عندما كنت صغيراً كان ابن عمّتي خالد يدرس في أميركا، وبما أنه كان الحفيد الوحيد، في تلك الأيام، الذي غامر وسافر عبر الكرة الأرضية للدراسة، فلقد كان سفره وعودته حدثين مشهودين في حياة العائلة كلها.
ففي يوم سفر خالد كنا نجتمع في بيت عمتي لتوديعه. فالنساء يقبلنه ويحتضنه ثم يبكينه ويدعون له، أما الرجال فلقد كانوا ينطلقون خلفه بسياراتهم في موكب أشبه بتظاهرة عامة. وفي يوم عودته، كان أفراد العائلة يملأون قاعة الاستقبال في المطار احتفاء بقدومه، ولم تكن عمتي تتهاون في صنع وليمة ضخمة لاستقباله وكل أفراد العائلة الذين أتوا لتهنئتها بسلامة وصوله.
لقد كان السفر في الثمانينيات عبارة عن حدث أسري واجتماعي، فلا يفوت المسافر، حتى وإن كان ذاهباً للسياحة، أن يزور أهله وأصدقاءه قبل السفر للسلام عليهم أو كما كان يُقال «لتوديعهم» في مشهد درامي مليء بالدموع؛ وكأنه ذاهب إلى حرب قد لا يعود منها! وغالباً ما كان يحدث ذلك إذا كان مسافراً بالطائرة، أما إن كان بالسيارة فإنه لم يكن يعتبر سفراً حقيقياً.
تبهرني الطائرة كثيراً، وعلى رغم كثرة أسفاري إلا أنني لا أنفكّ أفكّر في الجانب العلمي والعجائبي الذي تمثله الطائرة لنا كبشر. فما عادت مجرد آلة، بل أصبحت مؤشراً على التقدم الحضاري للبشرية، وعنصراً حيوياً يخلق رؤى جديدة لنظرة الإنسان إلى حياته ومتطلباته فيها.
لقد ألغت الطائرة، إلى حد بعيد، فكرة المغامرة، فيمكن لمن يقرأ هذا المقال أن يصل إلى القطب المتجمد الشمالي خلال يومٍ واحد، ولذلك فإننا لم نعد نشعر بأننا نفارق حقّاً. إلى جانب ذلك، فإنك قد تطلب كتاباً من شركة أمازون القابعة في سياتل، ويصلك بالطائرة خلال يومين، أي أنه صار أسهل من ذهابك إلى إحدى المكتبات الموجودة في مدينتك، وخصوصاً إذا كانت شوارعها مزدحمة معظم الوقت.
لقد جعلتنا الطائرة أقل اهتماماً بالمشاعر؛ حيث إنني أكتب هذا المقال وأنا خارج البلاد ولم أتكبّد عناء إخبار إخوتي وأخواتي بسفري. يقع بيت أخي خلف بيتي ولا يعلم أحدنا متى سافر الآخر ومتى عاد، كل ما يهمنا هو أن نجتمع في بيت العائلة للغداء يوم الجمعة. لم نعد نلتقي لنعبر عن تمنياتنا لبعضنا السلامة في السفر، وفي الحقيقة لم يعد يهمّنا إن ابتعد أحدنا أو اقترب، وأجزم بأن الطائرة هي السبب الرئيسي في هذا البرود الاجتماعي الذي تعاني منه معظم مجتمعات العالم.
قد تصيبنا الطائرة بالإحباط والملل في أحيانٍ كثيرة، وعلى رغم أنها تمنحنا شيئاً من الحماس لبعض الوقت، إلا أنه ما يفتأ أن يتراجع عندما نعاود زيارة المكان نفسه، حتى وإن كان بطائرة أكثر تسلية وسرعة من التي حملتنا إليه قبل عدة أشهر. وبسبب الطائرة، صرنا أكثر تهرباً من التزاماتنا الاجتماعية، في الأعياد والمناسبات، وباتت الرسائل النصية الباردة كافية للتعبير عن مشاعرنا الأكثر برودة، تجاه أهلنا وأحبابنا.
ولقد أصبحنا أقل انبهاراً عن ذي قبل بسبب الطائرة؛ فما عدنا نحكي لبعضنا البعض عن رحلاتنا واكتشافاتنا الجغرافية الجديدة؛ فقد تتحدث عن زيارة مدينة ما ثم تكتشف بأن معظم الجالسين معك قد زاروا المكان نفسه. يبدو لي أننا فقدنا كثيراً من الأحاسيس الجميلة في سبيل الحصول على أشياء جميلة، وننسى أنها تكون جميلة عندما نشعر بها وليس عندما نحصل عليها.
أكتب لكم هذا المقال من الطائرة، ومن جهاز آي فون، وكم شعرتُ بالسخرية من نفسي الآن عندما تذكرتُ بأنني طلبت من مضيفة قبل بضع سنوات ورقة وقلماً لأكتب مقالاً... لقد كان شعوراً مميزاً عندما انتهيتُ حينها من الكتابة؛ فلقد أحسست بأنني كاتب فذ يكتب في أي مكان وتحت أي ظرف... يا للحماقة! ها أنا الآن أكتب في جهاز فذ ذي لوحة مفاتيح تنير في الظلام إلا أنني ما عدت أشعر بتلك السعادة، ربما لأنني لستُ فذاً كما كنت أتصور، أو ربما، لأن الطائرة لم تعد مغوية مثلما كانت قبل سنوات.
ها نحن نسافر ونعود، كما كان يفعل خالد، دون أن يودعنا أو يستقبلنا أحد. ليس لأنه لا أحد يهتم بنا، ولكن لأن السفر لم يعد كما كان، عملاً يثير الشجن، ويهز المشاعر لما فيه من فراق ولقاء.
أنا لا ألوم الطائرة، فلقد جعلت حياتنا أسهل وأسرع. ولا ألوم البشرية، لأنها تحيا وتنمو أكثر كلما اخترعت أكثر. وما عدتُ أطالب من أحد أن يودّعني في المطار، فسيارات التاكسي صارت تملأ المدينة. ولكنني أرجو ألا يأتي يوم نرسل فيه موتانا إلى المقبرة في سيارة تاكسي، ثم نبعث إلى ذويهم رسالة نصية نعزيهم فيها، وقضي الأمر
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3465 - الجمعة 02 مارس 2012م الموافق 09 ربيع الثاني 1433هـ
دمت مبهرا ..
استاذ حارب .. انا متابع "جيّد" لما تخطّه هنا من مقالات فيها الكثير من الطرافة والثقافة والحكمة .. ارى في مقالاتك "واحة" الوسط بحيث نلقي اعباء مقالات السياسة ههنا لنتنفس معك رائحة التراث والقرى والحواري القديمة .. و الحكايات الشيقة التي تشي بذائقة أدبية وفكرية قيّمة ..
شكرا لقلمك الرشيق الأنيق ولذوقك وحضورك الجميل ..
دمت مبهرا ..