. جعله على سكة امتداد البشر في علاقاتهم وقدرتهم على التواصل بحميمية بالغة. لا تفت في عضدهم وسائل إغراء سهلة في الاتصال. يضعون ذلك جانباً ويبادرون في تواصلهم المباشر بحثاً عن دفء يفتقدونه في شتاء الوقت. وجحيم عقل بُرمج على اغتيال كل معنى جميل في الحياة.
كم من مجانين فارغين اليوم ممن يعبثون في الحياة؟ وكم من مجانين هم ما بعد خريطة العقل يمكنهم أن يصلحوا أوضاع العالم فيما هم أسرى رفضهم من مجتمعات تتدرَّع بالعقل فيما هو منها براء؟ كم من العقلاء الذين لا يخلو عقلهم من جنون منتج هم في آخر اهتمام حتى الذين يبحثون عن مخارج لأزماتهم؟ أزمة جنون لا يطل علينا في هيمنة عقل لا يحرج شبراً من الحياة تحسيناً لظروف وقيمة بشرها. أزمة عقل يراد له أن يكون غائباً أو مغيباً. عقل يزيد من شقاء الإنسان الذي يراد تدجينه ووضعه تحت إقامة جبرية بعيداً عن التفكير والقيمة والمعنى.
هو الجنون الفائض إذا تجاوز قيمة الحياة انتهاكاً واستلاباً لها. هو ندرة عقل حين تتراجع مبادرات احتواء ما يدفع هذا الكوكب إلى الانتحار بسكانه. كل بحسب قدرته على التعاطي مع المراحل والأزمنة والبشر. هي أزمة توقيت بين عقل منقذ ومورط في الوقت نفسه، وجنون مطلوب في عقل معطل شرط ألا يأخذ بالحياة إلى مجهول هي تعاني منه وفي اللب من تفاصيله
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3468 - الإثنين 05 مارس 2012م الموافق 12 ربيع الثاني 1433هـ