يواصل هذا المقال الثالث والأخير تتبع مسيرة تطور الفكر العالمي بشأن المياه، فبعد أن شهدت الفترة من 1992 إلى 2005 كثافة المؤتمرات والاجتماعات والمنتديات المتخصصة في المياه وقضاياها على مستوى العالم، وبروز قضايا المياه في الأجندة العالمية بشكل كبير، جاء المنتدى العالمي الرابع للمياه الذي عقد في المكسيك في مارس/ آذار من العام الجاري تحت شعار «العمل محلياً لمواجهة التحديات العالمية»، وبحضور نحو 20 ألف مشارك من 141 دولة، لتركز افتتاحيته على ثلاثة قضايا أو تحديات رئيسة تواجه إدارة الموارد المائية واستدامتها، وهي: الحاجة لبناء القدرات، والحاكمية الجيدة، وأهمية العمل على المستوى المحلي، فيما تطرقت مواضيعه إلى دور المياه في النمو والتنمية، سبل تطبيق الإدارة المتكاملة للموارد المائية، الماء للغذاء والبيئة، تزويد مياه الشرب وتوفير الصرف الصحي، وإدارة المخاطر.
وفي المنتدى نفسه عقد بالتوازي المؤتمر الوزاري العالمي الذي ركز على قضيتين رئيسيتين هما التمويل والحاكمية، كما عقدت ست جلسات للوزراء للتحاور ولتبادل الخبرات في مجال إدارة الموارد المائية وناقشت كفاءة استخدام المياه وتقنيات المياه، بناء القدرات لإدارة المياه الكفؤة، المياه للبيئة، الحاكمية والمؤسسات المائية وزيادة مشاركة المنتفعين، تمويل المشروعات المائية، تطوير وتعزيز مراقبة حال المياه وإدارتها. وأكد الإعلان الوزاري الذي صدر في ختام المؤتمر الأهمية الحيوية لدور المياه في التنمية المستدامة وضرورة إدماج المياه في خطط واستراتيجيات التنمية المستدامة الوطنية، كما أكد الوزراء التزامهم بتحقيق أهداف الإدارة المتكاملة للموارد المائية وأهداف الألفية التنموية، وتحسين الحاكمية في مجال المياه، وإنشاء بيئة ممكنة لإدارة الموارد المائية وتحديث التشريعات المائية، وبناء القدرات الوطنية ودور البرلمانيين في إدارة الموارد المائية.
وفي أثناء المنتدى تم تقديم «تقرير تنمية المياه العالمي الثاني»، بعنوان «المياه مسئولية مشتركة»، ومن أهم النقاط التي وردت فيه أنه يجب اعتبار الحصول على المياه النظيفة حقاً أساسياً، وأن عدم الحصول على المياه والصرف الصحي هو أحد أسباب الفقر والأمراض ويعوق الفرص الاقتصادية والاستقرار السياسي، وأن تغير المناخ سيؤدي إلى زيادة التحديات المائية، وأنه من المهم المحافظة على البيئة والنظر إلى التأثيرات البيئية لاستخدام المياه، وأن الماء عنصر حيوي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهناك حاجة إلى تطوير مستوى حاكمية المياه والتي تشمل البناء المؤسسي والقدرات والإطار التشريعي، وانه على رغم أن منهج الإدارة المتكاملة للموارد المائية يعتبر النموذج الأفضل لعنونة قضايا المياه بشكل متكامل، فإن عدداً قليلاً جداً من دول العالم حقق تقدماً في تبني سياسات واستراتيجيات الإدارة المتكاملة للموارد المائية وتطبيقها بشكل فعال مع حلول العام 2005.
وبنظرة سريعة للقضايا المائية وتطورها الزمني سنجد أنه في فترة السبعينات وحتى منتصف الثمانينات كانت قضايا توفير المياه والصرف الصحي هي المحور الرئيسي للمجتمع الدولي واعتمد تخطيط وإدارة الموارد المائية على مناهج قطاعية تعتمد بدورها على التحليل الاقتصادي البحت للمشروعات من دون النظر إلى محدودية الموارد المائية المتاحة أو كفاءة الاستخدام أو التأثيرات البيئية المترتبة على ذلك، ما أدى إلى الفشل في تحقيق الأهداف الموضوعة، وبرزت أهمية اتباع المنهجيات الشاملة لتحقيقها، ونتيجة لذلك برزت منهجيات التخطيط المتعدد الأهداف والدعوة إلى النظرة الشمولية في إدارة الموارد المائية، إلا أن هذه المنهجيات ظلت قاصرة في تطبيقها بسبب إغفالها الجوانب الاجتماعية والسياسية مثل مشاركة المستهلكين والتعهدات السياسية.
وفي الفترة من منتصف الثمانينات وحتى بدء التسعينات أدرك المجتمع الدولي المعني بالمياه أن مشكلات المياه هي مشكلات متعددة الأبعاد والقطاعات وتحمل في طياتها الكثير من الأسباب والمصالح والأجندات المختلفة، ولذلك فإن حل هذه المشكلات المعقدة يحتاج إلى اتباع منهج جديد يعتمد على التنسيق القوي رفيع المستوى بين المؤسسات ذات العلاقة بالمياه من جهة، وبينها وبين مستخدمي المياه من جهة أخرى، وأن طبيعة تعدد مشكلات وقضايا المياه تحتاج إلى حلول متعددة، وتولد بذلك إجماع لدى المجتمع الدولي بشأن مبادئ ومنهجيات الإدارة المتكاملة للموارد المائية كأسلوب ملائم لمواجهة قضايا المياه وللأخذ في الاعتبار الطيف الواسع من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وتداخلاتها المتعددة.
وبعد وصول المجتمع الدولي إلى مبادئ الإدارة المتكاملة للموارد المائية والاتفاق عليها كمنهج مناسب لإدارة الموارد المائية في مؤتمر دبلن في العام 1992 وإدراجه ضمن أجندة القرن الحادي والعشرين للتنمية المستدامة، تم التركيز في الفترة التي تلتها على قضايا إيجاد التوازن بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمحافظة على المياه والبيئة، وسبل تطبيق مبادئ الإدارة المتكاملة لموارد المياه، ومن أهمها الترتيب المؤسسي والإطار التشريعي الملائم، وإدارة الطلب، ومشاركة المنتفعين، والاستدامة البيئية، واسترجاع الكلف/ الخصخصة، إذ احتلت هذه القضايا أجندة واهتمامات معظم المؤتمرات والمنتديات التي عقدت خلال هذه الفترة.
ويشار هنا إلى أن إنشاء المجلس العالمي للمياه في العام 1996 كمنظمة مجتمعية مستقلة لا تتبع الحكومات أو الأمم المتحدة دشن بدء مرحلة جديدة من العمل العالمي المشترك تمثلت في تحرك المختصين وذوي العلاقة بالمياه للتأثير في الأجندة السياسية العالمية والوطنية، وأخيراً قيادة هذه السياسات لتركز على مواضيع المياه في دول العالم، والمساهمة في بروز قضية المياه في صدارة الأجندة العالمية.
واتضح ذلك في المحاور والأوراق والمداخلات التي قدمت في المنتديات والمؤتمرات الكثيرة المتعلقة بالمياه، والتي تمحورت في 3 قضايا رئيسية وهي الحاكمية الجيدة، وبناء القدرات المؤسسية والبشرية، والتمويل (المنتدى العالمي الرابع للمياه 2006)، أي أن التحدي الرئيسي الذي يواجه معظم دول العالم في مجال المياه هو تحد إداري بالدرجة الأولى وليس تحدياً تقنياً أو هندسياً.
ومحلياً، إذا نظرنا إلى أسلوب إدارة الموارد المائية في مملكة البحرين ومعظم دول المنطقة نجد أن تنمية الموارد المائية بدأت في عقدي أربعينات وخمسينات القرن الماضي مع عمليات التنقيب عن النفط، وتركزت حتى أواخر الستينات بشكل رئيسي في الاستكشاف والتنقيب عن مصادر المياه وتقييمها وتوفير المياه الصالحة للشرب في مناطق التجمعات الحضرية الرئيسية. وفي منتصف السبعينات تأثرت تنمية الموارد المائية وإدارتها إلى حد كبير بالإنفاق الحكومي، وساهمت الزيادة التي طرأت على أسعار النفط في العام 1973 في تعجيل أنشطة التنمية، بما في ذلك أنشطة قطاع المياه. وبينما كان العالم يناقش قضايا توفير المياه وخدمات الصرف الصحي خلال العقد العالمي لمياه الشرب والصرف الصحي (1981 - 1990)، بذل المسئولون عن المياه في مملكة البحرين جهوداً جبارة في هاتين القضيتين، إذ تم توفير خدمات مياه الشرب بنسبة تصل إلى 100 في المئة للسكان وتمت تغطية معظم التجمعات السكانية الكبرى قبل نهاية منتصف هذا العقد. كما شهدت هذه الفترة تكثيف الدراسات المائية التقييمية وإنشاء شبكات المراقبة للمصادر المائية الجوفية للمساعدة في إدارة الموارد المائية في البحرين ومتماشياً مع الدعوة العالمية في مؤتمر الأمم المتحدة عن المياه (مار ديل بلاتا، 1977) بشأن أهمية تجميع البيانات والمعلومات المائية والمراقبة المنظمة والمنتظمة لها.
إلا أن المرحلة التالية بدأت إدارة الموارد المائية في البحرين تتراجع تدريجياً عن التطورات العالمية وخصوصاً في عقد التسعينات، فبينما كان المجتمع الدولي يتجه نحو مبادئ الإدارة المائية المتكاملة، التي تنظر إلى مواضيع دور المياه في تحقيق التنمية المستدامة، والنهج التشاركي، وكفاءة الاستخدام، والاستدامة البيئية، وما يتطلبه ذلك من ترتيبات مؤسسية وبناء للقدرات وضرورة توافر سياسات وطنية شاملة ومترابطة لإدارة الموارد المائية، استمرت الإدارة المجزئة القطاعية للموارد المائية في البحرين، والنظرة إلى مشكلات المياه على أنها مشكلة هندسية تقنية بحتة.
ففي وجه الزيادة المتعاظمة للطلب على المياه التي حدثت بسبب النمو السكاني وتسارع التنمية بمختلف مجالاتها، لجأ المسئولون عن المياه إلى جانب إدارة العرض وزيادة المتاح منها من خلال حلول تقنية وإجراءات هندسية تمثلت في زيادة المصادر المائية واستحداث موارد إضافية عن طريق التوسع في بناء محطات التحلية، وإعادة استخدام المياه المعالجة، وزيادة السحب من المياه الجوفية، ومن دون النظر إلى جانب إدارة الطلب على المياه وكفاءة الاستخدام والمحافظة على المياه وحمايتها، أو التأثيرات البيئية والاجتماعية والاقتصادية لهذا النهج غير المستدام في الإدارة المائية.
وفي حين أدى الاعتماد على سياسات زيادة الإمدادات المائية في تلبية الاحتياجات الآنية، إلا انه لم يسهم في الحفاظ على المياه واستدامتها المستقبلية، كما أدى إلى تدني كفاءة الاستخدام وزيادة الهدر وانخفاض العائد الاقتصادي من توظيف واستخدام المياه، وتزايد الطلب ومعدلات استهلاك الفرد، وارتفاع كلفة إنتاج وتوزيع المياه. وما الوضع المائي الحرج والمقلق الذي وصلت إليه مملكة البحرين وبعض دول المنطقة إلا نتيجة طبيعية لأسلوب الإدارة والسياسات التي تم اتباعها في الفترة الماضية.
ويشار هنا إلى أن تنظيم وإدارة الطلب على المياه وترشيدها وحمايتها لم يول الاهتمام الكافي والفعال من جانب المسئولين عن المياه بالمملكة إلا حديثاً، وتمثل ذلك في بعض الخطط والإجراءات الإدارية والتشريعية المنظمة لاستخدامات المياه في القطاع البلدي تحديداً وما زالت الكثير من الخطط المتعلقة بالقطاع الزراعي، المستهلك الأكبر للمياه في المملكة، تراوح في مكانها.
ويبدو أن ضعف المنظومة الإدارية والمؤسسية المسئولة عن المياه والمتمثلة في تعدد الجهات المسئولة عن المياه وضعف التنسيق بينها، وما ينتج عنه من إدارة وتخطيط قطاعيين وتشتيت للجهود وهدر للأموال والطاقات، وغياب جهة، هيئة، وزارة مركزية مسئولة عن المياه تمسك بزمام الأمور وتضع سياسة مائية شاملة تدير بها مواردها المائية بشكل تكاملي وتهدف لاستدامتها، ما زال يمثل احد المعوقات الرئيسية للإدارة السليمة والشاملة لموارد المياه في مملكة البحرين. كما أن الإهمال الكبير لتطوير وبناء القدرات البشرية في مجال الإدارة المائية في الفترة الماضية شكلت معوقاً إضافياً لإدارة الموارد المائية في المملكة. وبسبب ذلك كله لم تستطع المملكة تحقيق الهدف المتفق عليه عالمياً في قمة الأرض في العام 2002 بشأن «تبني سياسات واستراتيجيات الإدارة المتكاملة للموارد المائية وتطبيقها بشكل فعال في جميع دول العالم بحلول العام 2005».
فالإدارة المتكاملة للموارد المائية وتطبيقها تعتمد على وجود سياسات وإطار تشريعي ملائم، ووجود ترتيب مؤسسي ملائم وممكن للإدارة، وتطوير وبناء القدرات المؤسسية والبشرية. فمن دون وجود السياسات والتشريعات الملائمة، لا تستطيع المؤسسات المسئولة أن تقوم بدورها بفعالية، ومن دون وجود المؤسسات القوية لا يمكن تطبيق السياسات والتشريعات، ومن دون وجود السياسات والتشريعات الملائمة والمؤسسات القوية، تصبح أدوات الإدارة المائية بلا معنى وفعاليتها محدودة! وهذا فعلياً ما تقوم به مملكة البحرين حاليا في التعامل مع مشكلة المياه المتفاقمة.
أستاذ إدارة الموارد المائية، جامعة الخليج العربي
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1438 - الأحد 13 أغسطس 2006م الموافق 18 رجب 1427هـ