أين الاستشراق الآن وهل انتهت وظيفته المعرفية وتقلص دوره التاريخي والحاجة إليه مع تطور وسائط المعرفة ووسائل المعلومات والاتصالات؟ وهل سيصبح الاستشراق فترة من التاريخ الماضي أم سيعود إلى الظهور بحلة جديدة كما يطالب مكسيم رودنسون بذريعة أن الغرب تغير وتخلص من عقده السابقة؟
من ناحية النشأة التاريخية ليست حركة الاستشراق حركة استعمارية إلا أن أوروبا في مرحلة التوسع الجغرافي احتاجتها لمعرفة الآخر. ففكر الاستشراق هو أصلاً حركة نمت في الرد على التحدي الإسلامي أولاً ثم انتقل إلى مرحلة اكتشاف الاختلاف والتعرف عليه ثانياً. فالحركة الاستشراقية لم تطلق بقرار وإنما جاءت للرد على التحديات وفي سياق الصدام مع الإسلام. وهي في السياق المذكور تطورت تاريخياً ضمن آليات تجاذب الأنا والآخر وكان «الأنا» الأوروبي دائماً هو الأرقى والأفضل. وأدى التجاذب المذكور إلى نشوء آليات مستقلة لحركة الاستشراق أفرزت مضامين معرفية رفعت الأنا (الأوروبية) إلى الأعلى ودفعت الآخر (غير الأوروبي) إلى الأدنى، وبات الاستشراق كمعرفة نصوصية عن تاريخ الآخر أسير تلك الآليات المستقلة القابلة للاستخدام في كل الاتجاهات.
يجب التمييز هنا بين الاستشراق كتاريخ (نشوء وتطور وتناقض) والاستشراق كنظرية معرفة وكمنهج تحليل لشخصية «الآخر» المختلف. تاريخ الاستشراق كحركة نشاط ذهنية (فكرية) وسلوكية (العلاقة مع المختلف) تعود إلى القرن الثاني عشر. أما الاستشراق كنظرية فهي حديثة تطورت مع التوسع الجغرافي الأوروبي (حركة الاكتشافات) في مطلع القرن الخامس عشر وتأسست كمنهج مستقل مع تطور نظريات المعرفة في أوروبا من القرن السادس عشر إلى الثامن عشر ومنه إلى عصرنا الراهن. فالاستشراق تطور منهجياً من الاحتكاك إلى المعرفة ومن العقلية الاسطورية الخرافية عن الإسلام والمسلمين (أخبار منقولة) إلى علم ومنهج له آليات مستقلة.
وبسبب نشؤ تلك الآليات المستقلة اختلفت مدارس الاستشراق. فهناك المدارس القومية (روسيا، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، وأخيراً الولايات المتحدة وأيضاً اليابان). وهناك المدارس المنهجية (التحليلية) في كل إطار قومي من تلك المدارس. وهناك التيارات الايديولوجية (ليبرالية، فاشية، ماركسية، بنيوية، آثارية، طبيعية، ألسنية، فرويدية). وهناك أنماط الاستشراق من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وعمرانية وفنية. وهناك تطور الاستشراق نفسه في كل مدرسة ومنهج وتحليل وتيارات الأمر الذي أدى إلى تناقض الاستشراق كمعرفة وتشرذم اجتهاداته إلى قوى ضاغطة باتجاهات مختلفة نتيجة الاختصاصات الحسية المباشرة أو النظرية المنقولة عن الكتب والمصادر.
لا ينفي التعدد المذكور وتناقضه العلاقة المأزومة بين مختلف اتجاهات الاستشراق وفي الوقت نفسه يؤكد تبادل المصالح بين الدوائر السياسية وحركات الاستشراق. فالمستشرق - الرحالة، والمستشرق - المنقب عن الآثار، والمستشرق - الباحث عن المخطوطات، والمستشرق - الرسام، والمستشرق - المصور أو الروائي الذي يبحث عن الأساطير وعالم الغرائب والعجائب هو الوجه الآخر للمستشرق - القنصل، والمستشرق - التاجر، والمستشرق - اللغوي، والمستشرق - المبشر، والمستشرق - الضابط (الجندي أو القائد العسكري).
كل هذه المروحة من المستشرقين لعبت دور البحث (الباحث) عن الآخر وتنميط صورته وتحليل شخصيته ومحاولة استكشاف مكامن قوته ونقاط ضعفه. وشكلت هذه المنظومة المعرفية المعقدة والمتنوعة نظام علاقات لتفكيك الآخر وتقديمه على مشرحة التحليل النظري والمختبري، وهو أمر خدم عن وعي (عند البعض) ولا وعي (عند البعض الآخر) الدوائر السياسية في أوروبا في مرحلة التوسع وفترة الانتقال من الاكتشافات الجغرافية إلى الاستيلاء والغلبة.
الاستشراق أصلاً هو تجاذب حضاري تحول تاريخياً إلى نظرية عمل استكملت شروطها المنهجية مع تطور علوم المعرفة في أوروبا. وبهذا المعنى تحول إلى «قوة معرفة» تؤثر سلباً وإيجاباً في تحديد اتجاهات السياسة في دوائر السلطة وفي الوقت نفسه توجه أسس التحليل عند «الأنا» لمعرفة الآخر وعند الآخر لمعرفة «الأنا».
وخطورة هذا النوع من المعرفة أنه تحول في لحظة الغلبة الدولية إلى قوة سياسية تملك آلات حادة في تشخيص الآخر وأدوات تحليل في قمع صورة الشخص المتخيل. وتحولت الصورة المتخيلة التي انتجها الأوروبي عن الآخر إلى تصور نمطي بات من الصعب كسره إلا بثورة معرفية تعيد النظر في تلك النظريات والمناهج التي قرأت تاريخ الآخر في إطار قوالب جامدة انتهت إلى تثبيت صورة الآخر في قيود «الأنا» الأوروبية وأغلالها. فالثورة ضد الحركة الاستشراقية ليست مسألة عسكرية (اقتصادية - سياسية) بقدر ما هي مسألة معرفية عقلية (ثقافية) تعيد إنتاج الصورة المتخيلة في وعي المستشرق وتصحيحها في الآن نفسه في سياق منظومة فكرية - تاريخية مختلفة تكسر حلقة التنميط وتطلق الصورة المتخيلة من أسر «الأوربة» ومركزيتها المستبدة. وهذه مهمة ترتبط بنمو وعي نخب العالم الإسلامي التي كانت أسيرة الصورة النمطية السائدة.
إذاً لا يمكن فصل الاستشراق كحركة معرفة وكايديولوجيا متخيلة عن الآخر عن تاريخ تطور الصراع بين ما سمي بالشرق والغرب وتحديداً بين العالم الإسلامي وأوروبا. لذلك بقي الاستشراق المعاصر (الحديث) أسير اضطراب العلاقات القديمة بين العالمين إذ استمر الاستشراق القديم يلعب دوره السياسي في التأثير على مدارس الاستشراق الجديدة.
ينقسم الاستشراق كحركة تاريخية إلى فترتين كبيرتين:
الأولى، تنتمي إلى ما قبل عصر الاكتشافات الجغرافية وتهبط نزولاً إلى القرنين الحادي عشر والثاني عشر حين شهدت العلاقات اصطدامات سياسية - عسكرية لعب فيها الدين دور القيادة (حروب الاسترجاع في الاندلس، والحروب الصليبية في بلاد الشام ومصر). وطغى على هذه المرحلة مفهوم الثأر من المسلمين. وترافقت تلك الحملات بسلسلة تدابير ميدانية (المقاطعة الاقتصادية، القرصنة البحرية، نصوص تحريم التعامل مع المسلمين، التحريض على حمل السلاح وقتل المسلم). وتشكلت من هذه النصوص الكنسية الثأرية نواة ايديولوجية سيطرت على التفكير العقلي عند الأوروبيين حتى عندما أخذت القارة تتخلص من نفوذ الكنيسة الكاثوليكية وتستبدلها بهيمنة كنيسة جديدة (بروتستانتية).
الثانية، تصعد من القرن الخامس عشر إلى عصرنا. في هذه المرحلة لم تسقط عقلية الثأر من نظريات الاستشراق المعاصر بل ظلت الفترة السابقة تاركة بصماتها مع تعديلات وتحويرات ارتبطت بتطور العلوم والمعرفة إلى جانب انتظام الاحتكاك والتجاذب بين الطرفين. ولم يتخلص الاستشراق من عقلية الثأر وينتقل إلى العقل الا في الفترة الممتدة من نهاية القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين. وسبب استمرار الاستشراق حتى نهاية القرن الثامن عشر أسير التعريفات الثأرية الدينية السابقة يعود أساساً إلى تجدد جبهات القتال الساخنة بين المسلمين وأوروبا في أكثر من مكان. والأمثلة كثيرة وهي تبدأ من سقوط غرناطة في نهاية القرن الخامس عشر، طرد المسلمين من الأندلس في القرن السابع عشر، اصطدام المسلمين مع البرتغاليين والإسبان وثم الإنجليز في الهند وآسيا والبحر الأحمر وغرب إفريقيا وشرقها وصولاً إلى هرمز في الخليج وعدن، حروب البلقان التي أثارت المسألة الشرقية وطرحت نظام «الحمايات للأقليات غير المسلمة» واضطرار السلطنة العثمانية إلى التراجع ودخولها في «عصر التنظيمات» الأوروبية التي أدت إلى تفككها لاحقاً.
لم تهدأ حركة الاستشراق ثأرياً (كمنهج فكري) الا في مرحلة تراجع المسلمين وبداية اقتحام أوروبا معاقلهم وديارهم. في هذه الفترة دخل الاستشراق مرحلة جديدة وانتقل من الثأر والانتقام إلى الاستيلاء والغلبة وأخذ ينظر إلى المسلمين من عدو تاريخي (الند للند) إلى عدو دوني أقل رقياً وتقدماً من أوروبا.
في مرحلة الاحتلال المباشر بدأ الاستشراق يأخذ أبعاده العلمية البحثية (المنهجية والمعرفية) ونسج قراءاته في إطار العلاقة بين المسيطر القوي (المتبوع) والمسيطر عليه الضعيف (التابع). في هذه الفترة تخلصت أوروبا من مرحلة حروب الاسترجاع والاسترداد ودخلنا نحن (الشرق) مرحلة الاستتباع لحروبها.
نجح تحديث الاستشراق في فترة تحوله من حركة سياسية ثأرية إلى حركة معرفية عقلية في التخلص من الكثير من الفرضيات والافتراءات والأوهام السابقة. فقد اعتمد الاستشراق السابق على نقل الأخبار من الشرق عن طريق الحجاج المسيحيين بعد عودتهم من زيارة الأراضي المقدسة (فلسطين). اما الاستشراق المعاصر فقد انتقل إلى العقل والنقد من دون أن يتخلص نهائياً من جوهر المرحلة السابقة، لكنه بدأ بالاعتماد مباشرة على الرحلات والاحتكاك والاستطلاع. مع ذلك لا يمكن القطع نهائياً بين نشاط الرحالة وتمويل المؤسسات الحاكمة أو الناشئة آنذاك في أوروبا المتطلعة للسيطرة على طرق المواصلات وشبكة التجارة والمعابر البحرية.
النشاط الاستشراقي تركز سابقاً في فئة النبلاء التي كانت تملك الإمكانات لتمويل الرحلات ثم انتقل لاحقاً إلى فئات التجار وأخيراً الشركات. وبسبب هذه العلاقة تم الحاق بعض نشطاء الرحالة بالمؤسسات التي كانت تريد أن تتعرف على أحوال وعادات وتقاليد الشعوب من خلال تقارير الرحالة والمبشرين. وهو أمر أملى على بعض الاجتهادات الاستشراقية الحديثة أن تكون في موقع غير قادر على التخلص كلياً من العقلية الثأرية السابقة فانتقلت إليها الكثير من الهواجس والأفكار الاستعلائية والعنصرية وصولاً إلى التشكيك بنبوة الرسول (ص) والافتراء على سيرته وتأويل النصوص كيفياً وأحياناً تحريفها اما بسبب قلة المعرفة أو انطلاقاً من فرضيات استنتاجية.
لم يكتف بعض هؤلاء باطلاق تفسيرات عشوائية للقرآن الكريم وتاريخ الإسلام بل أقدم بعضهم على تزوير معاني القرآن الكريم واستبدال كلمات بكلمات. وبقيت هذه الترجمات المحرفة تعتبر مراجع رسمية في كبرى الجامعات البريطانية والأوروبية إلى أن تم تصحيحها أو توضيحها عند اكتشاف الأمر. فهناك مثلاً محاولة جورج سيل لتفسير معاني القرآن الكريم، إذ ترجم «يأيها الناس» بـ (يا أهل مكة). و«ما أرسلنك الا كافة للناس بشيراً ونذيراً» بـ (وما أرسلناك الا إلى العامة من الناس). وهناك محاولة ج. م رادويل فترجم «عبداً إذا صلى» آخذاً مفرد العبد بمعنى الرقيق (الرق) بينما هي تعني الخادم المطيع ويقصد بها العالم اجمعين وليس فئة من البشر (الرقيق). وأيضاً تأثر أ.هـ بالمر بترجمته لمعاني القرآن بمن سبقه، إذ ترجم «كافة للناس» بـ (عامة الناس).
القصد من تحريف الكلمات وتزوير المعاني ليس خافياً على أحد لأن استبدال الكلمة يغير المعنى ويقلبه ويعطي مدلولات مغايرة للهدف الأصلي. فعندما يستبدل المستشرق «الناس» بـ (أهل مكة) أو (قريش) فإنه يضرب جوهر الدين الإسلامي لأنه يسقط عنه كونيته وعالميته ويصبح مجرد رسالة محلية نزلت لإصلاح قوم قريش وأهل مكة وليس للبشرية جمعاء. وعندما يستبدل المستشرق «الكافة» بـ (العامة) فإنه يعطل المهمة العالمية للإسلام في توجهه للبشر والإنسانية جمعاء وتصبح الرسالة محلية وذات طابع «طبقي» يختص بإصلاح الحال الاجتماعية - الاقتصادية لفقراء مكة آنذاك وتحسين الظروف المعيشية لضعفاء قبيلة قريش فقط. وعندما يفهم المستشرق كلمة الطاعة (طاعة الله والخضوع لمشيئته) بأنها تعني الرق والرقيق فإنه أيضاً من حيث يدري أو لا يدري ينسف أحد أهم واجبات المسلم المؤمن وركناً أساسياً من أركان الإسلام. فالإنسان عبد الله تختلف عن معنى رقيق. فالأولى تعني الطاعة (الخادم) والثانية ترمز إلى نظام اجتماعي (طبقي) مرحلي ساد البشرية في فترة زمنية (الرقيق). لاشك في أن استبدال الكلمات وتقديم معان مختلفة هو إشارة ضمنية من جهة المستشرق تحاول أن توحي بأن الإسلام هو دين محلي (قبلي) لا كوني، وطبقي (حركة نقابية مطلبية) لا إنساني، ومرحلي لا كلي وشامل للبشر.
إلى تحريف معاني القرآن لجأ بعض الرحالة أو بعثات التبشير إلى نوع من «الاستشراق السياسي» مستفيداً من فضاءات السيطرة الاستعمارية المباشرة في عدة بلدان إسلامية وعربية إلى محاولات سياسية مدروسة بقصد إلغاء هوية البلد الثقافية وتحطيم لغته الأم وتاريخه الخاص كما حصل في الجزائر وتونس (فرنسا) وليبيا (إيطاليا). وعلى رغم أن تلك المحاولات (تغيير اللغة العربية واستبدالها باللهجات المحلية، وتزوير التاريخ، وتشويه الشخصية الثقافية للبلد، واستغلال الثغرات والنعرات الجهوية والقبلية) فشلت إلى حد كبير فإنها نجحت جزئياً في تأسيس بؤر اضطراب محلية تعطل في حالات معينة انسجام البلد وتماسكه.
مثلاً اشتغل الاستعمار الفرنسي في خططه التعليمية والتربوية على تغيير هوية المغرب وتونس والجزائر منذ سنة 1871، وبدأ اللعب على تناقضات المسلمين العرقية واللغوية فصدر عن طريق الاستعلامات منشور 1919 في 25 فبراير/ شباط يفرض على «الشبيبة البربرية» تعلم الفرنسية. وأعقب المنشور صدور قانون 1921 الذي يشجع على تكوين لغة محلية بديلة عن اللغة العربية. وفي المعنى نفسه صدرت كتابات للجنرال المستشرق ليوتي تحث على فصل العرب عن البربر. وفي المعنى نفسه صدر كتاب فيكتور بكي بشأن الموضوعات الدينية واللغوية والعرقية. وفي السياق نفسه أصدر الكومندان المستشرق مارتي كتابه عن سياسة فرنسا الدينية في بلاد المغرب في العام 1925. وفي الإطار نفسه يمكن وضع مناشير وقرارات وقوانين وكتابات الضباط المستشرقين أمثال الجنرال مانغار، وجان كروا (1923)، والكابتن أدينو (1927 - 1949) ورسائل لوفيغ جيري (1936) وكلها ركزت على المدرسة وتغيير مناهج التربية والتعليم في بلدان المغرب بهدف تغيير العادات والتقاليد وتشكيل هوية ثقافية ملتبسة.
لم تقتصر عمليات «الفرنسة» على الدعوات والكتابات بل جاءت أصلاً بعد خطوات ميدانية أقدمت عليها فرنسا لحظة احتلالها منطقة المغرب. في الجزائر مثلاً وبعد عقدين من احتلالها أصدرت فرنسا في العام 1851 قانون وضع اليد على الوقف الإسلامي وإدارة الملكيات العقارية والمساجد ومراكز التعليم. وأدى القانون المذكور إلى انهيار المؤسسات الإسلامية وتفككها وتراجع عددها من 176 إلى 48 مؤسسة.
وألحقت فرنسا قانون 1851 بقانون آخر صدر في 1865 قضى بدمج الجزائر بفرنسا وإلغاء قوانينها الإسلامية والحاقها بالقوانين الفرنسية في سياق برنامج تربوي طويل المدى كان المقدر له لو نجح تغيير شخصية بلدان المغرب (خصوصاً الجزائر) وتعطيل مقوماتها الاستقلالية.
لم تأت محاولة ادوارد سعيد في نقد «الاستشراق» من فراغ بل جاءت في سياق تفكك آليات هذه المدرسة من التفكير في قراءة الآخر وانكشاف الصور النمطية التي تراكمت زمنياً سواء من خلال المراقبة أو من خلال إعادة تركيب عناصر الصورة التي تكونت سابقاً في إطار نقل الأخبار والقصص والأساطير المتخيلة عن فضاءات مختلفة من تاريخ أوروبا وثقافتها.
لاشك في أن محاولة سعيد جاءت في وقت دخلت علوم «الاستشراق» ومدارسه في أزمة معرفية تحولت إلى مأزق سياسي يتراوح جريانه بين مسافتين: الأولى، هامشية الاستقلال النسبي عن مؤسسات التمويل ومصالح الدول المسيطرة. والثانية، الفشل في كسر الصورة النمطية المسبقة عن الآخر وتجاوزها إلى تصور أكثر عقلانية وواقعية.
لذلك أحدث نقد سعيد للاستشراق ضجة كبيرة عبرت عنها ردود الفعل السلبية التي صدرت عن بعض المستشرقين. فالكتاب جاء في وقت مناسب وفي فترة بلغ فيها «الاستشراق» مأزقه التاريخي. وتشكل دعوة مكسيم رودنسون لإعادة احياء الدراسات الإسلامية والعربية وتنقيتها من مركزيتها الأوروبية وجوانبها العنصرية محاولة في سياق تجديد «الاستشراق» وتحديثه في ضوء العلوم المعاصرة وبعيداً عن فضاءات القرن الثامن عشر حينما تبلور الاستشراق في صيغته النظرية وقوالبه الثابتة.
لكن دعوة رودنسون تحمل أكثر من وجه فإذا كان المقصود تجديد الاستشراق بعد التخلص من نواقصه فمعنى ذلك أن وظيفة الاستشراق انتهت وتجاوز الزمن دوره. وإذا كان المقصود العودة إلى الاستشراق لتجديد دوره ووظيفته بعد الانتهاء من تنقيته من الشوائب العالقة فإن هذه المسألة تحتاج إلى نقاش بصدد الدعوة نفسها. فالمطلوب الآن ليس تحديث الاستشراق بل تجاوزه نحو دراسات مختلفة لا صلة معرفية لها بما سبق من محاولات واجتهادات وإذا تم هذا الأمر فإن مثل هذا النوع من البحوث المطلوبة لا يمكن إطلاق صفة الاستشراق عليه. وفي الحالين تكون وظيفة الاستشراق انتهت لا من الناحية المعرفية فقط بل من الناحية التاريخية أيضاً. فالمطلوب ليس احياء الاستشراق بل تفكيكه. فالاستشراق كآلية هو أولاً وظيفة وثانياً حاجة، وهو كان من الوجهة التاريخية من الأدوات غير الواعية التي استخدمتها السياسات الكبرى في تصادمها الحضاري ضد المسلمين. إذ لعب دوره في رسم الفواصل وتحديد الصورة النمطية لعلاقات القوي مع الضعيف.
هذه العناصر (الوظيفة، الحاجة، والدور) شارفت على نهايتها لأن المعرفة نفسها تطورت واختلفت طرائق الحصول عليها. وباتت الخدمات التي كان يقدمها الاستشراق (المستشرق) تفقد قيمتها في عصر التطور التقني وثورة الاتصالات والمعلومات، وتقدم وسائل المراقبة والرصد.
نهاية الجانب الوظيفي، لا يعني في الآن نفسه نهاية المنهج الاستشراقي. المنهج مسألة مختلفة وهو ربما الجانب الوحيد الذي سيستمر في ساحة المعرفة يجدد نفسه في كل منعطف تاريخي كما طالب رودنسون. لقد نجح الاستشراق كمنهج معرفة في بلورة «معرفة مستقلة» وفي تكوين آليات تفكير يأخذ بها بعض أبناء الشرق أنفسهم كمسلمات نهائية ويعيدون إنتاجها سلباً وإيجاباً. وبات المنهج المذكور بحاجة إلى ثورة معرفية تكسر هيمنته وتحجم آلياته المسيطرة على تفكير شرائح معينة من أبناء العالم الإسلامي (والعربي)، وهي مهمة أصعب من الجوانب الأخرى.
إلى جانب الوظيفة هناك مسألة الحاجة. فالحاجة إلى الاستشراق تقلصت بعد أن تم الاختراق السياسي - الثقافي المطلوب، وباتت أوروبا تتحكم بمفاصل الديار العربية - الإسلامية. وما كان المستشرق مكلفاً به، أو كلف نفسه به، بات هناك من يتبرع من أبناء بلداننا العربية الإسلامية في تأدية خدماته نفسها وأحياناً مجاناً من دون مقابل. وربما زايد (المثقف المتغرب) على المستشرق في جلد الذات لتأكيد المقولات «الجوهرانية» عن الشرق. فالمعركة الاستشراقية بعد قرون من التجاذب انتقلت من خارج الدائرة الإسلامية وضفافها وحدودها إلى الدائرة نفسها، واقتحمت مختلف القطاعات.
إلى جانب الوظيفة والحاجة هناك مسألة الدهشة (المفاجأة) بالاستشراق. فهذه الناحية أخذت تتراجع في بيانها ومعانيها إذ لم يعد هناك ما يدهش في الاستشراق. وما كان يدهش أبناء العالم الثالث، خصوصاً في العالم الإسلامي - العربي، اضمحل بريقه وفقد تأثيره الا في وسط قلة قليلة. فالصدمة المطلوبة حصلت ودخلنا الآن في مرحلة مختلفة وجديدة يمكن تسميتها بمرحلة الرد الحضاري على الصدمة. ويمكن القول إنه تم استيعاب الدهشة الأولى بعد أن أخذت آليات التفكير التاريخي في تراث الأمة تتطور باتجاه تجاوز قوانين الاستشراق وثوابته في النظر والعمل. والرشوة التي عرضها علينا رودنسون لن تلقى الآذان الصاغية كما كان يحصل الأمر في الفترات السابقة.
في السياق المذكور يمكن القول إن وظيفة الاستشراق كحاجة معرفية ودور سياسي تاريخي تقلصت وتراجعت إلى حدودها الدنيا وبدأت تدخل في مرحلة بداية النهاية. إلا أن الاستشراق ترك بصماته كآليات مستقلة (منهج معرفة) ويحاول قدر الإمكان تثبيت موقعه من خلال الاستعداد لتجديد دوره وشن هجوم ثقافي معاكس مستفيداً من تركته السابقة خصوصاً تلك المتعلقة بمنهجية التفكير وأسلوب استقراء الحوادث وفرزها واستنباط الكتب واستنطاقها.
لابد من وضع نهاية الاستشراق في سياقين: المعرفة كبنية فكرية والمنهج كآلة تفكير. المعرفة كبنية عامة في المنظومة الاستشراقية أخذت تترنح وفقدت وظيفتها ودخلت فترة الموات (التجاوز) التاريخي. اما المنهج كآلية تفكير فهو مازال يفرض حضوره وأحياناً شروطه على رغم الممانعة والمقاومة التي يواجهها من قبل نخبة الجيل الجديد من المثقفين المسلمين والعرب التي استوعبت الصدمة الأولى ولم تعد ترى في الاستشراق ما يدهش.
وإذا نجحت النخبة المذكورة في كسر آليات التفكير الاستشراقي في المرحلة الراهنة تستطيع لاحقاً تجاوز آثار ومؤثرات مرحلة الدهشة إلى مرحلة أعلى يمكن تسميتها بالتجاوز التاريخي للاستشراق.
لاشك في أن المرحلة الأخيرة ستكون الاشرس على مستوى التفاعل والتبادل والاحتكاك وسيكون جانبها الصدامي هو الأقوى والمسموع خصوصاً في تمثل القضايا التاريخية والتعامل معها بعقلية جديدة وعقلانية إسلامية مسيطرة على أعصابها وعواطفها ومستوعبة لمصالحها في إدارة شئونها ومسئولياتها لإنتاج ما يمكن تسميته بقراءة مختلفة/ مضادة لروحية الاستشراق وآلياته.
مرحلة التجاوز الصعبة بدأت. وبقدر ما تتجذر في الوعي والثقافة بقدر ما تتسارع خطوات الاستشراق الغربي نحو الفوات التاريخي والاضمحلال المعرفي.
وقبل أن تنتهي هذه الفترة المتوقعة سيتلقى أبناء العالم الثالث، خصوصاً العالم الإسلامي - العربي، دعوات كثيرة للتفهم والتفاهم بذريعة «ان الغرب الآن تغير» وان أوروبا اليوم اختلفت عن أوروبا الأمس. وهذا ما حاول رودنسون فعله لتبرير دعوته لتجديد الاستشراق وتحديثه.
هل فعلاً الغرب تغير وان نظرة أوروبا للآخر اختلفت حتى نقبض دعوة رودنسون ونتعامل معها بانفتاح. نترك الشاعر والروائي الإسباني خوان غويتيسولو يجيب عن هذه الأسئلة بشأن أوروبا المعاصرة في كتابه «دفاتر ساراييفو».
يقول غويتيسولو إن هناك لغة صليبية جديدة أخذ اليساريون الأوروبيون يتحدثون بها وتحول بعض اليسار الأوروبي إلى العنصرية. وهناك فئتان مرشحتان للابادة في أوروبا: المسلمون والغجر. واعتبر أن التطهير في البوسنة أكثر من عرقي - عنصري. انه تطهير ديني - ثقافي. وحرق مكتبة ساراييفو في 28 أغسطس/ آب 1992 الذي أتلف 5263 مخطوطة من كنوز الفكر الإنساني يذكر بحادث باب الرملة في غرناطة عندما أمر الكاردينال نيسيزوس بحرق المخطوطات العربية الغرناطية في العام 1492. وربما ارتكب الحريق الثاني بمناسبة مرور 500 سنة على الحريق الأول. ورأى أن تدمير المساجد التاريخية في مختلف المدن البوسنية وحرق مكتبة ساراييفو هدفه إزالة أي أثر إسلامي من أرض صربيا وأوروبا. اسم ساراييفو يذكر أوروبا بعالم مكروه. يذكرها بالتعددية والتنوع والتعايش بين الأديان.
وتحدث غويتيسولو عن الدعاية العنصرية ضد المسلمين وأشار إلى قداس احتفالي جرى في أثينا وشارك فيه اليمين واليسار تحت يافطة مقاومة التوسع الإسلامي في البلقان. ويتساءل «هل تاريخ أوروبا في التسعينات هو استعادة لتاريخها في الثلاثينات؟». ويستغرب صمت المثقفين من يمين ويسار في أوروبا على جريمة ساراييفو (حرق المكتبة). ويحاول تفسير سبب لامبالاة المثقف الأوروبي. ويقول ربما «إن المسألة لا تعدو أن تكون مقتاً للإسلام؟». ويشير إلى جهل أوروبا بالتراث العربي ودور الإسلام في الحضارة العالمية.
ويعدد غويتيسولو تأثير التراث العربي على الأدب الإسباني فيقول إن ميغيل سرفانتس قدم كتابه «دون كيشوت» على أنه ترجمة لمخطوطة عربية. وأشار إلى تأثير الصوفية على الشعر الأوروبي وأثر «ألف ليلة وليلة» على الأدب الإسباني. «القديس توما الاكويني تأثر بآراء ابن رشد. وأنا تأثرت بمؤلف (الفتوحات المكية) لابن عربي». ويرى أن الحداثة الفنية في أوروبا بدأت مع الشعر الإسباني الاندلسي وتحديداً (النشيد الالهي) لخوان دولاكروت وخمريات عمر بن الفارض. فأثر الثقافة العربية/ الإسلامية واضح على الفكر الأوروبي (ابن سينا، وابن رشد) كذلك لغات القارة. إذ تبلغ مفردات العربية في اللغة الإسبانية وحدها 3 آلاف كلمة. ويرى أن عصر النهضة الأوروبية هو الابن الشرعي «لتزاوج الثقافة العربية الإسلامية بالثقافة الأوروبية».
ويستنتج غويتيسولو أن تدمير ساراييفو وحرق مكتبتها وهدم مساجد البوسنة التاريخية هي محاولات للقضاء (إلغاء الذاكرة) على آثار التأثيرات العربية على الثقافة الأوروبية.
السؤال ليس هل تغير الغرب أو اختلفت أوروبا بل أين كان المثقف الأوروبي عندما احترقت مكتبة ساراييفو، ولماذا صمت؟
أوروبا للأسف لم تتيغر سياسياً في رؤيتها للمسلم وثقافته كما حاول رودنسون قوله. المسلمون تغيروا ربما. اما الغرب في طبعته الأميركية فيعيد إنتاج الصورة النمطية القديمة عن المسلم والعربي. الأمثلة كثيرة... آخرها العراق، فلسطين، ولبنان
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1435 - الخميس 10 أغسطس 2006م الموافق 15 رجب 1427هـ