في العام 1959 كتب السيد الشهيد محمد باقر الصدر نصاً محدود التداول، أتاحه لأعضاء حزب الدعوة الإسلامية، بمثابة أصول ومصادر إلهام للدستور الإسلامي، يتضمن تسعة أسس، يتحدّث في الأول منها عن المعنى اللغوي والاصطلاحي لـ «الإسلام»، والثاني عن أقسام «المسلم»، والثالث عن مفهوم «الوطن الإسلامي»، والرابع عن أنواع «الدولة الإسلامية»، والخامس عن ماهيتها وحقيقتها، وكون «الدولة الإسلامية دولة فكرية»، والسادس عن «شكل الحكم في الإسلام»، والسابع عن «تطبيق الشكل الشوري للحكم في ظروف الأمة الحاضرة»، والثامن عن «الفرق بين أحكام الشريعة والتعاليم»، والتاسع هو توضيح أن «مهمة بيان أحكام الشريعة وتعيين القضاة ليستا من مهام الحكم».
وهذا النص برغم أنه لا يتجاوز خمس عشرة صفحة، غير أنه وثيقة بالغة الأهمية، لتعبيره الصريح عن البناء العضوي لمفاهيم الدولة الإسلامية، والتشديد على الصلة العضوية بين هذه المفاهيم والكتاب والسنة والموروث الفقهي. واهتم الصدر بصياغة رؤية نظرية فقهية، حيال الاقتصاد في الجزء الثاني من كتابه الذائع الصيت «اقتصادنا»، الصادر سنتي 1959-1960 في النجف.
كما حاول أن يبلور موقفاً فقهياً نظرياً تجاه المعاملات المالية والنظام المصرفي وإيداع النقود وتداولها، في كتابه «البنك اللاربوي في الإسلام»، الصادر مطلع السبعينيات من القرن الماضي، مضافاً إلى اهتمامه بالنظرية السياسية في الإسلام، والأطر الدستورية الفقهية للدولة الإسلامية، في سلسلة تتكون من ستة كتيبات، صدرت العام 1979 مقارِنةًً لانتصار الثورة الإسلامية، وتناول من منظور قرآني فقهي شكل الحكومة الإسلامية.
كان الشيخ محمد جواد مغنية، أحد الفقهاء الذين تخرجوا من النجف، وعرفوا بغزارة الإنتاج الفكري، قد أصدر أيام الثورة الإسلامية في إيران العام 1979 كتاباً عرض فيه تصوراته الفقهية بشأن الدولة الإسلامية، أوضح فيه أن مهمات الدولة لا تنحصر في الأحكام الدينية، ولا نص في كثير من القوانين الاجتماعية، ما يدل على تفويضها للعرف والعقلاء.
ومنذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي صدرت آراء شفاهية وتصريحات للشيخ محمد مهدي شمس الدين تؤشر إلى أنه أضحى يفكّر بدولةٍ خارج المدونة الفقهية، لكن تجلى بوضوح التحول لديه والإقلاع عن موقفه السابق في كتابه «نظام الحكم والإدارة في الإسلام» بعد صدور الطبعة الثانية الموسعة المنقحة من هذا الكتاب العام 1990، إذ استبعد ما لا ينسجم مع تفكيره الجديد، وعزّزه بمباحث كشف فيها عن موقف آخر، يختلف مع رؤيته السابقة. وأشار بوضوح إلى عدم توفر دليل في الإسلام يحدّد شكل نظام الحكم، فصرح «ليس في جميع ما استدل به الشيعة ما يتضمن تحديداً لنظام الحكم بعد النبي محمد (ص) وإنما تعيّن النصوص (الإمام/الخليفة) بعد النبي».
في العقدين الأخيرين لمدرسة النجف تمثل كتابات شمس الدين في الفكر السياسي رؤية اجتهادية مواكبة للحياة، ومتطلبات الاجتماع السياسي الإسلامي الشديدة الالتباس والتعقيد والتنوع، وتخلص رؤيته إلى ابتكار مفهوم سياسي يحاكي الديمقراطية وينسج على نموذجها في الحكم، فيستوعب ما يتصل بالإرادة الشعبية والانتخابات والتداول السلمي للسلطة، وما ينطوي عليه النظام الديمقراطي من حقوق وحريات، ويسمي شمس الدين ذلك بـ «ولاية الأمة على نفسها».
وتجلّت بمرور الأيام مفاهيم شمس الدين، وأضحى يتحدث عن الديمقراطية، باعتبارها الخيار الوحيد للمجتمعات الإسلامية، ولم يعد هناك ما هو ديني أو مقدّس في الدولة، بمعنى أنه يقدّم تفسيراً مغايراً لمفهوم الدولة، لا يرتبط بالسماء، وبالتالي تنتقل مشروعية السلطة في نظره، من السماء إلى الأرض، فهو يعتقد «في الإسلام مشروع الدولة كله مشروع غير مقدس، ليس لأنه مشروع مرفوض، ولكنه مشروع ناشئ من طبيعة الوظائف التي تقوم بها الدولة وهي ليست مقدسة في ذاتها في الفكر وفي الفقه الإسلاميين. وإنما المطلق والمقدّس والأساس من وضع له الشرع والشريعة، أي الأمة والدولة بالشأن التنظيمي العام للمجتمع. الأمة هي مقدّسٌ بالمعنى الذي ذكرناه، والدولة هي مؤسسة ذات وظيفة من مؤسسات الأمة».
وبعد الاحتلال الأميركي للعراق، وسقوط نظام صدام عاد للنجف من جديد ألقها، وأصبحت محجّةً للسياسيين، وحرص رجال الحكم على التواصل مع المرجع السيد علي السيستاني، وحسم آرائهم في القضايا البالغة الأهمية، بالاعتماد على ما يقوله هو أو يحرّره مكتبه، مثل تدوين الدستور. فقد قررت سلطات الاحتلال تشكيل مجلس لصياغة الدستور، وتعيين أعضاء هذا المجلس، بالتشاور مع الجهات السياسية في العراق، ثم طرح الدستور بعد صياغته لاستفتاء شعبي، لكن السيستاني رفض ذلك، وشدّد على «أن تلك السلطات لا تتمتع بأية صلاحية في تعيين أعضاء مجلس كتابة الدستور... فالمشروع المذكور غير مقبول من أساسه، ولابد أولاً من إجراء انتخابات عامة، لكي يختار كل عراقي مؤهل للانتخاب من يمثله في مجلس تأسيسي لكتابة الدستور، ثم يجري التصويت العام على الدستور، الذي يقرّه هذا المجلس...».
ويكشف السيد السيستاني عن أن مرتكزات وأسس ومنطلقات النظام السياسي الجديد للعراق تقوم على «مبدأ الشورى والتعددية والتداول السلمي للسلطة، في جنب مبدأ العدالة والمساواة بين أبناء البلد في الحقوق والواجبات، وحيث إن أغلبية الشعب العراقي من المسلمين فمن المؤكد أنهم سيختارون نظاماً يحترم ثوابت الشريعة الإسلامية، مع حماية حقوق الأقليات الدينية».
منذ ثلاثة عقود بدأ التفكير بالدولة في مدرسة النجف يغادر المدونة الفقهية بالتدريج، حتى أني لم أعثر في العقد الأخير على أية كتابات، دوّنها المراجع والفقهاء في الحوزة العلمية في النجف، ترسم إطاراً فقهياً للسلطة والحكم والدولة ومؤسساتها، يتواصل مع الرؤية الفقهية النظرية للشهيد محمد باقر الصدر، ومحاولاته الجادة، التي بدأت بـ «اقتصادنا» واستمرت حتى الفترة الأخيرة من حياته في سلسلة «الإسلام يقود الحياة»، من أجل توطين مفهوم الدولة ونظمها السياسية والاقتصادية والمالية والمصرفية داخل المدونة الفقهية
إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"العدد 3453 - الأحد 19 فبراير 2012م الموافق 27 ربيع الاول 1433هـ
الى تعليق رقم (1)
وش جاب قم للموضوع ياريت ذكرت السبب عشان نقرا بوصلتك عدل..............ديهي حر
اقتصادنا الكتاب الذي جهل العرب والمسلمين قيمته
اقتصادنا من الكتب التى اخذت حيزها بين افضل ما كتب عن الاقتصاد في العالم ككل وليس العالم الاسلامي فقط ففي امريكا وفي جامعه بفلوا بلتحديد اهتم احد علماءالاقتصاد بتوزيعه الى عشره اجزاء وترجمته وتدريسه ومن عظمة هذا الكتاب وقيمته العلميه لم يستطع مترجمه من تدريس الكتاب كوحده كامله لانه يستصعب على الطالب استيعاب الاطروحات المتشعبه فيه هذا من ناحية الكتاب اما الكاتب قدس سره فانه اعدم مع اخته بنت الهدى على ايدي بشر لا تساوي شسع نعاله رحم الله السيد محمد باقر الصدر واسكنه فسيح الجنات...ديهي حر
مشكور على المقال
مقال حلو لكن يوجد خطأ إملائي عزيزي المفروض تكتب (قم) بدلاً عن النجف ،،، تحياتي لك