لا أحد منا لا يعرف الفرق بين الوردة والرصاصة. بين نص عاطفي وخريطة اغتيال. أين يكمن الخلل في هكذا حَوَل؟ يعي كل منا قدرته على الذهاب إلى الحياة حرّاً، متخلصاً من أسباب إعاقته الأخلاقية والوجودية؛ لكن بيننا في هذا الكوكب الموبوء بأشباه البشر من يرى في الوردة خنجراً على أحسن تقدير، ويرى في حقه في الحياة محاولة لمصادرة الهواء الذي يحيط به؛ لذلك عليه أن يصادر ما يدل على حياة الآخرين. يعمل على مصادرة ذلك الحق الشائع ليدخله في دائرة ملكيته. ويرى في صوت كل حرٍّ محاولة لإسقاط السماء التي يرى أنها فوقه كي تحرس الخراب الذي يمتهنه في منامٍ وصحوة! من المفارقة أن تتوهم شلة، تظل دائماً خارج قلب الحراك في العالم عموماً وعالمها خصوصاً، بأن السماء حق حصري لها. وأنها وكيلة عنها على الأرض. ليس مصادفة هذا الشيوع الذي يراد له أن يكون مفيداً للاطمئنان في الوهم؛ فثمة من يرى أن العالم لن يرفَّ له جفن ما لم يرف جفنه هو؛ وثمة من يرى أن سهره يتطلب أن يتفرغ العالم إلى السهر على سهره! كأنه يراد لنا أن نصاب بجنِّ «المعلقات» بحسب الشاعر محمود درويش في نصه «لاعب النرد»:
«كان يمكن ألا أكون مصاباً ..
بجن المعلقة الجاهلية
لو أن بوَّابة الدار كانت شمالية
لا تطل على البحر».
كي نكون على توافق مع هذا الجنون البذيء الذي يستبيح العقل. لكن لا بحر نطل عليه. لا نطل سوى على الملح في الأراضي التي يراد لها أن تكون من يباب. في يباب له ملامح أول العدم، من دون أن يكون له آخر. في يباب أحلامنا وأعمارنا ويباب الحديد الذي يحكم قبضته على الوردة والندى وفجر الأرواح.
الفارق يكمن في أن الذين يحبون أوطانهم يظلون مصابين بما يعلق بذاكرتهم وأرواحهم. ليسوا مصابين بمعلقات على أستار. أي مبنى أو حتى رصيف. هم مهووسون بما يعيد إلى البشر نضارة أرواحهم وإلى الجغرافية قدرتها على تجاوز التشطير والتقسيم. يغلب المزاح في ذروة الدخان والمآسي والكوارث. عوالم هي الأماكن التي نحيا ونتحرك فيها. ثمة من هو مشغول بالانحناء على حفر قبر ليواري قارة من معنى، وثمة من هو مشغول بالانحناء لتقبيل يد راقصة في ملهى أو يد قاتل أفاض عليه من نعم قبض الأرواح. كيف تستقيم الحياة بهكذا معادلة؟ لسنا في جغرافية من النمل ليسهل سحقها بحذاء لا يكترث بسواه.
والمتاريس وأنظمة الدفاع لم تعد راجمة صواريخ وحاملات طائرات أو جنوداً وأنظمة متطورة في مراقبة الحدود. لا أحد سيتمكن من ضبط النوايا. لا أحد سيتمكن من ضبط المشاعر. علمتنا الجغرافية أن الذين تأبَّدوا فيها خلقاً وحضوراً يظلون أكثر حرصاً على إعمارها من حيث المبنى ومن حيث المعنى، في علاقاتهم والبشر الذين يدينون لهم بحصة عرقهم في ذلك الإعمار. لا أحد يدرك الخسارة التي تسبّبها الهشاشة في الروح والموقف سوى أولئك الذين لم ينالوا حظهم من نعمة الشهادة والتغيير باليد أو اللسان وفي أضعف الايمان بالقلب. تلك وصفة يمكن لأي مفتر ومرتزق ومنتفع أن يلصق من خلالها برسول الأمة (ص) تهمة التحريض على ولاة الأمر، وهو ولي الأمر الأول، فنحن إزاء إرادات متقلبة تقلّب الطقس من حولنا ولا أحد بعيد عن مرمى تخوينها والتشكيك في قيمته.
جسارة وتطاول في الضد من المعنى. يذهب أصحابها إلى تيههم كما يذهبون إلى غرف نومهم؛ أو كما يذهبون إلى بيوت الخلاء. لا فرق. كل شيء خال إلا من المعنى والقيمة. فائض بالفاسد وما يؤذي الجسد والمكان والهواء نفسه عدا الروح، لب المسألة.
الذين يعوِّلون على الحديد ويدَّعون امتلاك أرواح إنما يعوِّلون على الهشاشة من حيث يشعرون أو لا يشعرون. وأميل إلى الأخيرة
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3456 - الأربعاء 22 فبراير 2012م الموافق 30 ربيع الاول 1433هـ
طاب يومك يا جمري
صدقت يرى الورده خنجر عجيب والاعجب من يرى الخنجر ورده ويبوسه بشوق عشان خاطر حبيبه وطنه البحرين....ديهي حر
أين الخلل؟
إن كان في النظّارة أو العدسات التي تُغطّي العيون, فذاك أمرٌ حلّه ميسور!!
و أمّا إن كان في الغشاوة التي تُغطّي القلوب فذاك أمرٌ حلّه معسور.