اشتهرت «عروس الخليج» أو جزر البحرين منذ القدم بخصوبة تربتها وتوافر المياه الطبيعية العذبة والغطاء النباتي الذي كان يحيط بها حتى عُدت قراها الوارفة الظلال بالعشرات. أضف إلى ذلك، غنى بحرها بأجود أنواع اللؤلؤ لدرجة أن أهل الخليج من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه؛ كانوا يتقاطرون بسفن الغوص لصيد المحارات من هيراتها التي تنمو قرب «الجواجب» العذبة وسط الماء المالح، فهي «بحرين». وكان أهل الجزر يعيشون وضعاً طبيعياً في أمن وسلام بما قسم لهم رب العباد من تلك خيرات أرضهم وبحرهم.
ولكن مع تعاقب السنوات وكثرة الهجرات إلى هذه الأرض صار الوضع قلقاً بسبب طمع الجيران قبل الأعداء من الخارج في ثروة الجزر من لؤلؤ وزراعة وموقع إستراتيجي نُحسد عليه إلى اليوم. وبسبب تلك الأطماع في «عروس الخليج» ومع خطب ودّها وهي تصدهم مرة تلو أخرى؛ ولكنها آلت أخيراً إلى ما أدى إلى تناقص تلك الثروة الضخمة بسبب الجشع وطريقة الاستحواذ غير الطبيعية وكثرة الاستهلاك المستنزف والمدمر للثروة البرية والبحرية بلا رقيب ولا حسيب، حتى أضحى الوضع غير طبيعي وغير آمن. وتبلورت تلك الأوضاع غير الطبيعية مع مطلع القرن العشرين خصوصاً بعد أن قررت السلطة الاستعمارية البريطانية في الهند والخليج أن تستخرج «الكعكة البحرينية» من درجة التجميد عند نقطة «الاستحواذ والاحتكار» لتضعها في طبق إنجليزي فاخر يسمى «الحماية» وتتلذذ بأكلها وحدها.
إلا أنه وكي لا يحسدها بقية الطامعين الذين سال لعابهم طويلاً على تراب شواطئها؛ حددت من هم الضيوف الذين في الإمكان دعوتهم لمشاركتها في جزء بسيط من تلك الكعكة المشبعة بالكريم والفواكه الطبيعية الطازجة آنذاك. وعندها لم تعد الأوضاع طبيعية ولا الأجواء صحية، سواء بسبب طريقة الآكل أو الضيوف المشاركين الذين اعتبروا أنفسهم في منزلة الإنجليزي الأكول إن لم يكن أحق منه بالكعكة. هنا بدأ الأوكسجين يقل في أجواء الجزر وازداد ثاني أوكسيد الكربون وتحول الوجه المليح لـ «عروس الخليج» من الاخضرار إلى الاصفرار، وعذوبة الماء إلى ملوحة، وصفاء اللؤلؤ إلى عتمة وظُلمة إثر استبدال الهيرات الأصيلة بهيرات تُباع وتُشترى على الورق.
ومن هنا بدأت الجزر تعاني من إمساك في كل شرايينها هددها بالتضخم والانفجار الحتمي لاحقاً في مجمل الوضع الذي عصف بها في مطلع العشرينيات من القرن العشرين خصوصاً بعد ما عُرف بإصلاحات الوكيل السياسي البريطاني في البحرين. فتقدم بعض الخيرين والطيبين من أهل الجزر وهم من أعيان البلاد وكبار تجارها في العام 1934 بمحاولة علاج الاصفرار والملوحة ورفع الظُلمة ولو بإعادة جزء من «الهيرات» المدمرة إلى وضعها الطبيعي، ومن ثم إعادة الغطاء النباتي ومعالجة الإمساك. أُطلق على هؤلاء العطارين «مجموعة الثمانية» وهم (منصور العريض، عبدعلي العليوات، محسن التاجر، عبدالرسول بن رجب، الحاج عبدالعزيز بن حجير البوري، أحمد بن ناصر، حسين المدحوب، والحاج علي بن عباس العالي)، ولكن تم إهمال علاجهم الموصوف على يد أمهر العطارين آنذاك. فتراكمت المخرجات الفاسدة وازدادت الآلام في الجسد مع طول المدة.
ومرة أخرى أزعج تواصل الإمساك بعض الأطباء المتطوعين هذا المرة، يوم كان الطبيب مقدراً ومحترماً من الجميع في الثلاثينات، فتقدموا بعلاج مفيد لذاك الإمساك؛ إلا أنه مرة أخرى يتم إهمال العلاج فزاد الإمساك تطوراً حتى تحول إلى تقيح أدمل الجلد الخارجي. ومرة ثالثة حاول بعض المشخّصين وهم (يوسف فخرو، منصور العريض، السيدسعيد بن السيدخلف، ومحسن التاجر) وصف علاج ناجع للإمساك المزمن ولم يفلحوا للأسف. ثم في الخمسينيات تقدم بعض الاختصاصيين من أطباء خدمة المجتمع بحق، وهم من أهل الخير ومن خيرة سكان الجزر، بعلاج دائم لهذه المشكلة المزمنة برمّتها وإيجاد حلول ناجعة لكافة المشاكل وبخطة واضحة المعالم لإعادة الاخضرار للأرض العطشى وتنقية الشوائب في الماء الذي استملح وللتربة التي ذوت. وتم هذه المرة دراسة ما تقدم والنظر بجدية نوعاً ما للعلاج المتقدم به من قبل الأطباء المتخصصين هؤلاء. ولكن بين ليلة وضحاها نُسفت جهودهم وطُمرت علاجاتهم وسُحلت أوراقهم ومُزقت صُحفهم. فاكفهرت الأجواء بينما الدماء تطفح على جوانب الإمساك الذي تفجر من خاصرة البطن ولم يعد الوضع طبيعياً كما كان أبداً ومازال معقداً. فما هو هذا الإمساك؟ وكيف يمكن علاجه؟
هناك نوعان للإمساك؛ طبيعي وسياسي. الأول تمر به المجتمعات البشرية ويمكن علاجه بشيء من الأدوية وبالتأني والصبر ليكتمل علاج الجسم. أما الإمساك السياسي الذي يصيب الجسد فيكمن علاجه كذلك ولكن بكثير من الإرادة والحكمة وأدوية الديمقراطية الفعالة في شقها الحقيقي وعالي الجودة من مصانع الحرية بمعنى الكلمة كما حاول بعض أطباء الجزر فعله سابقاً ومرراً، وليس الدواء التجاري الرخيص الثمن من مصانع لقلقة اللسان والتمويه. ومهما كان الدواء الناجع مراً في طعمه، فليس كل ما في الحياة من حولك حلو، كما لا يمكن أن تتذوق الحلو دائماً وتُجرع غيرك المر تكراراً!
ومن أهم تلك الأدوية، التي سنستعرضها عند فتح «دليل المتحيرين لشفاء الأمراض المزمنة»، تعويذة «المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية» مع شيء من الإرادة السياسية، مع قراءة قول صاحب رأس الحكمة أبداً، وذلك قبل النوم ثلاث مرات: «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه». وبعدها فقط يمكننا البدء بترديد قول «الوضع طبيعي وآمن»، وإلا سيبقى الإمساك يحيط بنا جميعاً في الجسد نفسه ما يؤدي إلى تعطل العقل عن الفهم لأنه إمساك عن الفهم لمن تم تنويمه بشتى السبل والمغريات فران تأثير الإمساك على بصيرته، وإن بدا بصره ناظراً لك وهو في رغد من عيش ولكن في بلاهة من فهم.
فالرجاء ممن يؤمن بأن «كل شيء طبيعي»، أن يعطينا أولاً دواءً ناجعاً، وليس مهدئاً ومسكناً مؤقتاً لهذا الإمساك السياسي المزمن، حتى نُؤمن جميعنا بأن الوضع فعلاً «طبيعي» وأن كل أنواع الإمساك تم التغلب عليها في الجسد ذاته. أليس؟
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3461 - الإثنين 27 فبراير 2012م الموافق 05 ربيع الثاني 1433هـ
كل شيء غير طبيعي وغريب كالشيطان لأنه إمساك متعمد عن الفهم
لأنه إمساك متعمد من اصحاب المراكز والمنافذ والمصالح الأ باليس الموجب تطويقهم اولأ ومنعهم بكل شيء من الإرادة ألسياسية ثم العدالة ألانتقالية ومن ثم المصالحة الوطنية بحكمه يمكنناعلأج الإمساك السياسي وانقاد الجميع من الأمه لأن البديل سيكون جراحه عميقة لدكتور جراح ماهر كل المصابين يريدونه وهو لم يظهر بعد