حين رفع الخوارج شعار «لا حكم إلا لله» في وجه الإمام علي (ع)، رد عليهم بقول أوضح فيه بعض وظائف الدولة (الدولة هنا بمعنى الجهاز السياسي الحاكم) حين قال: «كلمة حق يراد بها باطل، نعم... إنه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة، وإنه لابد للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من فاجر».
فحفظ الأمن والنظام ودرء التهديد الداخلي للسلم والأمن الأهليين، وخطر الاعتداء الخارجي من أهم وظائف الدولة كما في الفقرة الأخيرة من كلمة الإمام (ع)، بل من أسباب نشأة ظاهرة الدولة حماية الناس من بعضهم بعضاً، سواء على المستوى الداخلي، أو دفع مطامع الدول والأمم الأخرى.
وفي عهد الإمام إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر، ذلك العهد الذي لم ير نور التطبيق بسبب مقتل مالك مسموما قبل وصوله لتسلم ولاية مصر، قدم الإمام علي (ع) وهو يذكر 4 وظائف أساسية للدولة الأمن على التنمية، فقال: «هذا ما أمر به عبدالله علي أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الأشتر، في عهده إليه حين ولاه مصر، جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها». فالأمن أو «جهاد العدو» مقدم على التنمية (عمارة البلاد)، من حيث انها مقدمة لها، وإطار لحمايتها، وذلك لعدم القدرة على تحقيق التنمية والعمارة من دون إنجاز الحد الأدنى من الأمن وليس كاستراتيجية دائمة، لأن تحقيق التنمية يغني بدرجة كبيرة عن رصد الموازنة لتحقيق الأمن وخصوصاً على المستوى الداخلي كما تقر بذلك الكثير من الدراسات.
والبحرين حالها حال البلدان الأخرى في هذا السياق في تخصيص جزء مهم من موازنة الدولة من أجل الدفاع (أي الأمن من العدو الخارجي)، غير أن المبالغة في مخصصات وزارة الدفاع تعطل جهود التنمية في القطاعات الأخرى التي تشكل البناء التحتي للدولة، وخصوصاً أن الأمن من الاعتداء الخارجي بالنسبة إلى بلدان المنطقة ليس موكولا لقوة جيوش هذه البلدان فقط، بل هناك عوامل أخرى وظروف موضوعية معلومة للمراقب.
وحديث بعض النواب قبل إقرار قانون الموازنة عن خطوط حمر في نطاق الحديث عن موازنة الدفاع وفي دولة عصرية هو هراء محض، ولو صح ذلك لما ساغ للحكومة تقديم موازنة الدفاع للمناقشة، لهذا سواء قبل أو بعد إقرار الموازنة، سيبقى التساؤل مشروعاً عن هذه القفزات في مصاريف وزارة الدفاع في الوقت الذي يتدنى حظ بعض الوزارات ذات العلاقة بالتنمية، والتي تعد في منتهى الأهمية كوزارة التربية والتعليم، فمثلا: في سنة 1998 كانت مخصصات وزارة الدفاع 110 ملايين دينار، وبشكل عام إذا استثنينا بعض السنوات، كانت هناك زيادة صاروخية في هذه المصاريف، حتى وصلت بعد 10 سنوات أي في موازنة 2007 إلى 207 ملايين دينار، بمعنى أنها زادت بنسبة 88 في المئة عما كانت قبل أقل من 10 سنوات، بينما لم تزدد موازنة وزارة التربية والتعليم أكثر من 44 في المئة إذا قارنا بين ما تم رصده سنة 1998 (82,4 مليون دينار)، وما تم رصده لسنة 2007 (145 مليون دينار).
إن التقارير الدولية تؤكد أن مشكلات الأمن بالدرجة الأولى محلية داخلية وليست خارجية، وما تعانيه مجتمعات اليوم من مشكلات كثيرة تقوض الأمن والسلم في المجتمع هي من أمثال الجريمة المنظمة، وتهريب المخدرات بهدف الإثراء السريع، والاضطرابات الداخلية بفضل التخلف والفقر أو بسبب التعصب للطائفة والعرق. وفي تقارير الأمم المتحدة، فإن الذين يموتون بفعل الصراعات الداخلية، أكثر منهم بكثير ممن يقضون بسبب الحروب بين الدول، وما مشكلة اللاجئين، إلا نتاج الصراعات الداخلية في معظم الأحيان.
تقول الباحثة بمركز الدراسات الآسيوية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة خديجة عرفة: «أصبحت معظم الصراعات داخلية بين الجماعات والأفراد وليست بين الدول، فتشير الاحصاءات إلى أنه من بين 61 صراعاً شهدها عقد التسعينات كان 58 منها صراعاً داخلياً - أي بنسبة 95 في المئة تقريباً».
وهذه المشكلات الأمنية والصراعات الداخلية هي السبب الرئيسي لتعميق مشكلة التخلف وتعثر جهود الإنماء وتفاقم الإضرابات الداخلية، وليس العدوان الخارجي الذي يصعب حصوله في ظل الظرف الدولي الحالي وخصوصاً مع وجود القوة العظمى في المنطقة، فقد جاء في بعض التقارير الدولية: «شهدت البلدان التي تلقت أقسى الضربات من النزاعات بين عامي 1960 و1995 هبوطاً بارزاً في النمو الاقتصـادي، وتخفيضـات في الإنتاج للصـادرات، وتدنـي مستويات الاستهلاك، وتضاؤل العائدات الحكومية».
من هذا المنطلق، ليس من الخطأ المطالبة بخفض الإنفاق على وزارة الدفاع من أجل دفع جهود التنمية، وان محاولة رسم خطوط حمر وهمية هنا بمثابة إرهاب لحرية الكلمة، ويكفينا أن إنفاق المملكة على القطاع العسكري عموماً يفوق نسبياً الدولة الأعظم في العالم إذ تنفق الولايات المتحدة 3,8 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، أما اليابان فلا يزيد إنفاقها العسكري عن 1 في المئة من إجمالي الدخل المحلي حسبما جاء في تقرير 2005 للتنمية البشرية الصادر عن البرنامج الانمائي للأمم المتحدة، بينما تنفق البحرين 5,1 في المئة مع أنها دولة نامية في حاجة ماسة لكل دينار من أجل إنجاح جهود التنمية وتنويع مصادر الدخل.
وبحسب موازنة 2007، فإن مخصصات القطاع الأمني، بما فيها الدفاع قد بلغت 381 مليون دينار، وهذا يعني ما يزيد على 10 في المئة من مجمل الدخل المحلي البالغ حالياً 3,66 مليارات دينار، استناداً إلى تصريح أحد مسئولي الدولة، كلها تذهب إلى الإنفاق العسكري. وهذه نسبة جدا عالية مقارنة مع أية دولة نامية أخرى. لقد كانت موازنة الدفاع للعام الجاري 182 مليون دينار تقريباً، قفزت في موازنة 2007 إلى 207 ملايين دينار، بمعنى أنها زادت بنسبة 14 في المئة تقريباً، في حين أن الكثير من الخدمات تتردى، وتؤرق المواطنين وتقض مضجعهم، وأبرز مثال مشكلة انقطاع الكهرباء في هذا الصيف القائظ وفي كل صيف، وبطء الاستجابة للبلاغات نتيجة كثرتها، وهذه العادة لم تفارقنا منذ سنوات
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1435 - الخميس 10 أغسطس 2006م الموافق 15 رجب 1427هـ