تعلمك الهجرات أول درس المكان. أول العود. لا هجرة، لا مكان، لا جنة يمكنها أن تكون بديلاً لوطنك، مكانك الأول. بصمة صرختك الأولى ولادة، وذبولاً قبل الموت. قد توفر الهجرة لك استقراراً اصطناعيّاً؛ قد توفر لك لجوءاً يحترم إنسانيتك وقيمتك، وذلك ما تفتقده في وطنك؛ لكنها لن تكون بديلاً عن تفاصيل المكان التي تسكنها روحك ومتغلغلة هي فيه.
***
تأخذك الجهات إلى الصدفة أحياناً، وإلى الوهم أحياناً أخرى، وإلى ما تظنه بديلاً عن وطن يمعن في خذلانك. يمعن في وضعك في تنّور الشك والخيانة والتبعية إلى جهات خارجية ضمن لغة متهالكة ومستهلكة ومنطق أكثر استهلاكاً وترصداً لروحك. منطق ممعن في سخفه وسذاجته في الوقت نفسه.
ترى الجهات أحياناً إنقاذاً لروحك من كل تلك القائمة الكريهة الصادرة عن أجهزة المكان وتوابعه، ومن المفترض أن تكون منتسباً للمكان ذاته.
***
لا خيار لك في انعدام الأوطان التي تريد وتحلم، في شراء ما توافر منها. الذين يشترون الأوطان إما أنهم يبحثون عن منفعة؛ وإما أنهم لا انتماء ولا حس إنسانيّاً يسكنهم. لا تريد أن تكون من ذلك الصنف. لك امتدادك وجذورك، امتداد الأرض ذاتها، فيما يراد للمنتفع واللامنتمي أن يكون سيداً في غفلة من فوضى المراحل والتباسها، وفي عصف من التشفي والاحتقان، ومحاولة تغيير الخرائط؛ وخصوصاً خرائط الذين هم امتداد للمكان وأدلة عليه.
***
تعلمك الهجرات والمنافي خصوصاً القدرة على الحنين بشكل مضاعف وبشكل مؤلم أحياناً. حسّك في الرصد. انتباهتك لا تعرف غفلة أو نوماً. أن تغفل، ألا تنتبه في هجرة ذلك يعني أنك خارج الحس وخارج المكان نفسه. من لم يرَ في هجرته ومنفاه خصوصاً استلالاً لروحه لا روح له ولا روح فيه.
***
في الهجرات والمنافي خصوصاً، لا هواء يصدح في رئتك كما يجب. هواء يساعدك على الحياة لكنه سيخذلك ذات تذكّر وحنين مفرط. ستشعر ألَّا هواء في المكان الطارئ. المكان الذي هو بمثابة غراب في كل حمَام روحك. التي عرفت.
***
يحضر الماضي حادّاً كشفرة وأنت في منفاك/ هجرتك. المستقبل برسم التوقع، وهو توقع يعاني من انكساره. لا أحد يتوقع شيئاً في ظل إطباق تيه وامتداد عدم.
***
الوطن في «السحري» وأنت في العادي من حضورك في منفاك. وأنت في الوطن منفيّ، ملغى، مقصى، مهمّش، يظل المنفى في مساحة وكون السحري. أين يكمن وطنك؟ في الإثبات. في الاعتراف بك. أن تكون السحْر نفسه.
***
ما المعنى في أن تتقصَّى... تبحث عن وطنك وأنت داخله. وأنت فرد منه. جزء من تفاصيله. لا معنى لترابه وهوائه وشمسه وأشيائه بعيداً عنك. ماذا يعني أن يمجَّك، يرمي بك خارج دائرته؟ ألَّا تكون حتى رقماً في بطاقة معونة. ألَّا تكون رقماً في طابور استخراج شهادة ما يدلُّ عليك أو حتى شهادة وفاة. الوطن قيمة معنى ومعنى قيمة. لم تكن ولن تكون الأوطان جغرافية منها أطلقت صرختك الأولى؛ قد تقودك إلى أكثر من صرخة. تقودك إلى الموت حين لا يكون رحيماً.
***
تحتفي بك المنافي كأنك أول ملامحها. ابن لها. تمجُّك الأوطان بفعل الغل ومكنته ومراجله. تمجُّك بفعل انحراف القيم وغيابها في كثير من الأحيان؛ أو تسيّد أشباح تتحكم في مصيرك - هكذا تتوهم - ومصائر مخلوقات لا يمكن أن ترهن روحها للعدم. خلقت لترهن الصحو لإرادتك والماثل لخياراتك عدا الذي لم تطله رؤيتك المباشرة. ذلك أمر لا يستوي مع إصرار الأشباح على أنها أجدر بالنهار ورابعته.
لا وطن في غلّ. لا منفى في محبة مفتوحة على الأفق والخيار العادل. تصدح بوطنك في منفاك الذي يمنحك قيمة. تلعن منفاك الداخلي. منفاك في وهم وطن. تلعن آلة الشحن التي تقصيك لتدنو هي من المناجم والكنوز. تبحث عن الزوايا المضيئة فلا تجدها. حتى زوايا العتمة باتت عصيَّة على الإمساك بها في ظل هذا الهوس والجنون المفتوح على الخراب كل الخراب.
الهواء في الأوطان لا يكون هواء إلا إذا تم الحجْر على محتكريه والمتاجرين به. والشمس في الأوطان لا تكون شمساً بل جحيم حين يتم احتكارها بتغييب المخلوقات خارج شرط الهيمنة عليها ودفعها دفعاً نحو الطوامير ولعبة الظلمات. والفضاء لا يكون فضاء بالتعتيم وتوهم الدجل الممارس عليه.
ترجئ التفكير في غد لست طرفاً فيه؛ لكنك ستفكر ألف مرة في حاضر يمتهنك ويجعلك عرضة للنفي والنسيان. تحاول أن تصطفي من اليومي ما يلائم روحك. روحك التي برهافة الأفق، رهافة الوطن الذي تحب وتنتمي إليه وإن تعذّر ذلك تحاول أن تبحث عن منفى لا يستلُّ روحك وأن تكون مشغولاً بتأثيث مصيرك. مصير العالم من حولك مهما تكن الكلف الطارئة والمصطنعة.
كيف تسند ظهرك أو رأسك إلى وطن وقد تحوَّل إلى شفرة حادّة مختطفاً من ذوي الكروش ومغيبي الحس والقيمة والمعنى سوى قيمة ومعنى الغنائم التي توزع في ليل؟ كيف لا تفعل ذلك في منفى أرصفته من قطن وحضنه من ندى وماء؟
***
الأوطان ليست تراباً. إنها النسغ. ذاكرتك للمستقبل. روحك التي تتمدد فيه. سفر إلى مجاهله كي تعرف من أنت. الأوطان محاولة لتحطيم العدم وإثبات المعنى في الوجود
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3453 - الأحد 19 فبراير 2012م الموافق 27 ربيع الاول 1433هـ