العدد 1434 - الأربعاء 09 أغسطس 2006م الموافق 14 رجب 1427هـ

هل يمكن تصوُّر مجتمع بلا دولة؟

بناء الدولة وصنع البحريني المنضبط (10 - 10)

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

كل الكائنات، كما يقول نيتشه، قد «خلقت شيئاً يتعداها». وهذا الشيء الذي تخلقه الكائنات ويتجاوزها في الوقت ذاته هو «فائض القيمة» في الفعل. والإنسان أكثر هذه الكائنات قدرة على إنتاج مثل هذا الفائض في أفعاله، وبحسب هيغل فإنه عادة ما «ينتج عن أفعال الناس شيء آخر غير ما يتوقعون أو ينجزون، شيئاً آخر غير ما يعرفون وغير ما يريدون مباشرة. إنهم يحققون مصالحهم، لكن يحدث بجانب ذلك شيء آخر مضمر في الداخل، شيء لا ينتبه إليه وعيهم، ولم يكن في حسبانهم» (هيغل، مكر العقل، الايديولوجيا، سلسلة دفاتر فلسفية، ص 7). ومن فائض القيمة في الفعل الإنساني ظهرت الدولة كجهاز يقوم على وعودات كبرى بتحقيق مصالح الناس وسعادتهم في بادئ الأمر، إلا أن هذا الجهاز راح يتضخم شيئاً فشيئاً على حساب الناس ومصالحهم وسعادتهم.

وحين تتضخم الدولة فإنها تتجاوز الناس فتنقلب بعد ذلك الأدوار بحيث يكون الإنسان في خدمة الدولة، ويعمل من أجل تحقيق مصالحها و«سعادتها» حتى لو تعارضت مع مصالحه وسعادته.

الدولة نتاج فائض القيمة

الدولة إذن هي نتاج فائض القيمة في الفعل البشري، وهي ذلك الشيء المضمر في الداخل الذي تحدث عنه هيغل، الشيء الذي لا ينتبه إليه الوعي ولا يكون في الحسبان. وعادة ما يكون «فائض القيمة» هذا مقصوداً بالاستحواذ، ومن هذا الاستحواذ تتأسس أجهزة وأنظمة «طفيلية» تعتاش عليه تماماً كما تعتاش الرأس مالية على الاستحواذ على فائض القيمة في العمل بحسب التحليل الماركسي الكلاسيكي. فكما قامت الرأسمالية على الاستحواذ على فائض القيمة من العامل، كذلك قامت الدولة على الاستحواذ على فائض القيمة في الفعل البشري من المواطنين، وإذا كان الاستحواذ الأول خلق طبقة العمال الكادحين، فإن الاستحواذ الثاني خلق نمطاً جديداً من البشر اصطلحنا على تسميته بـ «الإنسان الانضباطي»، وهو إنسان نشأ في ظل الدولة، واشتغلت عليه أجهزتها الانضباطية وأدواتها في التنميط والقولبة منذ نعومة أظفاره، وصار لذلك طيّعاً ونافعاً، وأكثر من ذلك، صار عاجزاً عن العيش في «مجتمع بلا دولة» أو «مجتمع ما قبل الدولة»، بل هو لا يتخيّل إمكان العيش في مجتمع كهذا، مجتمع بلا دولة يعني بالنسبة إليه مجتمع الفوضى والبدائية وحياة الغاب... إلخ. وفي هذا تفترق البروليتاريا عن الإنسان الانضباطي، فالأولى تقوم على «الوعي الطبقي» وهي تشخّص الوضع القائم على أنه وضع غير طبيعي، ولهذا تسعى من أجل تصحيحه وتغييره من خلال الثورة إذا لزم الأمر؛ ليتحقق بذلك الانتقال إلى مرحلة الاشتراكية ثم الشيوعية.

الافتقار الى الوعي الطبقي

أما الإنسان الانضباطي فيفتقد إلى وعي نظير لما يسمى في الماركسية بالوعي الطبقي، ولنسمه هنا «الوعي الانضباطي»، وعلامته أن يدرك الإنسان الانضباطي أنه واقع في قبضة أجهزة انضباط متحكمة تخنق أنفاسه وتحرمه من سعادته وتضيّق من حريته في اختيار «أسلوب العيش» الذي يرتضيه هو لنفسه.

وكذلك أن يدرك أن هذا الوضع الانضباطي وضع غير طبيعي، بل ينبغي السعي لتصحيحه من خلال تهيئة مناخات تسمح للإنسان بالعيش خارج الانضباطات المتحكمة، أي خارج الدولة، أو من خلال التقليص من تضخم الدولة. وإذا ما أصبح العيش في مجتمع بلا دولة خياراً مستحيلاً تماماً كاستحالة العودة إلى مجتمع ما قبل الدولة، فإن أقل ما ينبغي السعي من أجله هو العيش في حدود دولة مؤنسنة ومقلّصة إلى حدودها الدنيا. وهو ما تطالب به توجهات وحركات سياسية كثيرة يأتي في مقدمتها الليبراليون الراديكاليون والفوضويون الأناركيون ودعاة «المجتمع المفتوح»، وذلك في مطالبتهم لشكل مؤنسن من الدولة، شكل يسميه الليبراليون الراديكاليون «دولة الحد الأدنى»، فيما يسميه الفوضويون «دولة بلا تراتبية» أو «دولة بلا حكومة» أو «دولة بلا رئيس» ().

أما دعاة «المجتمع المفتوح» فيبشرون بمجتمع لا تكون الدولة فيه هي المحتكر الأوحد لا للحرية ولا للحقيقة ولا للسعادة. وهذه في الأصل أطروحة الفيلسوف النمسوي كارل بوبِّر في كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» (1945). ويبيّن بوبر في هذا الكتاب أن ثمة قاسماً مشتركاً بين الدول الشمولية، كالشيوعية والنازية، وهو أن هذه الدول تحتكر ملكية الحقيقة المطلقة، وتلجأ إلى الاستبداد لكي تفرض رؤيتها الخاصة، كما لو كانت «حقائق مطلقة». وفي المقابل يطرح بوبِّر تنظيماً اجتماعياً وسياسياً مختلفاً يسميه «المجتمع المفتوح». وفي هذا المجتمع لا تكون الحقيقة محتكرة من قبل الدولة؛ ما يسمح باختلاف الآراء وتباينها.

وستأخذ هذه التوجهات المبادرة لتذكير الدولة بوظيفتها الأولية والضرورية، وستترافق مع هذا التذكير نزعة نوستالجية تأخذ طابع الحنين إلى الوجود في عالم ما قبل الدولة، وإلى العيش في حياة ما قبل الانتشار الواسع لأجهزة الانضباط. وهذا ما يقرب هذه التوجهات من هايدغر ونيتتشه وفوكو وآخرين ممن سعوا للتذكير بإمكان العيش وفق شكل منسي من الوجود، شكل يسميه فوكو «فن العيش» الذي يرجع إلى سقراط وفلاسفة اليونان الأوائل.

تقليص تضخم الدولة

ويتخذ الليبراليون الراديكاليون موقفاً معادياً من الدولة لا بالدعوة إلى زوالها بل بتقليص تضخمها. وهم ينظرون إلى الدولة على أنها شر لا بد منه، وبحسب كارل بوبر فإن من مبادئ الليبرالية مبدأ يقول إن «الدولة شر لا بد منه»، ومعنى هذا المبدأ أن الدولة شكل من التنظيم الإداري، إلا أنه شكل ينبغي ألا تتضخم قواه «إلى أبعد مما هو ضروري» (بحثاً عن عالم أفضل، ص 190)؛ لأن هذا التضخم إنما يتم على حساب حرية الفرد، فكل تضخم في قوة الدولة إنما يستمد من التقلص المطرد لحرية الأفراد وقوة هذه الحرية.

وبمقتضى هذا المبدأ فإنه ينبغي تجريد الدولة من كل وظائفها غير الضرورية. وبحسب المنظرين الأوائل فإن وظيفة الدولة الضرورية هي «استئصال العنف» (خلاصة القرن، ص 53)؛ ولهذا انطلق توماس هوبز من فرضية أن الإنسان من دون دولة سيكون ذئباً لأخيه الإنسان، ما يعني «حرب الجميع ضد الجميع». فالدولة إذاً جاءت لتحتكر العنف وتمركزه - بعد أن كان مبعثراً - في موقع بعينه تديره الدولة وتشرف عليه. وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن تبقى الدولة ضمن هذه الحدود ولا تتجاوزها، لأن أي تجاوز لن يكون إلا على حساب حرية الأفراد التي هي المبدأ الأول في الليبرالية. والخلاصة أن وظيفة الدولة الضرورية هي احتكار العنف وتوفير الأمن لا أقل ولا أكثر.

الايمان بضرورة الدولة

وبالعودة إلى التنظيرات الفلسفية الكلاسيكية للدولة سنجد أن كانط يؤمن بضرورة الدولة ولكنه يرى أن الحرية هي المبدأ الأول، وفي حال تزاحمت الحرية مع الدولة فينبغي تقديم الأولى، ومن مستلزمات هذه الحرية أن يستطيع كل واحد «البحث عن سعادته بالطريقة التي تبدو له أفضل... إن الدولة التي ستكون طبقاً لمبدأ الرفق نحو الشعب بعبارة أخرى حكومة أبوية، ستكون أسوأ حكم استبدادي يمكن تخيله». ولقد تطورت هذه الأفكار من قبل ويلهلم فون هامبولت في كتابه «مقالة حول حدود عمل الدولة» 1851، وجون ستيورات ميل في كتابه «عن الحرية» 1859. واتفق هؤلاء على نقد الدولة الأبوية/ الراعية، ودعوا إلى وضع حدود على عمل الدولة بحيث تنحصر وظيفتها في استئصال العنف وحماية الحرية. فإذا كان لابد من وجود دولة، فلتكن هذه الدولة «دولة الحد الأدنى» (خلاصة القرن، ص 80)، وهي ضديد «دولة الحد الأقصى»، الدولة الأبوية/ الراعية التي تبتلع المجتمع وحرية أفراده وذلك حين تتضخم قواها وتقوم بوظائفها الضرورية وغير الضرورية.

الدولة شر مطلق

ومن مفهوم «دولة الحد الأدنى» والدولة كشر لا بد منه نأتي إلى مفهوم الدولة كشر مطلق كما هي في الفوضوية. والفوضوية msihcranA حركة سياسية ضد السلطة وتقوم على النفور الجذري من كل أشكال النظام والانتظام والتنظيم والإدارة، لكون ذلك يمهد لوجود «الرئيس» و«السلطة»، ومن ثم يظهر التمايز والتراتبية/ الهيراركية بين الناس. وتهدف الفوضوية إلى إيجاد مجتمع متساوٍ يتعاون الأفراد فيما بينهم بحرية وبعيداً عن كل أشكال التحكم الهيراركية، كما في الدولة أو أية مؤسسة أخرى اقتصادية أو اجتماعية أو دينية.

ومن هنا يرفض الفوضويون فكرة أن السلطة ضرورية لصلاح أمر الناس والمجتمع، ويؤمنون، بدلا من ذلك، بفكرة أن الدولة شكل من التنظيمات الإدارية التراتبية غير الضرورية، والأكثر من ذلك أنها بنية تنظيمية مؤذية وشريرة لكونها تقدم مصلحتها على مصلحة الإنسان، فإذا ما حصل أن تعارضت مصلحة الدولة مع مصلحة الإنسان فسيضحى بهذا الأخير من أجل بقاء الدولة. ولهذا يرى الفوضويون أن غياب الدولة يعني أن يعيش الناس وفق نظام طبيعي (لا مصطنع كالدولة) يقوم على تأمين وحدة الحاجات البشرية، وتوفير المنافع والحرية للجميع. ومجتمع كهذا سيكون منظماً من خلال شكل من أشكال الاتحاد الطوعي والاختياري بين أفراده.

مجتمع يوتوبي

قد تكون هذه التوجهات متطرفة، وقد يكون المجتمع الذي تبشر به مجتمعاً يوتوبياً ومستحيل التحقق اليوم، إلا أن قيمة مثل هذه الأفكار تكمن في النظر إلى هذا النوع المنشود من المجتمعات على أنه، كما يقول كارل بوبر، «مبدأ معياري منظِّم» (خلاصة القرن، ص 84)، أي تبقى هذه الأفكار بمثابة المبادئ التي تحدد ما هو الوضع السياسي والاجتماعي المثالي، وتحدد في المقابل ما هو نقيضه. والأهم أنها ستبقى تذكرنا، كلما ابتلينا بالنسيان، بأن الإنسان أهم من الدولة، وأن هذه الأخيرة ليست أكثر من شكل من أشكال التنظيم الإداري والسياسي تم اختراعه وتطويره من أجل خدمة الإنسان الذي لا يظهر في الحياة على حقيقته، كما يقول نيتشه، «إلا إذ تنتهي حدود الحكومات، فهناك يتعالى نشيد الضرورة بنغماته المحررة من كل مطاولة وتقييد» (هكذا تكلم زرادشت، ص 70)، وهناك عند آخر حدود الحكومات يوجد الطريق الذي يقطعه «الإنسان المتفوق» (ص 70)، إنسان ما قبل عصر الانضباطات الكبرى

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1434 - الأربعاء 09 أغسطس 2006م الموافق 14 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً