العدد 1440 - الثلثاء 15 أغسطس 2006م الموافق 20 رجب 1427هـ

أولمرت بين إهمال 1982 وتقصير 1973

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

مشهد جلسة المحاسبة في البرلمان (الكنيست) الإسرائيلي في مناسبة وقف العدوان على لبنان أعطى إشارات بعيدة عن المأزق الذي دخلت فيه الدولة العبرية وعلاقاتها المقفلة مع دول المنطقة ومحيطها. فالمشهد فعلاً تاريخي وعميق في دلالاته. فالحكومة كانت حزينة وفي حال يرثى لها والكل ينظر بحياء ولا يعرف ما يقول. رئيس الحكومة يقف على المنصة يدافع عن سياسته مؤكداً أن «إسرائيل» انتصرت ولبنان انهزم. وعندما وجد أن أعضاء الكنيست غير مقتنعين استطرد رئيس الحكومة في شرح تفصيلات المعركة، مشيراً إلى أن الطيران كانت له اليد الطولى ونجح في الوصول إلى أبعد نقطة من جغرافية لبنان. لم يجد إيهود أولمرت ذاك التجاوب مع شروحاته الفضفاضة فاعتذر وأعلن أنه يتحمل المسئولية الكاملة. فأعضاء الكنيست كانوا في وضع غير مريح وكل التبريرات التي ساقها أولمرت لم تكن كافية لاقناعهم أن «الجيش الذي لا يقهر» فقد وظيفته الردعية ولم يعد يخيف الجيران. كذلك لم تعد الكتل البرلمانية في جو يشجعها على الدفاع عن جيش فشل في تحقيق اختراق مقنع يتجاوز قرى الحدود الواقعة في ذاك الشريط الضيق الذي أطلق عليه «القشرة».

حال أولمرت في ذاك المشهد البرلماني تعكس صورة مشوشة عن واقع إسرائيلي اهتز كيانه بسبب حرب طويلة حصلت مع قوة صغيرة متدربة على المواجهات الميدانية.

هذه الحال المرتبكة استغلها رئيس كتلة الليكود (اليمينية العنصرية المتطرفة) بنيامين نتنياهو حين وقف على المنصة للرد على التفسيرات الفارغة التي نطق بها أولمرت. نتنياهو انتهازي ووصولي من الطراز الرفيع ويطمح إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة يعتقد أنها ستكون مناسبة لحزبه بالفوز والسيطرة مجدداً على الحكومة. هذا العنصري الحاقد والكاره للعرب والمسلمين واللبنانيين شن هجوماً معاكساً على أولمرت واتهم حكومته بالفشل وضعف الإدارة والتردد وعدم امتلاك الشجاعة في اتخاذ قرارات حاسمة، الأمر الذي انعكس سلباً على الشارع وزاد من نسبة احباط المجتمع الذي منح الثقة المطلقة للحكومة. ولم يتوقف نتنياهو عند حدود الوصف وانما انتقل إلى شرح جوهر المأساة مشدداً على أن معركة «إسرائيل» معركة وجود وان مصير كيانها منذ تأسيس الحركة الصهيونية على محك التجربة وربما الانهيار.

الكل كان في ذاك المشهد البرلماني في حال قنوط ويأس وارتباك وخجل. والكل لا يعرف ماذا حصل، وماذا يفعل وأين هو الاتجاه، وما هو مكمن الخطأ، وهل باستطاعة «إسرائيل» النفاذ من مأزقها الذي تجاوز للمرة الأولى التقنية العسكرية وبات على قاب قوسين من موضوع آخر يتصل بذاك السؤال المسكوت عنه: ما جدوى وجود دولة لليهود في منطقة عربية ومسلمة؟ وكيف يمكن التعامل مع نمو ظاهرة الرفض وعدم الخوف والاستعداد للتضحية في المحيط العربي - الإسلامي؟ وما سبيل الخروج من نظرية فاشلة تقوم على معادلة الطائرة تقهر الإنسان؟

أسئلة وجودية أطلقها نتنياهو رداً على اطروحات أولمرت في الدفاع عن فشله. أولمرت ركز على يد الطيران الطولى وقدرة جيشه على تدمير الجسور والاحياء المدنية والقرى والبلدات وقتل المدنيين وارتكاب المجازر ودك مرتكزات الدولة ومقوماتها الاقتصادية واقتلاع نحو مليون إنسان من ديارهم وطردهم من الجنوب إلى الشمال. ولكنه لم يشرح لماذا عجز جيشه التقني على قهر إنسان قرر الدفاع عن أرضه وقضيته.

نتنياهو ركز على الجيش وضعفه في المواجهات الميدانية مستكشفاً وجود خلل وجودي في بنية الدولة العبرية. وهذا الخلل يشكل ثغرة تهدد الدولة وتماسكها وتفتح الباب أمام احتمالات تعرض مستقبلها للخطر. لم تكن روايات أولمرت مقنعة، ولا تطمينات وزيرة الخارجية، ولا شروحات وزير الدفاع. فالكل كان في وضع بائس يتعرض للنقد والتشهير والغضب الذي انفجر في البرلمان من خلال أسئلة تريد معرفة الأسباب الكامنة وراء الضعف.

هذا المشهد الدرامي لم تقتصر صوره على جلسة المكاشفة في الكنيست وانما تكرر في أكثر من مؤسسة ومعهد وجامعة وصحيفة وهيئة. فالهامش السياسي الذي تقدمه الدولة في علاقاتها الداخلية مع الشرائح المتنوعة التي يتألف منها المجتمع الاستيطاني المركب من 80 لغة ومئة قومية اتاح للرأي العام فرصة الانتباه لتداعيات زلزال 12 يوليو/ تموز الذي أصاب الكيان استراتيجياً في الصميم. الكل أخذ يشارك في قراءة الأسباب والمسببات ولماذا وكيف ومن يتحمل المسئولية وما هو سبيل الخروج من هذا المأزق الوجودي الذي يهدد موقع الكيان الصهيوني ودوره في المنطقة مستقبلاً.

الكل أعطى رأيه تقريباً، ومختلف الاتجاهات ووجهات النظر حاولت تقديم قراءة خاصة للتعرف على تلك الكارثة الزلزالية للاستفادة من سلبياتها والعمل على الحد من تداعياتها. فالسؤال أصاب الجميع واعتبرت الأطراف الصهيونية على اختلاف مشاربها ومذاهبها أنها معينة بالازمة بغض النظر عن موقعها في السلطة وابتعادها عن مرجعية القرار.

1982 و1973

هذا النقاش المفتوح الذي صدر عن مجتمع مغلق على جيرانه ومحيطه يكشف عن خوف من تكرار الأخطاء وحيوية تريد الاستفادة من التجربة منعاً لتكرارها في المستقبل. ومثل هذا النوع من النقاش المفتوح على تقصير العام 2006 يذكر بذاك الحوار الذي نشب بين الإسرائيليين في العام 1982 حين غزا الثناني بيغن - شارون لبنان. فالغزو كان مناسبة للنقد والبناء عليه للاستفادة من التجربة وتلافي الثغرات والأخطاء والفضائح وخصوصاً فضيحة تسهيل ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا في المخيمات الفلسطينية في بيروت. فالفضيحة كانت مناسبة لتدخل القضاء في شئون الحرب ولم تتردد السلطة القضائية في لعب دورها وإحالة وزير الدفاع آنذاك ارييل شارون للمحاكمة والتحقيق معه في ملابسات المذبحة. شارون كان في نظر الدولة الصهيونية بطلاً لا يقهر وصاحب سجل عسكري لعب دوره في تأسيس الكيان على اشلاء الشعب الفلسطيني. وعلى رغم كل هذا التاريخ الصهيوني تدخل القضاء واحال شارون إلى التحقيق لمعرفة ملابسات إعلان الحرب والخلفيات التي أسهمت في ارتكاب المجزرة. وبعد محاكمة طويلة صدر التحقيق في كتاب يلوم شارون على الإهمال ويتهم «القوات اللبنانية» باستغلال فرصة العدوان وتطويق المخيم بالدخول إلى صبرا وشاتيلا وارتكاب المجزرة.

وقبل محاكمة شارون جرت أيضاً تلك التحقيقات القضائية والسياسية والعسكرية في مناسبة حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. آنذاك كانت رئيسة الوزراء غولدا مائير على رأس السلطة التنفيذية كذلك كان وزير الدفاع موشى دايان في موقع الرجل العسكري القوي والشجاع بنظر الصهاينة الذي نجح وبقيادته في احتلال الجولان والقدس والضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء في ستة أيام هزم خلالها ثلاثة جيوش في يونيو/ حزيران 1967.

آنذاك كان دايان يعتبر بطلاً في نظر الدولة الصهيونية والكل ينظر إليه بإعجاب واحترام لتلك الإنجازات التي حققها في ثلاث جبهات عسكرية واثبت للعالم ضعف العرب وتفوق «إسرائيل». دايان كان هو الرجل العسكري الذي أعطى سمعة عالمية للجيش الإسرائيلي وبسببه أطلق على تلك المؤسسة العسكرية «الجيش الذي لا يقهر». على رغم ذلك لم يشفع له سجله العسكري من المحاسبة والمكاشفة والمراجعة حين شن الجيش المصري في جبهة السويس والجيش السوري في جبهة الجولان هجومهما في أكتوبر 1973 واكتسحا الجبهتين واسقطا آلاف القتلى والجرحى في الأيام الثلاثة الأولى من الحرب.

على رغم نجاح وزير الدفاع في تحسين مواقع جيشه في الجبهة لم يقمع النقاش بل اتهم دايان بالتقصير والإهمال وعدم المتابعة وقلة الاكتراث للمعلومات التي كانت تنقلها شبكات الاستخبارات. فالثنائي مائير - دايان أصيب بالفخر والاعتزاز بالنفس وأخذ ينظر إلى الجيوش العربية بالسخرية من قدراتها وإمكاناتها وتهديداتها اللفظية والكلامية.

الغرور أوصل الثنائي مائير - دايان إلى حال من التشاوف وعدم التصديق بأن هناك خطة عربية (مصرية - سورية) للهجوم. فالاحساس بالقوة والعظمة أوصلا الثنائي (مائير - دايان) إلى حال من النشوة التي فاقت التصور وارتفعت عالياً إلى أن سقطت مضرجة بالدماء حين أعلن عن اقتحام الجيش المصري «خط بارليف» في السويس.

استطاع دايان أن يوقف الهجوم في اليوم الرابع وأخذ ينتقل إلى نوع من التوازن بدءاً من اليوم السابع. وبمشاركة شارون ومساعدته نجحت تل أبيب في شق طريقها إلى الضفة الأخرى في السويس من ثغرة الديفرسوار.

كل هذا لم يشفع لمائير ودايان من المحاكمة والمكاشفة واتهامهما بالتقصير وهي تهمة كانت كافية للقضاء على دورهما السياسي. والأمر نفسه حصل مع شارون في العام 1982 حين احيل إلى المحكمة واتهم بالإهمال.

اليوم يتكرر السيناريو نفسه مع أولمرت. فهناك الآن اتهامات له بالإهمال والتقصير والاستخفاف بالعدو. وأسهم هذا النوع من السلوك في ارتباك قيادة أولمرت السياسية وتعارضها مع الخطط العسكرية فضاعت التوجيهات والقرارات بين رأي لا يكترث لقوة الميدان ورأي يراهن على قدرات قوات الجو وأنها لوحدها كافية وكفيلة بحسم المعركة.

مشهد الكنيست الإسرائيلي يكشف عن قلق وجودي يطول قادة الكيان الصهيوني للمرة الأولى. فالكل كان في حيرة من أمره ولا يعرف السبب ولا يملك الجواب. كيف حصل هذا ولماذا؟ الأجوبة كثيرة ولابد من انتظار محاكمة جديدة تكشف الملابسات على غرار التي جرت في العامين 1982 و1973

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1440 - الثلثاء 15 أغسطس 2006م الموافق 20 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً