المطلوب من القوى اللبنانية المختلفة بعد صدور قرار مجلس الأمن العمل على تحقيق التوازن الناعم بدلاً من التوازن الخشن والنفور المتبادل الذي ساد بعد انسحاب القوات السورية، وهو الذي يمكن أن يبني لبنان، وهو الأصعب حتى من الصمود في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية، أما الخيار فهو النموذج العراقي، حرب طائفية، هذا هو الواقع من دون تزيين.
في العام 1994 جمعتني طاولة عشاء مع فؤاد السنيورة، كان وقتها لبنان يتعافى رويداً، عندها قال فخوراً لمن تحلق حول تلك الطاولة: «منذ سنتين فقط كنا نخاف أن تصاب طائرة جامبو بعطب في السماء اللبنانية، فتنزل مضطرة في مطار بيروت، فنحتار إذ لا نجد لركابها عددا من الغرف في الفنادق اللبنانية تؤويهم! واليوم أصبح لدينا الكثير من الفنادق!». قالها الرجل الذي كان همه الأول بناء لبنان، مؤكدا طريق رفيق دربه الرئيس المرحوم رفيق الحريري وهو طريق البناء والتعمير. واليوم مع وجود كل تلك الغرف الفندقية في بيروت، ولكنها لا تجد من يشغلها. فقط أزيز الطائرات المحملة بقذائف الحمم التي تأكل البشر والحجر هي التي تحوم حول مطار بيروت المعطوب!
من هنا، فإن غصة الرجل الباني والخلوق الودود، فؤاد السنيورة مبررة، عندما لم يستطع أن يكمل الجملة التي تذكره بالأطفال المحروقين والنساء القتلى من بني وطنه، وهي غصة يشعر بها كل عربي وكل محب للبنان. فأين لبنان من أعوام مضت؟ بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان العام 2000 كتبت مجلة «الايكونومست» اللندنية الشهيرة واصفة خروج الجيش الإسرائيلي من الجنوب بأنه خرج من الجنوب (وذيله بين رجليه)، كناية عن الخروج المذل والسريع وغير المنظم للكلاب عندما تطرد، بعدها بسنة تقريباً قالت مجلة «الفورن افيرز» الأميركية بالغة النفوذ بعد حوادث سبتمبر/ أيلول 2001: «هل يصبح حزب الله هو الهدف التالي؟»، وانقل ما كتبت المجلة: (في خطاب الرئيس بوش التاريخي أمام مجلس الكونغرس (المشترك) في 20 سبتمبر/ أيلول قال: «حربنا مع الإرهاب تبدأ بالقاعدة ولكنها لا تنتهي هناك،لن تنتهي حربنا إلا بعد أن نصل إلى كل مجموعة إرهابية نوقفها ونهزمها» وتكمل المجلة: «قليل من المنظمات الإرهابية تتصف بتلك الصفات، إلا أن حزب الله هو واحد منها!»، لقد كان العنوان مكتوبا على الجدران كما يقال، إلا أن من يقرأ هم قليلون، فقد كانت السياسة في لبنان كما وصفتها افتتاحية للنهار منذ سنوات تتصف بـ «غياب الأرب ومنتهى الطرب وتراوح في مكانها»، لقد اختفى الهدف الوطني وتشظى إلى أهداف فئوية، فكان ما كان من خراب.
تاريخ لبنان الحديث كما كتبه أخيرا الصديق رغيد الصلح في كتابه الجامع (لبنان والعروبة) مليء بالعبر، ومرَّ بالحوادث المتعلقة بالعروبة والتي دفع اللبنانيون ثمنا باهظا لها، فهي البلاد التي احتضنت العروبة حتى الدم، ودفعت من اقتصادها الكثير حتى تبقى عربية. لقد أرجعت الحرب الأخيرة على لبنان البلاد إلى عقود إلى الوراء، وكان حديث السنيورة أمام اجتماع الوزراء العرب قد مس شغاف قلبي، إذ قال: «إن عروبة لبنان ليست مشروطة»، وهي كذلك، وهو صادق كل الصدق.
لقد كان واضحا أن انتظار الذريعة مبيتا، ولكن لم يستطع أحد أن يتبين حجم الدمار الذي يمكن أن يصيب لبنان، فقد انقسم العرب كما أرى في مواقفهم تجاه لبنان إلى عربين، عرب أقلية وربما أقلية الأقلية تريد أن تحارب لبنان نيابة عنها، ويموت اللبنانيون تحت وابل القصف فداء لمقولاتهم وأمنياتهم، ويريدون أن يحاربوا حتى آخر لبناني ولبنانية طفلاً أو راشداً، كما قال احد الكبراء ومسئول مهم، ربما لم يتبين ما ينطق به، إذ قال: «أريد ان أكون جنديا في جيش نصرالله»، وهو في الحقيقة وبكل بساطة، يستطيع أن يفعل ذلك على حدود بلاده، إلا أن بعض العرب بلداء إلى درجة العجز. وعرب آخرون وهم غالبية يكنون للبنان ما يكنه أي لبناني مخلص لبلده، فهم يحترمون لبنان التعددي الذي تتبادل فيه السلطة (نسبيا) من دون صراع دموي، لبنان المنارة الثقافية، ولبنان المضياف، ويتألمون للبنان ذي المرجعيات المتعارضة، إذ إن البعض يستخف بالأرواح بعد استخفافهم بالعقول، فيفرضون أنماطا من التفكير القسري الخارج عن المنطق السليم، ويلطخ اسم كل معارض لمقولاتهم ويوصف بكل الصفات السلبية والعيوب الأخلاقية.
بعض الكتاب اللبنانين وبعض السياسيين يريدون من العرب أكثر من التعاطف وأعمق من المناصرة، بل يلمحون بطرف من هنا، وطرف من هناك باتهام مبطن، وكأن هؤلاء العرب المحبين للبنان والمساهمين في بنائه هم أصل الشر، وسبب البلاء! حقيقة الأمر أن هؤلاء محكومون بمرجعية التبعية، لا يريدون وربما لا يستطيعون أن ينتقدوا ما يجب أن ينقد في بلادهم ولا يستطيعون أن ينقدوا عرب الحرب الذين هم أولى بالنقد.
وما يجب أن ينقد في لبنان هو تعددية مرجعية الولاء، فليس سرا أن هناك تعارضاً في المرجعية وازدواجية في الولاء، ليس التعارض والازدواجية مع عرب البناء، ولكنه تعارض مع عرب الهدم. وأفدح ما في هذه الازدواجية جعل المجتمع اللبناني ينقسم على نفسه، وهنا تكمن كل الشرور. فنقد العرب البنائين والمتعاطفين حري به أن يوجه إلى الأقلية التي ترغب في الهدم، كما ترغب في التحرير إلى آخر رجل وامرأة وطفل لبناني. افتقاد وحدة المرجعية التي يقاس بها الخطأ والصواب الوطني في لبنان هو أساس الشر، يتولد منه انحراف جذري في مفهوم الولاء والخيانة الوطنية أو الخروج عنها. إن وجود مواطنين بسلاح ومواطنين بلا سلاح في مجتمع يؤسس لفرض نوع من المجتمع المدني هو الخطيئة الكبرى، ويؤدي بالضرورة إلى أن كل ما يقوله الطرف المسلح هو الصواب والحق، وبعض ما يقوله الآخر هو (كلام مؤذ) يجب الامتناع عنه، وقد يصل الأمر إلى تصنيفه انه (كلام إسرائيلي)! في بيئة كهذه ينتشر النفاق السياسي وتكمم الأفواه، ويأخذ القلة الكثرة إلى مواطن الزلل بالإكراه.
من هو الإنسان الذي لا ينفطر قلبه وهو يرى هؤلاء الأطفال محمولين على اكف إبائهم فاقدي الحياة بسبب قذيفة؟ وتلك النساء راقدات في المستشفيات يطلبن الرحمة بالموت؟ وتلك المنازل المدمرة ونقص في الدواء فوق نقص الغذاء؟ وكل هؤلاء المهجرين الذين بلغوا ربع سكان لبنان على الأقل؟
ومن ينتقد هذا الوضع طلبا لتغييره أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، يصبح معزولا كحلاق درب الموردي في الفيلم الشهير، الذي اتهم في الحي الشعبي المصري، بأنه امبريالي لأنه فقط كتب على دكانه المتواضع (حلاق البيت الأبيض)!
كيف يمكن أن نحدد الانتصار والانكسار، مع التقدير العميق لأولئك الذين ضحوا بحياتهم في هذه الحرب؟ لقد اكتشف الإسرائيليون من خلال معاركهم في الجنوب أن القوة لها حدود، فهل يكتشف بعضنا في لبنان أن القوة أيضا لها حدود! وأن العروبة غير المشروطة، على حد تعبير دولة الرئيس السنيورة هي الأبقى، وتنادي بتحكيم العقل، والقول كفى لتدمير لبنان من خارجه ومن داخله أيضا.
يسرد الروائي أمين معلوف في كتابه المعنون (البدايات) قصة حياة عائلته اللبنانية، التي انتشرت دولياً إذ امتدت من أوربا حتى جنوب أميركا، فيقول: «لا تهمنا سوى الدروب، هي تسيرينا من الفقر إلى الغنى، أو إلى فقر آخر، من العبودية إلى الحرية، أو إلى الموت العنيف، تعدنا، تحملنا، تقذفنا، ثم تتخلى عنا، فنفيق كما ولدنا، على حافة طريق لم نخترها أصلا» أهناك ابلغ من هذا التوصيف للبنان الذي نشاهد؟ش
مفكر كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1439 - الإثنين 14 أغسطس 2006م الموافق 19 رجب 1427هـ