مأسوية الحرب، أي حرب، لا تقتصر فقط على عملياتها العسكرية، وما تفرزه من مشاهد تتجاوز أطر الخصومة والعداء اللذين يندرجان ضمن المفاهيم الإنسانية السالبة التي تنعتق من صهيرها كنواتج عن ممارسة سلب الحقوق ووضع اليد على حقوق الآخرين، وضم ما ليس لك عنوة واستدخاله في بهو ممتلكاتك، لتدخل علاقات البشر تحت سطوة ما يحكم سلوك الحيوان في غابة مفتوحة المدى. إنما مأسويتها أيضا تتسرب لتغزو المكان والوجدان، وتخلف دماراً مادياً ونفسياً تمتد آثاره عميقاً في الحياة الاجتماعية.
والحرب الدائرة رحاها منذ شهر حتى الآن بين المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله و«إسرائيل» على الأرض اللبنانية هي إحدى هذه الحروب، فهي على الجهة الإسرائيلية حرب عدوانية آثمة نابعة دوافعها من أمرين، أولهما: القضاء على حزب الله مهما كلفها ذلك، وإن كانت كلفتها، بمعايير إسرائيلية ثابتة في تقدير ميزان القوى مع حزب الله، تميل كثيراً في صالحها انطلاقاً من قراءة كمية تعتمد على كم عندنا وكم عندهم، وماذا عندنا وماذا عندهم. وأثبتت الوقائع سوء تقديرها حتى الآن لأنها أغفلت سؤالاً نوعياً مهماً غير مرئي وهو الإيمان الذي استدخله المجاهدون ليكون أقوى وأغلى ما يملكون، وثانيهما: وضع حد لتنامي الدور الإيراني في المنطقة والبحث عن أسباب ما تقنع فيها الرأي العام الإسرائيلي والغربي بدرجة أساسية، بضربة عسكرية تقتفي على اثرها إيران دورها المحدد في المنطقة ولا تتجاوزه بمخططات تستنهض حلما بإمبراطورية فارسية تتصادم مع مصالح الولايات المتحدة الأميركية. كما أن الحرب على جهة حزب الله هي تحرير المعتقلين اللبنانيين في سجون «إسرائيل» واستعادة مزارع شبعا، وهي في ذلك تنطلق من حق تقره المواثيق والأعراف ويدخل في صلب عمليات التحرر الوطني ورفع الظلم الواقع على الشعب اللبناني منذ زمن.
أنا لا يعنيني في هذا المقال أن اتناول الحرب على لبنان وتحليل دوافعها الإسرائيلية لأخرج بإدانة لكل الفعل الإسرائيلي الذي هو مدان من الأصل، ولكنني من واقع المنطقة الإنسانية الضاغطة التي تجمع بني البشر، والوجع الضارب في عميق الوجدان، الذي يفرضه المشهد اللبناني وما آلت إليه الأوضاع الإنسانية الأليمة التي عبر عنها رئيس وزراء لبنان فؤاد السنيورة، بعبرات خانقة ودموع لم تمنعها صلابته وهيبة موقعه في الدولة من التفجر في مفاصل كلمته التي تتحدث عن الدمار وأشلاء الضحايا، ولعلها أوصلت رسالته الإنسانية الشفافة، أردت أن أسوق أسئلة مشفوعة بتمنيات قبولها عسى أن تلقى عندكم متسعاً من رحابة الصدر. ولا يأخذن بعضكم الحماس الذي يؤجج فعله ويلهب سطوته، في زمن أغبر، قوى الإسلام السياسي في الشارع العربي، هذا الشارع الباحث في إرث كرامته عن انتصار موعود به على امتداد نصف قرن من الزمن، ليرمي أسئلتي بالهوان والخذلان وسوء النية، فقد سبق وثبّت موقفي الداعم في هذه المساحة لحزب الله والمقاومة الإسلامية ومازلت أقول إن حزب الله قدم ويقدم ما عنده ويظهر بطولة في الدفاع استرجع بها العرب بعض كرامة مهدورة، وصان حياض الأرض من أن يحقق فيها العدو أهدافه المعلنة والمضمرة، كما أنه، أي حزب الله، طمس وهماً ظل عالقاً بالذاكرة وهو أن «إسرائيل» قوة لا تقهر، وعدل كفة ميزان القوى ليغدو الرعب في كفتيه، لكن، في اعتقادي، ليس هذا كل ما يبحث عنه اللبنانيون، بل إن ذلك ليس سبباً كافياً لحرب دمرت كل لبنان، فهل ما يطال «إسرائيل» من دمار هو بالقدر الذي يطال لبنان؟ وإذا غدا الرعب متوازنا فهل أن الألم الناجم عن الرعب في الحالين متوازن؟
واضح جداً أن أحداً من الدول العربية ولا الدول الإسلامية لن يتدخل في الحرب بصفة محارب دفاعا عن لبنان، فضلا عن حزب الله، لاعتبارات طائفية محضة، باستثناء سورية التي قالت، واسمعوا جيداً ما قالت... إن سورية وضعت جيشها على أهبة الاستعداد، فإذا ما تعرضت لعدوان فأنها سترد بقوة! فهل جاء في كل التصريحات العربية «المتواطئة» أبلغ من هذا الكلام؟ وهي الدولة التي ظلت على مدى أكثر من 25 عاماً تحتل لبنان وتصر على وحدة المسار السوري واللبناني في أي مفاوضات مع «إسرائيل»، وهل أن هناك دولة تتعرض للعدوان ولا ترد؟ فهل من تعويل على نصرة عربية إذا كان أقرب الأقرباء يتفرج على الدم المراق ويصدر التنظيرات؟
وفي رأيي أنه إذا كان من مصلحة لدى «إسرائيل» في مهاجمة سورية فإنها ستفعل ذلك في حال تمكنت من تحقيق أهدافها في لبنان واستطاعت أن تضعف المقاومة للدرجة التي تمنعها من مهاجمة العمق الإسرائيلي وذلك منعاً لمعاودة سورية وإيران مساعدة حزب الله، أما في الوقت الحالي فمن الأفضل لها، «إسرائيل»، ألا تفتح جبهة ثالثة إلى جانب جبهتي فلسطين ولبنان.
أتساءل عن دوافع الحرب، ولا أسأل عن من بدأها، لأن الفأس وقع في الرأس كما يقال، وهذا السؤال بحد ذاته مؤجل لما بعد انطفاء النيران، فإذا كانت دوافعها تحرير المعتقلين في سجون «إسرائيل» وإعادة مزارع شبعا للسيادة اللبنانية، كما أسلفت، فإن أسباب استمرارها أضحت أكثر إقناعاً من ذي قبل، قياساً بما تقدم، فهل تحتمل الحال الإنسانية اللبنانية مزيداً من الدمار؟ وهل أن الحرب ستظل مشتعلة على رغم اصدار القرار الدولي إلى أن يباد الشعب اللبناني عن بكرة أبيه؟ فواقع الحال يقول إن المقاومة تدافع عن الأرض وهذه حقيقة، لكن من يدافع عن أبرياء لبنان من أطفال وشيوخ ونساء، وخصوصاً أن الفضاء اللبناني مكشوف الغطاء يعربد فيه الطيران الإسرائيلي ما حلا له.
هذه مجموعة من الأسئلة أتمنى من أحد ما ينبري للإجابة عليها، لأن هذا الوافر من التحليل الذي يجود به زوار الفضائيات وتنسكب له الأحبار في الصحف لا يفي بتخفيف ضغطها الذي يرتفع مع طالع كل فجر عندنا ومع انكفاء مساحة نهارات لبنان. فهلا أحد فعل من دون أن يسيء فهم أسئلتي؟
العدد 1437 - السبت 12 أغسطس 2006م الموافق 17 رجب 1427هـ