العدد 3458 - الجمعة 24 فبراير 2012م الموافق 02 ربيع الثاني 1433هـ

كن أنت ولا تكن غيرك

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

أيهما أصح أن تركز على جوانب القوة في شخصيتك أم على تنمية جوانب الضعف فيها؟ سؤال طرحته في ورشة عمل موجهة للشباب في إحدى الجمعيات الخيرية، وكانت غالبية من أجاب بالتركيز على نقاط الضعف والبعض أجاب بالتركيز على الجانبين معاً.

اعتذر سلفاً للقارئ عن كثافة الاستشهاد في السطور القادمة ولكنه تم بقصد إحداث أثر نفسي معين، ومحور الارتكاز هنا قول الإمام علي (ع): «قيمة كل امرئ ما يحسنه». هذه الكلمة العظيمة تكشف عن قاعدة مهمة في الموارد البشرية، وقد قال عنها السيد الرضي: «هي الكلمة التي لا تُصاب لها قيمة ولا توزن بها حكمة ولا تقرن إليها كلمة». وقال عنها الجاحظ: «إنها من الكلام العجيب الخطير». وقال عنها الخليل بن أحمد الفراهيدي: «هي أحثّ كلمةٍ قيلت». وهي في تقديري نظرية مهمة تتجاوز النظرية الشائعة في تنمية قدرات الناس وأنه بالإمكان تدريب وتعليم الناس أي شيء وكل شيء وفي جميع المجالات! وتخالف المقولة المتداولة بأن تقوم المؤسسات بالتركيز على نقاط الضعف لدى الموظفين! وأجزم بأن هذه المقولة لا تصدق فقط على الأفراد -وربما تصدق بدرجة أكبر - على الشعوب والأمم.

جميع البشر بحاجةٍ إلى الاعتراف بما يملكون من قدرات وملكات، وكأنهم يولدون وعلى جباههم علامة تقول «أرجوك اعترف بكياني». هذه المشاعر لا تختص بها فئةٌ دون غيرها، فمهما كان المرء متحضراً وفذاً وناجحاً، فإنه يظلّ متلهفاً لمعرفة مكانته في المجتمع. وكثيراً ما وأد الإهمال ملكات متفتحة واضمحلت الفضائل عند أصحابها حين لم يجدوا من يشدّ على أيديهم ويقدح في نفوسهم الإحساس بالاحترام والتقدير. وقد وصف الرسول الأكرم (ص) أصحابه بصفات تميّزهم عن غيرهم حتى يعترف الناس بفضلهم، فذكر «الصديق» و «الفاروق» و «أسد الله» و «سلمان منا أهل البيت»، و «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر»، و «صوت عمي العباس في المعركة بألف فارس». وهذا عيناً ما فعلته سفانة بنت حاتم الطائي عندما جاءت تطلب الشفاعة من الرسول الأكرم (ص) في والدها، وهي ماثلة بين يديه وكانت أسيرةً تعتنق المسيحية، فأبرزت نقاط القوة في والدها قائلة: «إن رأيت أن تخلي عني فإن أبي سيد قومه. كان يفكّ العاني ويُفشي السلام ويحمي الجار ويطعم الطعام ويقري الضيف ويشبع الجائع ويفرج عن الكرب، ولم يرد حاجة أحدٍ قط»، فقال لها الرسول (ص): «يا جارية هذه صفة المؤمن حقاً، لو كان أبوك مسلماً لترحّمنا عليه. خلّوا عنها». فأطلق حريتها وعزّز بذلك منهج الدين في إبراز سمات وملكات الناس مطلقاً، حتى لو لم يكونوا مسلمين. كما لايزال صوت الأمام الحسين مدوياً وهو يصف أصحابه: «ما رأيت أصحاباً أبرّ وأوفى من أصحابي، فما فيهم إلا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلى محالب أمه».

أغلبنا يعلم أن فكرة بنك القرية لمساعدة فقراء بنغلاديش انبثقت من شاب فقير معدم (محمود يونس خاتون)، والحاصل على جائزة نوبل، فلم يكن يونس يملك المال لكنه كان يملك الفكرة، وهي مصدر القوة لديه، حتى أنه اقترض المال في البداية. واليهود لم ينطلقوا من نقاط ضعفهم باعتبار أنهم أقلية عددية، بل عوّضوا القلة بالجد والعمل، وابتعدوا عن ثقافة النياحة. فجائزة نوبل عهدها يرجع إلى أكثر من مئة عام، ومنحت 180 لعلماء يهود، ومنحت 3 مرات فقط للمليار والنصف من المسلمين! ومخترعاتهم تضج بها الأرض: مخترع الإبر الطبية، مكتشف شلل الأطفال، مكتشف لقاح التهاب الكبد الوبائي، مخترع مكنة غسيل الكلى، مخترع الأضواء التي تنظم المرور في الشوارع، مخترع حبوب منع الحمل، مكتشف دواء سرطان الدم (اللوكيميا)، مكتشف دواء الزهري، مخترع غوغل، ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر. وفي عالم الأكل هناك قهوة ستارباكس وآيسكريم باسكن روبنز، وفي عالم الأناقة هناك لألف لوران صانع بنطلونات الجينز.

بل إن الرأسمالية بدأت تعدل من أطروحتها لتبرز نقاط قوتها، فكرّس بيل غيتس مصطلح «الرأسمالية الأخلاقية»، وأطلق هذا المصطلح في سويسرا (المؤتمر الاقتصادي العام 2008). وقال: «على الرأسمالية التي خدمت الأغنياء بزيادة ثرواتهم أن تتحول الآن إلى خدمة الفقراء». وبدأ بنفسه فتنازل عن ثروته، وهذه رسالةٌ قويةٌ إلى الأثرياء العرب إن كانوا فعلاً مصدر قوة. لذا قال الشاعر الروماني هوراس: «لا تنعت أحداً من ذوي الثروات والأملاك بالسعيد، إنما السعيد حقاً هو الشخص الذي يحسن استغلال ما حباه الله به من مواهب وقدرات».

وعمر المختار أسد الصحراء وشيخ المجاهدين تربى يتيماً، لكنه اكتشف أنه يمتلك إرادة فولاذية فحرّر بلاده من المستعمر الإيطالي! وأجاثا كريستي التي أصبحت أعظم مؤلفة في التاريخ من حيث انتشار كتبها وعدد ما بيع منها، انطلقت من خلال قوة وخصوبة خيالها على رغم أنها تلقت تعليمها على يد أمها، وكانت تعاني في صغرها من صعوبة في تهجئة الحروف! أما المذيعة السوداء أوبرا وينفري التي اكتشفت نقاط قوتها في الطلاقة اللفظية والتواصل الإعلامي، فغدت سابع أثرى امرأة في أميركا، وهي التي كانت تعيش مع جدتها في مزرعة لتربية الخنازير في مسيسيبي!

لا يوجد إنسان عبقري في كل شيء. فقط ركز على إبداعاتك وعلى ما تعرف وحاول أن تبرز نقاط قوتك «قد علم كل أناس مشربهم»، «ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات» (البقرة: 148). هذه السطور ليست دعوة للتمسك بما هو سلبي وإنما هي دعوة للسمو بالذات. فحاول أن تكون ما تريده أنت لا ما يريده الآخرون... وتذكر أن «قيمة كل امرئ ما يحسنه»

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3458 - الجمعة 24 فبراير 2012م الموافق 02 ربيع الثاني 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً