العدد 3465 - الجمعة 02 مارس 2012م الموافق 09 ربيع الثاني 1433هـ

الأدمغة المهاجرة... بضاعة نخسرها مرتين

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أقرَّت الجزائر قبل أيام قرارًا يُمكن أن يُحتذى به عربيًا. القرار الوزاري المشترك، الذي تم عقده ما بين وزارات التعليم العالي والبحث العلمي والمالية، مجتمعين، يقضي بوضع امتيازات مادية مُغرية تشمل النقل والإطعام والإيواء المضمون، تمنَح لأصحاب الأدمغة من الباحثين الجزائريين في الخارج، كي يأتوا إلى بلادهم، للعمل على إجراء بحوث علمية، حتى ولو كانت إقامتهم غير دائمة. وهو القرار الذي بدأ يصِل فعلاً للكثير من أؤلئك الباحثين في الخارج.

الرقم المدهِش في الموضوع، أن هناك خمسين ألف باحثٍ جزائري مهاجرين إلى دول مختلفة، ومتخصصين في عدة مجالات. وإذا ما افترضنا، أن بحثًا واحدًا يتسم بالجدّيَّة والجِدَّة، قدمه كل واحد منهم، فهذا يعني أن الجزائر، ستشهد براءة للاختراعات، أو في أضعف الأحوال، تحديثات على العلوم، من شأنها أن تعيد النظر في الكثير من الخطوط والخطوات العلمية المتبعة. فالمعروف، أن العلوم تتطور، وما كان مُثبتَاً قبل خمسة أعوام أصبح منفيًا في عالم اليوم.

كثيرٌ من الدول العربية تعاني ذات الأمر، الذي تعاني منه الجزائر. وهذه الدول تخسر أدمغة أبنائها المهاجرة مرتين. المرة الأولى، من التكاليف، التي أنفقتها في تعليم هذا الكادر المهاجِر، والتي تصِل في أحيان كثيرة، إلى مئات الآلاف من الدولارات من تعليم وتدريب ودورات متوالية. والمرة الثانية، بفقدانها إيَّاه، بعد هجرته القسرية أو الطوعية من البلد. هذا الأمر تكرَّر في أكثر من بلد عربي، يواجه مشكلات سياسية وأمنية ومعيشية في الداخل. فصاحب الدماغ الباحث، لا يحتاج فقط إلى أكل وشراب فقط، وإنما يحتاج إلى ما أكبر من ذلك، يتعلق بالفضاء الحر.

إذ لا يمكنه العيش في بلد تحكمه قبضة أمنية، وقيود على حرية التعبير، أو يعيش بيروقراطية إدارية، تقوم على تقديم أبناء الذوات على آخرين هم أحق بالمناصب العلمية والإدارية. كما إن غياب المواطنة الشاملة والجامعة، والتمييز على أساس العِرق والدين والانتماء السياسي والفكري بين الشعب الواحد، لا يخلق مساحة من الأمان الجمعي ولا الفردي، الأمر الذي يدفع بالعديدين إلى الهجرة للخارج، واستفادة دول أخرى، لم تدفع دولارًا واحداً لا في تعليمهم ولا في تدريبهم ولا في توظيفهم، بينما تخسر الدول التي قامت بذلك!

وإذا ما راجعنا الكثير من البحوث العلمية التي قامت بها الولايات المتحدة الأميركية، سنجد أنها قامت على عقول مهاجرة من بلدانها، بما فيها ألمانيا النازية، التي حاربتها الولايات المتحدة في منتصف الحرب الكونية الثانية تقريبًا. هذا الأمر تكرر حتى بالنسبة للمستعمرات التي أقامتها إسبانيا في أميركا اللاتينية قبل ثلاثة قرون من الآن. وربما نلاحظ، أن الكثير من العلماء والمفكرين الأوروبيين، كانوا يحظون حتى بمسائل انتساب وطني قانوني مزدوج من حيث الجنسية، فترى جزءًا منهم سويسريين لكنهم نمساويون في الآن ذاته.

الموضوع كذلك، مرتبط بمسألة أخرى، تتعلق بمدى الاهتمام بأدوات البحث العلمي في الجامعات والمعاهد العربية. فالموازنات المرصودة، والكفاءة الإدارية المصاحبة له، تكاد تكون متواضعة إلى الحد الذي لا يجعل هناك حافزاً ذاتياً وعلمياً نحو الانخراط في هكذا أجواء أكاديمية لا تتضمن أبسط مقاييس التنافس العلمي، ولا القدرة على ابتكار اختراعات ورؤى علمية، سيكون مصيرها رفوف الكتب، ولا ينفض عنها الغبار إلاَّ في حفلات التكريم الكرنفالية.

خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، أنفقت واشنطن 16 تريليون دولار على تطويرات في البحوث العسكرية والمدنية، حتى بلغت مرحلة من التقدم العلمي، لم تستطع فيها دولٌ أوروبية كبرى أن تحاكيها. بل إن الولايات المتحدة الأميركية، أنشأت المجلس القومي للبحوث منذ العام 1916. صحيح أن الدافع كان داخلاً في قضية صراع دولي، لكن الولايات المتحدة وحتى بعد انتهاء الحرب الباردة لم تتخلف عن ذلك الاهتمام.

ونحن اليوم في العالم العربي، وفي الوقت الذي تخوض فيه الأمة معركة حضارية ومصيرية مع الكيان الصهيوني، مازالت مساعينا في ذلك المجال متواضعة جدًا. في الوقت الذي نرى فيه كيف أن تل أبيب، تحارب خصومها ليس بالحروب العسكرية والاستخبارات فقط، وإنما حتى بالعلم والبحث. لذلك، نحن نرى أن نسبة الأدمغة العالِمة في الكيان الصهيوني هي في مستويات عالية جدًا إحصائيًا، وخصوصًا في المجالات الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية.

والجميع يعلم، أن تل أبيب أنشأت معهدها للجيولوجيا بعد قيام الدول العبرية بعام واحد فقط، أي في العام 1949. ثم أنشأت معمل الفيزياء المتطور بعده بعام فقط. ثم أقامت بشكل متتالٍ معاهد تكنولوجية متخصصة في المجالات العسكرية والفضاء، ورصدت لها موازنات فلكية. بل إن موازنة معهد وايزمان السنوية بلغت مليار ومئتي مليون دولار، في حين أن موازنة جميع المعاهد والكليات والجامعات العربية مجتمعة لا تزيد عن 800 مليون دولار. هكذا تتحدث الدراسات والأرقام الرسمية.

لم يعد إنفاق أربعة دولارات للفرد الواحد في مجال البحث العلمي، مُجديًا في هذا الوقت. ولم يعد ممكنًا كذلك، أن تخصص الجامعات العربية واحد في المئة من موازنتها للبحث العلمي، في الوقت الذي تصل فيه موازنات جامعات غربية إلى أربعين في المئة. هذه المعادلات يجب أن تتبدل. صحيح أن هناك وعي بخطورة ذلك المنهج، لكن الوعي بالشيء فقط لا يحل الإشكال. بل إن معالجته على استحياء هو أيضًا داخل في المعالجة الترقيعية، وبالتالي فإن الموضوع أكبر من ذلك بكثير. لذا فإن أكبر تحدٍّ يواجه العالم العربي اليوم هو إعادة النظر في مجمل الخطط الأكاديمية في مجالات البحث العلمي، لكي نكون فعلاً بحجم المعركة المستعرة

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3465 - الجمعة 02 مارس 2012م الموافق 09 ربيع الثاني 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 10:17 ص

      مع او ضد

      انا شخصيا مع هجرة الادمغة ليس عدم حب لبلدي و انما لنحسس المسؤولين بقيمة تلك الكنوز

    • زائر 4 | 1:04 ص

      لقد تعالجت لدى طبيب بحريني حادق خارج البحرين

      شاءت الاقدار قبل فترة ان اتعالج على يد طبيب بحريني ولكن ليس في البحرين بل خارج البحرين وتساءلت لماذا لا تعمل في بلدك فاجابني بلدي لا تقدرني ولا تريدني.
      وبسبب نجاح هذا الطبيب فقد طلبه احدى المستشفيات الامريكية وهو يعمل هناك بوظيفة مرموقة.
      طبعا البعض هنا في البحرين لا يهمه ذلك فهم يساعدون على تطفيش هذه الكفاءات حتى يخلوا لهم الجو.
      وبهذا الافعال وغيرها سوف تسير البلد الى الوراء كل ما تقدم العالم تاخرنا ولا يهم اهم شيء جيوبهم مليانة والوطن بالطقاق

    • زائر 2 | 11:38 م

      رقم مهوووووول

      أنفقت واشنطن 16 تريليون دولار على تطويرات في البحوث العسكرية والمدنية

    • زائر 1 | 11:19 م

      يتبرعون بهم

      مع الأسف ان الكثير من الدول العربية تقوم بالتبرع بأبنائها الباحثين والعلماء إلى دول أخرى دون مقابل وهذا الامر يشكل مأساة على البلد

اقرأ ايضاً