ليس بغريب أن تعرف المحاكم التنفيذية بـ «مقبرة الأحكام»، وليس بغريب أن تسمى بـ «مسلخة المحامين». فهناك تقبر القضايا وتضيع الأحكام بين هذا وذاك وتقاس حنكة حملة القانون. قضايا لا تراوح مكانها سنين طويلة، فيتحمل المدعي أتعاباً أكثر مما يرجو الحصول عليه فيعجز ويضع حداً لاستنزاف الأموال من دون طائل في جلسات المحكمة العجاف!
فهل صحيح أن المتنفذين تغلغلوا في المحاكم التنفيذية وباتوا يديرون اللعبة من الداخل؟ وهل صحيح أن القضاة في المحاكم التنفيذية بحاجة إلى تأهيل أو بصورة أدق إعادة تأهيل؟ وماذا عن الأجهزة المساعدة، هل هي بحاجة إلى إعادة تفعيل لتواكب حيل المدعى عليهم التي تتطور يوما بعد يوم؟ أسئلة كبيرة تطرحها «الوسط» على المحامي محمد المطوع وهذا نص الحوار...
يقول المحامي محمد المطوع: «المحاكم التنفيذية في مملكة البحرين تجربة فريدة من نوعها في الخليج العربي، إذ تنعدم هذه النوعية من المحاكم في المنطقة، بل وتوجد بندرة في الوطن العربي بأكمله، وربما يعود ذلك إلى الخصوصية التي يتمتع بها شعب البحرين، كونه شعباً ذا دخل بسيط ومحدود. وفي فترة التشريع، أي منذ عقود من الزمن، كان هناك تفاوت طبقي، ما خلق حاجة فعلية إلى ما يسمى بتفريد المجتمع، على أساس أن قاضي التنفيذ يتعامل مع كل حال بخصوصيتها».
ويواصل «أعتقد أن قضاء التنفيذ في البحرين جاء وليد حاجة، فكما هو الحال مع القضاء الإداري الفرنسي الذي جاء وليد حاجة المجتمع إليه، فلم يأت القانون ثم القضاء من بعده، كذلك هو الحال مع قضاء التنفيذ في البحرين، فالمشرع البحريني لمس هذه المسألة في وضع المجتمع، إذ إننا فعلاً في المملكة بحاجة إلى قضاء تنفيذ يسهل عملية تنفيذ الأحكام ويراعي مسألة دخل الأفراد والأسر، فإن كان هذا هو السبب وراء توجه المشرع البحريني فخيراً فعل لأن 70 في المئة من البحرينيين لا يزيد دخلهم على 200 دينار، وبالتالي فما الذي سيفعله هؤلاء لولا وجود محاكم التنفيذ التي تراعي بعض المسائل الشخصية، كمسألة الدخل المحدود مثلاً».
واستطرد «المشكلات التي خلفتها هذه المحاكم تفاقمت بتفاقم الحاجة إليها، فالناس سبب رئيس في وجود هذه المشكلات، فكلما ازداد احتيال الناس على قرارات القضاء وعلى القانون، كلما نشأت مشكلات جديدة تستدعي تطور التشريع، والمشكلة الأخرى تكمن في أن التشريع لا يتطور في هذا الجانب، فبينما يزداد المنفذ ضدهم تفوقاً في التنصل من عملية التنفيذ، نلحظ ركوداً واضحاً في عملية التشريع، وطبعاً نرى أن كلاً يتهرب بقدر مستواه الثقافي والاجتماعي والاقتصادي».
وفيما يتعلق بالأداة الأهم من أدوات القضاء، والتي تشكل الواجهة الأساسية للمحكمة، تطرق المطوع إلى موضوع القضاة أنفسهم معتقداً أن «تردد القاضي في اتخاذ القرار أو تغيير قراره بين زمن وزمن يؤدي حتما إلى خلل في تنفيذ الأحكام، فقد تأتي وتقدم له طلباً ويتخذ قراراً ما، وبعد فترة يأتي شخص آخر ويتقدم بطلب مماثل فيغير القاضي قراره! لذلك لابد من أن يطور القاضي من نفسه، فنحن نرى تطور المسائل في الجانب الآخر، فالمنفذ ضدهم يطورون أوضاعهم، ويحتالون، ويختفون، ويهربون أموالهم إلى آخرين، ويخرجون خارج البلد، ويغيرون من عناوينهم، وهو ما يشكل عملية تعطيل لتنفيذ هذه الأحكام، تتحول فيما بعد إلى استحالة تنفيذها. كل هذا يجعل من تطوير القضاة من أنفسهم ضرورة ملحة».
وبين المطوع أن «طبيعة عمل الجهاز التنفيذي تقتضي أن يعمل هذا الجهاز مع أجهزة أخرى مثل الأجهزة التنفيذية الفنية المساعدة، وفي مقدمتها الشرطة بكل المراكز بما فيها التحقيقات الجنائية، كما انه يعمل مع التدشين العقاري، ومؤسسة النقد باعتبارها مؤسسة مهيمنة على حركة المال العام والخاص، والكثير من الأجهزة داخل المؤسسات الرسمية مثل الطبيب الشرعي، بالإضافة إلى بقية أجهزة القضاء الأخرى متمثلة في محاكم الاستئناف ومحكمة التمييز، إذ تعتبر هاتان المحكمتان صاحبتي ولاية وتوصية على محكمة التنفيذ، فبعد صدور القرارات قد تعتري عملية التنفيذ مشكلات، وهنا قد يستطيع المنفذ ضدهم استخدام بعض الوسائل القانونية التي من الممكن أن توقف من عملية التنفيذ أو تعطلها، وبالتالي نرى أنفسنا أمام عقبة أخرى».
ويقول: «نأتي إلى مسألة مهمة لا يمكن إغفالها، ألا وهي قلة القضاة في المحاكم التنفيذية نفسها، لدرجة أن الملف الواحد لا يعرض أمام محكمة التنفيذ إلا 4 مرات في السنة فقط، فالقضاة قليلون، والقضايا كثيرة. أضف إلى ذلك أنه من المفترض أن الدولة هي من تقوم بعملية التنفيذ، من خلال جهازها التنفيذي، إلا أن الواقع يحكي غير ذلك، فنجد أن المحامين هم من يقومون بالدور الأكبر، فنجد الواحد منهم يأخذ الإحضارية متوجها بها إلى مركز الشرطة ليخرج بصحبة أحدهم - في سيارته الخاصة معظم الأحيان- متوجهين إلى منزل المنفذ ضده، وكأنما المحامي هو المعني بعملية التنفيذ لا الدولة برجالاتها. كل ذلك بسبب قلة عدد القضاة ما يؤدي إلى تراكم الملفات وتكدسها في جانب، وعدم قيام الدولة بعملية التنفيذ لوحدها في الجانب الآخر».
واعتبر المطوع أن من أهم المشكلات التي تعتري عملية تنفيذ الأحكام في البحرين بصورة مباشرة هي ان بعض المنفذ ضدهم هم ممن يمكن تسميتهم بـ «النافذين في المجتمع»، وهؤلاء إما أن يكونوا على علاقة مع مراكز الضبط القضائي، أو ببعض الأفراد في هذه المراكز. إذاً وجود الفساد في الأجهزة الفنية المساعدة والمتمثل لدينا في هروب المنفذ ضدهم من الحكم القضائي الصادر، يؤدي بلا شك إلى تعطيل تنفيذ هذه الأحكام.
ويؤكد أن «في مقدمة المشكلات التي تواجهها عملية التنفيذ في البحرين مسألة جهل الناس بالقانون، فبلا شك أن وجود إنسان على علم ودراية بالإجراءات القانونية الواجب اتباعها يسهل من عملية تنفيذ الحكم، فبعض القضايا تستوجب بعض الإجراءات الواجب اتباعها سلفا، وفي حال كونه جاهلا بهذه الإجراءات فإن المسألة بلا شك ستكبر وتتعقد، ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى عدم تنفيذ الحكم إن صدر... إن الجهل بالقانون وعدم الوعي لا يقتصر لدينا على عامة الناس، وإنما يمتد ليطول المحاكم نفسها والموظفين العاملين في قسم الشكاوى، فلو كان هؤلاء - على الأقل - (الموظفون العاملون في قسم الشكاوى) على قدر من الوعي والدراية بالقانون، فإننا بلا شك سنوفر الكثير من الجهد والوقت على قاضي التنفيذ، وعلى المدعي نفسه».
وفيما يتعلق بكون أدوات القضاء في المملكة أدوات مصرية كما يحب أن يطلق البعض عليها، تمنى المطوع لو أن تكون لدينا أدوات قضاء مصرية فعلاً، فعلى رغم وجود فساد في بعض جوانب القضاء المصري، فإن ذلك لا ينفي التطور الذي وصل إليه القضاء في مصر في يومنا هذا، فلو كانت التشريعات المصرية موجودة لدينا، أو لو كان الجهاز القضائي البحريني شبيه بذاك المصري، فإن وضعنا سيكون أفضل من الوضع الحالي بكثير، فالقضاء المصري اليوم قضاء خلاق قادر على إنجاب قانون إداري على شاكلة النظام الفرنسي.
ويستطرد «بالنسبة إلى الأجهزة المساعدة للتنفيذ والمتمثلة في شرطة الضبط القضائي (المراكز الأمنية في المحافظات بالإضافة إلى التحقيقات الجنائية)، هذه المراكز نراها غالباً ما تنفذ الأحكام، إلا أن معظم رجال الشرطة والدوريات التي يتمثل عملها في الذهاب إلى المنفذ ضدهم والبحث عنهم وجلبهم إلى المراكز لا تبذل الجهد المطلوب منها، إذ لا يكلفون أنفسهم عناء البحث، بالإضافة إلى كون معظمهم من (المجنسين) ذوي الثقافة الضحلة والحصيلة التعليمية المنعدمة».
ويتابع «إذاً، فنحن نحتاج إلى تطوير التشريع، إذ نمنح المركز الأمني المنفذ مزيداً من الصلاحيات، فنمنحه - في أقل تقدير- صلاحية التأكد من هوية من يدعي بأن المنفذ ضده غير موجود أو سافر، لأنه في بعض الأحيان قد يخرج المنفذ ضده ويقف أمام الشرطي ويدعي غياب المنفذ ضده، أي أنه يدعي غياب نفسه! فيكون الشرطي أمام المنفذ ضده وجها بوجه وهو لا يعلم، لسبب بسيط هو عدم صلاحيته في التأكد من هوية من يتحدث معه. إذاً مشكلتنا تتمثل في احتيال الناس على رجال الشرطة ورجال القانون، ما يعني أن التشريع يحوي بعض أوجه القصور الواجب تعديلها لمنع الناس من الاحتيال في هذا الجانب».
ويضيف المطوع أن «فساد الأجهزة التنفيذية المساعدة يعد من أهم أسباب فساد المحاكم التنفيذية في المملكة، وتزداد المشكلة تعقيداً كلما كان المنفذ ضده غير بحريني، فالتنفيذ ضد الخليجين والعرب وأصحاب الأمم الأخرى صعب جداً».
وفيما يتعلق بالمشكلات التي تواجهها المحاكم التنفيذية في المملكة يشير المطوع «لدينا مشكلات كثيرة ناتجة عن نظام محاكم التنفيذ في البحرين، فقد ارتفعت القضايا في الثلاث عقود الماضية من ست إلى سبع أضعاف حجمها، ولم يتم استحداث محاكم تغطي هذا النقص الناتج عن زيادة القضايا، فالناس في السابق لم تكن تقدم الشكاوى وترفع الدعاوى كما هم اليوم. أما في يومنا هذا، فكل يبحث عن حقه، من أبسط الناس في المجتمع إلى أكبر الشركات الممولة للقروض».
ويوضح «أهم مشكلة يواجهها الجهاز القضائي التنفيذي تتمثل في قصور عدد محاكم التنفيذ، فاليوم لدينا 4 محاكم تنفيذ، في مقابل وجود كم هائل من الملفات التنفيذية التي يمكن وصفها بالضخمة، فكل قاض في الأيام العادية ينظر إلى نحو 120 إلى 150 ملفاً من ملفات القضايا التنفيذية العالقة، ومن أجل التسريع من هذه العملية، نضطر نحن كمحامين إلى الذهاب سلفا قبل انعقاد الجلسة بساعة، ونقوم بعملية ترتيب الملفات واتخاذ القرار، حتى لا نذهب للجلسة إلا والملفات والقرارات جاهزة... المشكلة الأخرى تكمن في الجهاز الإداري التابع لمحاكم التنفيذ وهم الموظفون، فموظفو الحكومة عموماً يشعرون بأنهم مجرد موظفين حكوميين، أي أنهم يجب أن يبذلوا من الجد على قدر رواتبهم لا أكثر، فالقناعة الداخلية لدى هؤلاء تجعل منهم - للأسف - موظفين مقصرين في أعمالهم، ما يخلق لدينا مشكلات في عمليات تنفيذ الأحكام الصادرة».
ويكمل «بالإضافة إلى أن العمل داخل مكاتب التنفيذ يحتاج على عمل تقني منظم، وهذه المسألة إلى حد ما موجودة ومتوافرة لدينا، لكننا نشعر من فترة إلى أخرى باختفاء ملفات، ما يجعلنا نتساءل: أين تذهب هذه الملفات في ظل وجود آلية عمل منظمة وتقييم سليم؟ إلا أن الجواب يختبئ وراء نوعية الملفات المختفية، فالملفات التي تختفي هي تلك التي تحوي قرارات بمبالغ ضخمة وصعبة تترواح ما بين مئات الآلاف والملايين من الدنانير، وبالتالي فإن فقد الملف يسهل على المنفذ ضده الخروج خارج حدود المملكة أو تدبير أموره، ما يجعل من عملية التنفيذ عملية مستحيلة».
ويؤكد المطوع أنه «إذا كانت لدينا نية فعلية لإصلاح محاكم التنفيذ فإن ذلك يتطلب اتخاذ خطوات جادة في مجال زيادة دوائر التنفيذ القضائية في البلد، وذلك عن طريق زيادة عدد القضاة بالدرجة الأولى. كما ان إعادة صوغ القضاة أنفسهم من خلال تأهيلهم ليكونوا قادرين على تنفيذ الأحكام خطوة مهمة في مجال إصلاح السلك القضائي التنفيذي. أضف إلى ذلك، جلب قضاة أكفاء أكثر تخصصاً في مجال تنفيذ الأحكام. وقبل كل هذا وذاك، فإننا نحتاج إلى مفرزة أمنية تابعة إلى التنفيذ، وهي تلك التي تعرف بشرطة الضبط القضائي، إذ تكون تابعة ومؤتمرة للسلك القضائي مباشرة، وإن كان ذلك لا يعني عزلها عن وزارة الداخلية، لأنهم في نهاية المطاف رجال شرطة وضباط، ولكن نعني بذلك أن تتعاطى قواعدها في تنفيذ الأحكام للمحاكم التنفيذية مباشرة».
فساد داخل المحاكم التنفيذية، وفساد متغلغل في الأجهزة المساعدة للمحاكم... مدعى عليهم يهربون بالجرم المشهود على رغم وجود أمر منع بالسفر وعلى رغم كل الاحتياطات. يا ترى ماذا يحدث داخل المحاكم التنفيذية؟ لماذا أصبحت هذه المحاكم غرفة المحامين المظلمة؟ لماذا يستغرق إصدار وتنفيذ الحكم هذه المدة الطويلة؟ هل نحن بحاجة إلى زيادة عدد القضاة؟ والأهم من ذلك؛ هل نحن بحاجة إلى إصلاح الأجهزة المساعدة من الداخل؟ وهل وهل... أسئلة لا تنتهي بانتهاء هذا اللقاء علنا نفتح ملفاً آخر عن المحاكم، وربما نصل إلى جواب شاف في النهاية
العدد 1436 - الجمعة 11 أغسطس 2006م الموافق 16 رجب 1427هـ