في الفصول السابقة من هذه السلسلة تناولنا عدة معتقدات من مثل «العين الشريرة» و«التابعة» و«المبدل» وعلاقتها بالأم الحامل والطفل، ويرى بعض المنظرين أن هذه المعتقدات ما هي إلا مجرد «تبرير» تستخدمه الجماعات الشعبية لتخفي عدداً من الممارسات التي تواطأ أفرادها فيما بينهم للقيام بها، وهي من ضمن عدَّة تبريرات تم تعزيزها بين أفراد الجماعة الواحدة عن طريق فرضها من قبل أفراد ذات قيمة رمزية معينة في الجماعة أو بمعنى آخر أصبحت تلك التبريرات «عنفاً رمزياً» يُمارس على أفراد الجماعة من قبل الأفراد المهيمنة على هذه الجماعة. وبذلك أصبح معتقد «التابعة» أو «القرينة» أو «ليليث» (النسخة العبرية لها) تبريراً عملياً لعمليات الإجهاض الروتينية التي كانت تُمارس في تلك الأزمنة، أو عملية خنق الرضع الحديثي الولادة، وأصبح معتقد «المبدل» شماعة تعلق عليه كل الممارسات الشنيعة التي كانت تُمارس ضد الأطفال والتي من ضمنها القتل، فعند السؤال «من أجهض الحامل؟» «من قتل الرضيع؟» «لماذا ضرب الطفل؟ ولماذا خنق؟ ولماذا أحرق؟»، فإجابات تلك الأسئلة كانت معروفة وهناك تواطأ بين أفراد الجماعة والسلطة المهيمنة لقبولها، فالتابعة أجهضت الحامل وخنقت الرضيع، وضرب الطفل لأنه «مبدل»، أما الطفل فلم يخنق ولم يحرق بل خنق وأحرق «ابن الجنية» البديل.
ومع مرور الزمن أصبحت تلك الإجابات روتينية حتى اعتقدت الأجيال اللاحقة بأن تلك الأسباب حقيقة مسلم بها وأخذت تمارسها كطقوس مررت لها عبر آليات مختلفة من النقل الثقافي وأصبحت جزءاً من عقيدتها. وهناك عدد من القصص الدالة على ذلك، منها ما ذكرناه في فصل سابق مثل قضية الزوج الذي أحرق زوجته لاعتقاده التام أنها «جنية» وليست زوجته. وتذكر Josephine McDonagh في كتابها Child murder and British culture 1720-1900 عدة قصص مشابهة، منها قصة حدثت العام 1828م وهي قصة المرأة التي قتلت طفلاً، وعند محاكمتها أقرت المرأة أنها لم تقصد قتل الطفل بل أرادت علاجه لأنه «مبدل»، وبذلك لم تدنها المحكمة، وكذلك قصة حدثت العام 1852م وهي قصة رجل أحرق طفلاً حتى الموت، إلا إنه لم يحاكم أبداً، لأنه لم يقتل طفلاً آدمياً بل قتل «مبدل» (McDonagh 200،p. 189).
بالطبع، هذه ليست مجرد فرضيات ونظريات سردية تم التنظير لها من قبل أشباه المنظرين بل هناك دراسات علمية دقيقة تعتمد على علم الجينات وعلم السلوك الوراثي وعلم النفس، ويمكن الرجوع لأسس هذه النظريات وشرحها المفصل في كتابي المفكر الأميركي Lloyd deMause وهما «The Emotional Life of Nations» الذي نشر العام 2002م، أما الكتاب الثاني فهو The Origins of War in Child Abuse والذي نشره على فصول في دورية The Journal of Psychohistory ونشير هنا بالتحديد للفصل التاسع الذي نشر العام 2010م. وسنتناول في الفصول المقبلة تفاصيل هذه النظرية وكذلك سنتناول نشأة وتطور ثقافة قتل الأطفال.
مما سبق نستنتج أن معتقد المبدل أو التابعة لا يمثل الصورة الكاملة بل هو جزء من صورة أكبر وهي «ثقافة قتل الأطفال». وهذا ما يؤكده Evans Wentz في كتابه The FairyFaith in Celtic Countries؛ إذ يرجّح ارتباط معتقد المبدل بتقليد التضحية بالأطفال (Evans Wentz، 1911، PP. 246). فمن السهل جداً التضحية بطفل مريض أو طفل غير مرغوب فيه بحجة أنه مبدل.
أضف إلى ذلك، أن من يقوم بممارسة طقوس عنيفة ضد رضيع أو طفل صغير يحتاج إلى تهيئة نفسية معينة، ولو نظرنا إلى طقوس علاج أو استرجاع المبدل سنجد أن العديد منها تعتبر طقوساً قاسية على الرضيع وقد يؤدي ذلك إلى موته أو إن الرضيع أو الطفل يتم بالفعل قتله أو حرقه أو إلقاؤه في البحر أو النهر، ومثل هذه الطقوس تذكر في بعض الكتب وكأنها أمر اعتيادي اعتاد عليه الناس حتى أن المحاكم لا تدين من يمارسها، وبالتاي فإن إيذاء الأطفال أو الرضع حديثي الولادة لم يكن بالأمر المستغرب في تلك الحقب الزمنية وهذه حقيقة يؤكدها deMause في دراساته سابقة الذكر. وليس فقط الإساءة للأطفال بل قتلهم أيضاً، ويصرح deMause أن قتل الأطفال وبالتحديد الرضّع الحديثي الولادة Infanticide كان روتينياً في أوروبا حتى نهاية القرون الوسطى أي أنه يمثل ما يشبه الثقافة التي لم تنحصر على شعوب معينة بل انتشرت في العديد من الثقافات والشعوب القديمة وقد استمر بصورة أو بأخرى حتى القرن العشرين منحصراً بصورة أساسية في الهند والصين، وقد كانت الأنثى هي الأكثر استهدافاً في عملية القتل هذه.
خلاصة الأمر، أن الأم التي تكون قادرة على إيذاء ابنها أو ابنتها لأي سبب كان لابد وأن تكون هذه الأم قد ولدت ضمن ثقافة تعتبر إيذاء الأطفال أو قتلهم من الأمور الطبيعية؛ وبالتالي لا يمكن أن نناقش نظريات تبرير وجود معتقد «المبدل» دون أن نناقش الثقافة التي عززت هذا المعتقد وجعلت الطقوس القاسية المرتبطة به تستمر لحقب زمنية طويلة. وهنا أؤكد كلمة «الأم» فهي الأساس، فبمثل ما تعامل الأم يكون النسل، فالأم تساهم بصورة أساسية في آليات النقل الثقافي الذي أدى إلى انتشار ثقافة العنف ضد الأطفال وهو ما سنتناوله بالتفصيل في فصول لاحقة.
هناك أربع عمليات أساسية أدت إلى انتشار ثقافة إيذاء الأطفال أو قتلهم في المجتمعات القديمة والتي استمرت لفترات زمنية طويلة ومازالت آثارها واضحة حتى يومنا هذا، هذه العمليات بدأت أولاً بعملية قتل أولى لمصلحة فردية ثم تلتها عمليات قتل أخرى لمصلحة عدة أفراد، ثم بدأت بعدها عمليات التبرير والتواطؤ بين أفراد الجماعة الواحدة لقتل مزيد من الأطفال وذلك لمصلحة الجماعة، ومن أوائل تلك التبريرات هو الخوف من حدوث مجاعة (Mungello 2008، p. 2)، وهكذا تم التأسيس لثقافة قتل الأطفال لأجل المصلحة العامة للجماعة، هذه الثقافة قد يعتبرها البعض حدثاً لحظياً مؤقتاً كنوع من التكيف مع ظروف لحظية معينة، إلا أنها ليست كذلك، فهذه الثقافة أحدثت أضراراً معينة وهذه الأضرار قادرة على إعادة تدوير تلك الثقافة، وهنا ندخل في سلسلة متتابعة بحيث تعزز الثقافة استمرار وجود الضرر الناتج عنها، ويعزز هذا الضرر الأخير استمرار الثقافة، وبهذه الصورة تنتقل الثقافة عبر الأجيال وتستمر لفترات زمنية طويلة.
المرجّح أن الشعوب القديمة بدأت بقتل الأطفال الإناث بصورة أساسية (Mungello 2008، p. 6)، ويبدو أن هناك نوعاً من التزامن في تكوين ثقافة قتل الأنثى وثقافة حب إنجاب المولود الذكر، فمنذ فجر التاريخ والأنثى تتعرض للإيذاء، وأبشع ما يمكن أن تتعرض له الإناث هو القتل وهي عادة عرفت في العصور القديمة وفي ثقافات مختلفة حتى عند العرب قبل الإسلام وهي عادة «وأد البنات»، وبقي التقليد ذاته وإن اختلفت الوسائل في القتل؛ إذ أصبحت تمارس في القرن العشرين عادة قتل الإناث في الهند والصين وغيرها وذلك بالاستعانة بالتقنيات الحديثة فكل ما على المرأة هو الكشف عن جنس الجنين فإن كان أنثى تم إجهاضه. وبحسب بيانات منظمة الأمم المتحدة تجرى 40 مليون عملية إجهاض في العالم سنوياً، النصيب الأوفر فيها للإناث، بل إن تسعين في المئة من عمليات الإجهاض التي أجريت في الهند أجريت بعد التأكد من أن الجنين أنثى. وتقول البيانات ذاتها إن نحو خمسين مليون أنثى اختفين من الهند خلال القرن العشرين نتيجة عمليات الإجهاض للجنين أو قتل الأنثى بعد ساعات من وضعها باستخدام عصارة نبات الدفلي ذي الزهرة الجميلة وهي العصارة التي تشبه الحليب، ولكنها سامة قاتلة، لاعتقاد البعض في إقليم سالم الهندي بأن عملية قتل الأنثى هذه تضمن ذكورة المولود القادم. الناس في هذا البلد يتحدون قانون الحكومة الذي يحرم قتل الأنثى والقانون الصادر العام 1994 الذي يحظر تحديد جنس الجنين باستخدام السونار أو غيره من الأجهزة الطبية ويضربون عرض الحائط بإجراءات كثيرة تتخذها السلطات لمنع هذه الجرائم، ولكن العادات والأعراف والأفكار الراسخة أقوى من القانون والإجراءات (إسماعيل 2005)
إقرأ أيضا لـ "حسين محمد حسين"العدد 3460 - الأحد 26 فبراير 2012م الموافق 04 ربيع الثاني 1433هـ