أي مسرح سياسي معقد يعصف بلبنان، ففيه ديمقراطية من نوع آخر. لا تلتزم هذه الديمقراطية بما تقره الغالبية فحسب، في لبنان - في لبنان فقط - لابد أن يرضى العالم أجمع بما يقره اللبنانيون.
أي وطن هذا الذي لا يمتلكه شعبه، لمن هذه الأرض التي تحفر فيها الدول جمعاء، من أقصى الغرب حتى أقصى الشرق حدود السياسة في لبنان، طاولات السياسة والمفاوضات معقدة وكبيرة، وخلف كل لبناني تقف «دولة»، ولكل «دولة» رجل في لبنان يمثلها.
ملعب كبير من السياسة، وهو في الوقت نفسه، ملعب أكبر من القتل والدمار والمجازر الملونة بدماء الأطفال، كلهم يحبون بيروت، وكلهم أعداؤها...
الوسط: تدخل ملعب السياسة في لبنان...
السعودية، وهي القطب العربي الأكثر أهمية اليوم بعد تراجع الدور المصري وتاريخيته يمثل إحدى الأوراق التي تلعب في الملعب اللبناني، لم تسهم السعودية كباقي اللاعبين في لعبة الموازين العسكرية، إلا أنها ومن ورائها مصر كانت تحرص على الحفاظ على حصة الطائفة السنية في الترويكا الطائفية بلبنان، وليس اتفاق الطائف ببعيد.
الدور السعودي، والذي بدأ جامدا تجاه المقاومة اللبنانية عدل من موقفه نتيجة الضغوط المتزايدة من الشراعين العربي والسعودي على حد سواء، وحركت دبلوماسيتها صوب إنهاء الأزمة، وإزاء كل ذلك سعت السعودية بكل ثقلها للتدخل لدى المجتمع الدولي للعمل على وقف ما يتعرض له لبنان أرضا وشعبا كما عبرت عن ذلك «الوطن» السعودية في إحدى افتتاحياتها.
الدور السعودي الداعم لحكومة الرئيس السنيورة الممثل الحقيقي لتيار المستقبل - حليف السعودية في لبنان - كان طبيعيا ومنسجماً مع قراءتها السياسية للأزمة.
وزيارة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل إلى واشنطن والتقاؤه بالرئيس الأميركي ضمن هذا السياق كان بلا شك يصب في دعم حكومة السنيورة. مصر والتي لم تعد «مصر» زحفت خلف الموقف السعودي الأول بقوة، ولما تستطع الفكاك من مجمل الانتقادات التي تعرضت لها خصوصاً شعبيا، صحيفة «الاهرام» المصرية، والمحسوبة على الحكومة تماشت مع الرؤية المصرية قائلة: «جدير بالأطراف المتنازعة في الأزمتين اللبنانية والفلسطينية أن تستمع للنصيحة التي قدمتها مصر على لسان رئيسها حسني مبارك، وأن تعمل بهذه النصيحة، إذا أرادت أن تقضي على أسباب المشكلات (...) داعيا إلى عدم الانجراف وراء مغامرات حماسية غير مدروسة»، وعلى رغم أن الموقف السعودي بدا يأخذ منحى أكثر إيجابية فإن المصريين لم يقدموا شيئاً، وذلك في تنازل واضح عن دورهم في المنطقة حين قال مبارك «مصر لن تدخل حرباً من أجل لبنان»، وفي الحقيقة لم تدخل مصر في الأزمة الحالية دبلوماسياً، فضلاً عن دخولها حرب.
تاريخياً: أيدت مصر القوات الدرزية تحت زعامة كمال جنبلاط في الحرب الأهلية اللبنانية الأولى، قبالة الموارنة الذين دعموا من سورية آنذاك، كما أيدت قوات المقاومة الفلسطينية في الكثير من المواقف.
الرئيس بري، اتهم المواقف العربية إجمالاً بالطائفية حيال هذه الحرب، حين قال «هل يعاقب لبنان وجنوب لبنان والمقاومة في لبنان... بصراحة نقول نسأل، هل يعاقب لأننا نقاتل (إسرائيل) أم نعاقب لاعتبارات أخرى مذهبية وطائفية؟»، ووجه بعدها انتقادا لاذعاً للرئيس المصري تحديداً.
لبنانياً، اعتبر اللبنانيون أن المواقف العربية كانت بمثابة إعطاء الشرعية لـ «إسرائيل» في عدوانها على لبنان، يقول النائب سابق بالبرلمان اللبناني ناصر قنديل «هذا موقف إعلامي يعطي (إسرائيل) المبرر الكامل للعدوان التدميري الذي استهدف لبنان تحت غطاء عربي مباشر...». من جهة أخرى، لا يستطيع الاقتصاد اللبناني أن يعود من جديد من دون أن يكون للسعودية دورها، لذلك يعول اللبنانيون الكثير على السعودية، سواء عبر المساعدات الحكومية المباشرة، أو عبر الاستثمارات السعودية والتي تعتبر الأهم والأكبر في لبنان. السعودية ينتظر منها اليوم أن تكون رائدة إعادة الإعمار عبر خطة مارشال جديدة. إذ يتطلع الجميع في لبنان وخارجه إلى أن تكون المملكة العربية السعودية رائدة هذه المهمة التي من المنتظر أن تسهم دول الخليج - خصوصاً الكويت والإمارات - فيها. خطة مارشال هذه ستكون مهمة في الإبقاء على رمق وجود «الدولة» كحقيقة عمرانية بعد أن تقوضت في حقيقة مجازات السياسة المتآكلة بالطائفية. ترتبط السعودية بسعد الحريري الوريث الشرعي والسياسي لكتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري بعلاقات تاريخية وثيقة، كما أن الاقتصاد اللبناني يعتمد على الدعم السعودي لليرة اللبنانية بالمزيد من الودائع السعودية بالدولار الأميركي. وعليه يعتقد البعض أن السياسة السعودية في لبنان ترتبط مباشرة بتيار المستقبل اللبناني، وأنها دائما ما تعطيه الأولوية في تحديد خياراتها.
يبقى أن نشير إلى أن الموقف السعودي في حقيقته لا يرتبط في لبنان بداخله فقط، فثمة حسابات أخرى تتم على الساحة الفلسطينية وبما يشكل القراءة السعودية لسورية والأردن، ترث السعودية مسئولية تطويق مجمل هذه الأزمات بعد ذبول الدور المصري، لكنها تعجز عن حلها.
فقط بعد عام من غزو «إسرائيل» للبنان في 1982، قتل 241 من عناصر مشاة البحرية الأميركية (المارينز) في هجوم انتحاري في بيروت. كما قتل 58 من المظليين الفرنسيين التابعين للقوة المتعددة الجنسيات نفسها في هجوم مماثل على ثكناتهم. ومن هنا بدأت الحكاية، حكاية الأميركيين في بيروت، وحكاية اتهام حزب الله - منظمة إرهابية في التصنيف الأميركي - بأنه كان المسئول الأول عن العملية، هذا بخلاف عمليات اختطاف طالت صحافيين وإعلاميين وساسة.
من هنا يقول السيدحسن نصرالله في إحدى خطاباته المتلفزة في رسالة بالغة الوضوح لخصومه السياسيين في لبنان، أن لا احد يحق له القدوم بورقة أميركية بعد انتهاء الحرب، فالحرب هذه أميركية وليست إسرائيلية.
الولايات المتحدة من جانبها اتجهت لإعادة مواتها الدبلوماسي والمسمى بـ «الشرق الأوسط الكبير»، الأميركيون الذين يعيشون في كماشة العنف داخل العراق قد يجدون متنفسا دبلوماسيا في لبنان يروجون من خلاله «الشرق الأوسط الجديد» الذي لا يمكن للدبلوماسية الأميركية أن تعتبر العراق - بحاله اليوم - «نموذجاً له».
إذا كان النفط وأمن الخليج والإرهاب هي مقدمات «حرب تحرير العراق»، فإن أمن «إسرائيل» طبعاً هو مقدمة التدخل الأميركي في لبنان، وعلى رغم أن فئة كبيرة من الشيعة في جنوب لبنان هم «مواطنون أميركيون» فإن أميركا لم تهتم بمقتلهم أو تشريدهم، فلبنان هو المنطقة الوحيدة في الشرق الأوسط التي لا تهتم فيه الولايات المتحدة برعاياها، وطبعاً وسط «سلبية» واضحة وموجهة من أجهزة الإعلام الأميركية.
فقدت الولايات المتحدة اتزانها بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول وهو ما يجعلها اليوم متخبطة في داخل الملعب اللبناني بوضوح. ويثير الموقف الأميركي إزاء لبنان تساؤلا فيما إذا كانت هناك استراتيجية أميركية للبنان أم أنها دخلت متأخرة. يأتي ذلك قبالة رأي آخر يرى أن الحرب كانت معدة من السابق وان «إسرائيل» ضحية حرب أميركية إيرانية ملعبها طبعاً لبنان.
يرى الأميركيون أن الحرب التي تدور رحاها بين «إسرائيل» وحزب الله تمثل نقطة تحول رئيسية في إطار إعادة صوغ ملامح خريطة الشرق الأوسط التي تشهد تقاطعات دولية متشعبة، وهذا الرأي يصطدم في الحقيقة مع مفرزات الساحة اللبنانية الداخلية، ولا يمكن أن نستخلص منه أية نتائج مباشرة أو واقعية.
لو نظرنا إلى موقف الولايات المتحدة - القوة العظمى الوحيدة في العالم - بوصفها غير معنية بإنهاء الحرب في لبنان على رغم علاقاتها الوثيقة بلبنان (الحكومة) عبر الممر السعودي والمصري، يكون المشهد أكثر دراماتيكية، وهذا ما المح اليه النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي عزمي بشارة حين تهجم على بعض السياسيين في الحكومة اللبنانية داعيا إياهم إلى دعوة سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة بولتون إلى الإقدام في إنهاء هذه الحرب، حين قال إن له أصدقاء في الحكومة اللبنانية قد كرموه بوسام «الأرز». يأتي هذا التصريح متزامنا مع رفض وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس الدعوة الى وقف فوري لإطلاق النار وقولها إن ذلك لن يتم إلا عندما تصبح الظروف مواتية.
ورأت افتتاحية صحيفة «كريستشن ساينس مونيتور» الأميركية في تحليلها للاستراتيجية الأميركية في لبنان «أن هذا الانكفاء للدبلوماسية الأميركية، التي قررت تخفيف اهتمامها بالنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني وتكريس نفسها للملف النووي الإيراني والتدخل في العراق وأفغانستان، يظهر تراجعا للنفوذ الأميركي في المنطقة وقد يترك ذلك تأثيراً خطيراً». وان هذا المؤثر هو ما يجعلها «متوترة» اليوم في حل النزاع الدائر هناك.
تأتي هذه المفارقات الأميركية وسط دبلوماسية مجنونة، خلفت دبلوماسية أكثر جنوناً تمثلت في السياسة البريطانية التي ورثها الأميركيون بمنهجية مختلفة وبذات النتائج للأسف.
البريطانيون الذين هم كانوا بالأساس محور «الشر» في المنطقة يقفون اليوم خلف الإرادة الأميركية، ما دعا طوني بلير في أولى سابقة تاريخية، إلى الوقوع في خطأ تقديم الموقف الأميركي على الموقف البريطاني في معرض إجاباته على أسئلة الصحافيين، وهو ما جعل من بعض المعلقين البريطانيين يعتقدون أن عقدة لسانية تلتف برئيس وزرائهم، حتى أصبح لا يستطيع أن يتقدم باسم بلاده حتى وإن كان يطلق تصريحاته من لندن عاصمة الإمبراطورية التاريخية المقعدة اليوم خلف الأميركيين.
البريطانيون مارسوا نفوذهم مع الألمان وجمهورية التشيك نحو تأخير قرار أوروبي جماعي قدمته فرنسا يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، وكانت الدبلوماسية البريطانية في هذا السياق محط انتقاد داخلي وخارجي على حد سواء.
يعتبر الأميركيون والبريطانيون الداعمان الأسطوريان للاعب الإسرائيلي «الشرس» في الملعب اللبناني، وعلى رغم عديد التخالفات والمستجدات والخروقات السياسية والإنسانية فإن شيئاً لا يتغير، تبقى آلة التدمير الأميركية والبريطانية هي «وجع» لبنان الذي لا فكاك منه.
يبدأ التاريخ الفرنسي في لبنان في العام 1861، بعد أن تدخلت عسكريا في الحرب الأهلية اللبنانية الأولى، والتي أسفرت عن قيام متصرفية جبل لبنان، والتي كانت بمثابة النواة للدولة اللبنانية المعاصرة.
وفي العام 1920، أعطت «عصبة الأمم» لفرنسا سلطة الانتداب على شمالي بلاد الشام لينجم عنه دولتا سورية ولبنان بحدودهما الحالية، وانتهى الانتداب فعليا العام 1946 وترك تركة كبيرة من الوشائج الثقافية والقانونية والإدارية.
أما في الحرب الأهلية اللبنانية الثانية العام 1958 فلم تستطع باريس إرسال قواتها، لكنها دعمت سياسيا وقامت بتسليح فريق من اللبنانيين.
مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية الثالثة منتصف السبعينات لم يعد في وسع فرنسا إلا تقديم الدعم السياسي فقط وحتى هذا الدور وجد من حاول منعه بقتل السفير الفرنسي «لوي دولامار» العام 1981.
أتت البوارج الفرنسية لشواطئ بيروت وطرابلس العام 1982، لا غازية أو معتدية وإنما بطلب من المقاومة الفلسطينية المغادرة إلى المنافي، وعاد الفرنسيون مرة أخرى إلى لبنان تحت جناح القوة الغربية المتعددة الجنسيات، لكن ليس لوقت طويل إذ غادر الجميع العام 1983 بعد سلسلة تفجيرات كلفت الفرنسيين عشرات القتلى بجانب المئات من الأميركيين، وبعض الأطراف تتهم حزب الله بأنه كان المسئول عن هذه العمليات.
العام 1990 قامت فرنسا بمنح اللجوء السياسي لقائد الجيش اللبناني السابق العماد ميشيل عون. وبوصول الحريري لرئاسة الحكومة لعبت فرنسا دوراً جديداً في لبنان، وهو دور المانح والداعم لورشة إعادة الإعمار، وتوج بعقد مؤتمري باريس 1 وباريس 2 للدول المانحة للبنان. وكانت فرنسا كان أول من طالب بتحقيق دولي في اغتيال الحريري وأول من طالب بإشراف دولي على الانتخابات النيابية اللبنانية.
ترتبط فرنسا بعلاقات ذات طابع خاص مع المسيحيين في لبنان، ويقيم البطريرك الماروني في كل سنة قداساً من أجل فرنسا فقط. ويمثل الموارنة حصة فرنسا التاريخية في لبنان والمنطقة العربية. وتسعى اليوم إلى صوغ لبنان جديد يستند الى شراكة طائفية مارونية سنية خصوصاً إذا ما وجدت قيادات سنية موالية لها تسير بحسب سياساتها، وهذا لا تسمح به الولايات المتحدة إلى حد ما.
كانت فرنسا اللاعب الأهم في طرد القوات السورية من لبنان، رأى الفرنسيون أنه لا بد من استعادة استقلال هذا البلد وتحرير القرار اللبناني من الوصاية السورية «غير الطبيعية» فساهموا في هذا الأمر، واستطاعت فرنسا الحصول على قرار أممي بذلك.
أخيراً، وأمام تصاعد النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، وبعد أن أصبحت فرنسا لاعباً سياسياً وعسكرياً لا وزن له في المنطقة، يحاول الفرنسيون اليوم استعادة أمجادهم التاريخية في المنطقة، وخصوصاً أنها ممثلة في لبنان - كما تعتقد - بالموارنة، بينما يبقى تمثيل الأميركيين والبريطانيين تمثيلاً لا مباشراً.
النفوذ في لبنان يضمن للفرنسيين حاجتهم في الاعتقاد بأنهم مازالوا قوة كبرى، وأن أميركا ليست الوحيدة في المنطقة العربية والشرق الأوسط ككل، كذلك لابد أن يكون لهذا التدخل مردوده الاقتصادي، ونتذكر جيداً حجم الضغوط التي مارستها شركة النفط الفرنسية (توتال) واتهامها الحكومة بتضييع فرص اقتصادية في الشرق الأوسط بمواقف سياسية غبية.
أخيراً، تبحث فرنسا في لبنان عن دور أكبر داخل الاتحاد الأوروبي، فبينما يتحكم الألمان بالقيادة الاقتصادية، يطمح الفرنسيون إلى دور أكبر سياسياً.
بعد نحو ستين عاماً من انتهاء الانتداب الفرنسي على لبنان وسورية، تسعى فرنسا اليوم إلى أن تلعب دور اللاعب الرئيسي بعد سورية، تبحث عن زر التحكم بتعيين رئيسي البلاد والحكومة، وتحاول النفاذ إلى القرار الماروني والتحكم به. ولا يبدي الموارنة ممانعة في ذلك. فالدور الفرنسي دائما وأبداً كان عاملاً في تعزيز قوتهم في ملعب لبنان المعقد.
الفرنسيون اليوم يبحثون عن ظهور جديد في الشرق الأوسط، يدعم الموارنة والطائفة السنية بوضوح كامل، يحاولون - بحذر - دعم نزع سلاح حزب الله، لكن بطريقة مهذبة، إذ عارضت فرنسا الموقف الأميركي الداعي إلى أن تنزع القوة الدولية المزمع نشرها في الجنوب سلاح حزب الله عبر استخدام القوة، وهو ما اعتبرته باريس شأنا لبنانيا داخلياً لابد أن يتوافق عليه في الملعب اللبناني، وبين اللبنانيين أنفسهم.
إيران الداخل الحديث للملعب اللبناني، الممول الكبير لأقوى اللاعبين «عسكريا» حزب الله. إيران التي دخلت الملعب اللبناني منذ العام 1982 تقريباً، مع نضوج المشروع الشيعي في لبنان.
الطائفة الشيعية قبل مشروع المغيب الامام موسى الصدر كانت بمثابة ذلك المهمل في الجنوب، الجائعون الممزقون الذين لا يمتلكون في الملعب اللبناني أية مساحة للعب، سوى تجاذبات ونزاعات مع المليشيات/ المخيمات الفلسطينية آنذاك، اليوم يمثل الشيعة في لبنان القوة العسكرية الأكثر حضورا وقدرة على الضغط السياسي، ومن ثم الحصول على حصتهم السياسية من الملعب اللبناني كاملاً.
يختلف الجميع في تقدير مستويات الدعم الإيرانية لحزب الله، وفي لعبة التوظيف السياسي التي تقوم بها طهران بواسطة حزب الله، هذه النقطة تعتبر بمثابة أكثر النقاط جدلاً بين الحكام السياسيين في الملعب اللبناني. هناك من يرى أن طهران تعتبر حزب الله يدها العسكرية في المنطقة، وأداتها في إيصال رسائلها السياسية لكل من «تل أبيب» و«واشنطن» على حد سواء. وهناك من يرى أن ثمة حلماً إيرانياً بدولة شيعية في الجنوب اللبناني، إلا أن هذه الفرضيات الأخيرة تتسم بالضعف بين اللبنانيين أنفسهم، فضلاً عن المعلقين الدوليين.
70 مليون دولار، 200 مليون دولار، وتصل بعض التقديرات إلى 700 مليون دولار، قيمة الدعم المالي من طهران لرجال السيدحسن نصرالله، فضلاً عن ذلك تأتي المساعدات العسكرية واللوجستية والتدريبية والتجسسية للمقاومة اللبنانية مروراً بسورية ليلعب حزب الله دورة ميزان القوة على الأرض في وجه القوتين العسكريتين التقليديتين (الدرورز/ الموارنة).
لإيران على الولايات المتحدة و«إسرائيل» ديون تاريخية، وتسعى طهران إلى استرجاعها، ففضلاً عن أكثر من 16 مليار دولار مجمدة في المصارف الأميركية منذ العام 1979، فإن ضغوطاً أميركية على الشركات الأوروبية والأميركية التي تستثمر داخل إيران تمسك بنمو الاقتصاد الإيراني وتتحكم به.
ويعتبر حزب الله الناطق العسكري لإيران في المنطقة، وأداة لتخفيف الضغوط المتزايدة على ملف إيران النووي، ومع وجود أكثر من 130 ألف جندي أميركي في العراق يحوط بهم في المجمل نفوذ إيراني حقيقي وفاعل في العراق عموماً وفي جنوبه خصوصاً، فإن حياة هؤلاء عرضة للخطر من عناصر الحرس الثوري الموجودين على الأرض في العراق، وبذلك يكون الأميركيون في كماشة آلة الحرب الإيرانية في أكثر من موقع، كما أن حليفتهم (إسرائيل) تكون عرضة للخطر الدائم، والضغط على إيران هو سبب ذلك، وتسعى إيران إلى إيصال هذه الرسالة إلى واشنطن، رغبة منها في أن تكون التسوية السياسية بين العاصمتين هي الخيار الوحيد والأخير.
لابد من ملاحظة أن البنية الحقيقية لحزب الله هي بنية ايديولوجية بامتياز، تلعب هذه البنية متزامنة مع التعبئة العسكرية الايديولوجية في جعل حزب الله نقطة إيرانية في الملعب اللبناني ولا يمكن تجاوزها، بمعنى آخر، قد يتحالف الموارنة مع الفرنسيين لكنهم لا يستطيعون إنتاج تناغم كالذي يحصل اليوم بين إيران وحزب الله.
يبدي الأميركيون مخاوفهم من تنامي الدور الإيراني في لبنان، والذي كان يمر ويدعم ويقوى بالوجود السوري هناك، وحين عمدت الولايات المتحدة الأميركية تحت المظلة الفرنسية إلى الضغط من أجل إخراج السوريين فقد كانت بذلك تبحث عن تحجيم دور الإيرانيين بالدرجة الأولى.
الإيرانيون اليوم يتمنون أن يبقى لحزب الله دوره السياسي والعسكري في لبنان، هذا البقاء مهما كانت كلفته فإن طهران ستدفع بكامل ثقلها سياسياً وعسكرياً وحتى ماليا لسداده. من مصلحة الإيرانيين أن يبقى حزب الله على الأرض، ومن مصلحتها أكثر أن يبقى سلاحه مشهراً على كل من يسعى إلى تقويض الوجود الإيراني في لبنان.
الإيرانيون اليوم يأملون في أن لا تؤدي أية تسوية - مقترحة - إلى نزع سلاح حزب الله، بمعنى أدق، ان انتهاء الصراع الإسرائيلي اللبناني يعني بالضرورة البدء في تكوين دولة لا يعنيها الصراع العربي الإسرائيلي أو حتى الإسلامي الإسرائيلي وكانت تلك تحديداً مقررات اتفاق الطائف.
الإيرانيون يدركون أن مستويات التسليح لحزب الله أكبر من أن يكون نزعها عملية سهلة، فالدور الإيراني في لبنان مركزي واستراتيجي وطهران تدرك ذلك بدقة، والسيدحسن نصرالله لا يختلف في أن ايديولوجية الحزب هي نتاج طبيعي وخيار استراتيجي للبقاء.
إن بقاء الايديولوجية الحالية لحزب الله على حالتها اليوم هو بمعنى آخر بقاء للتغطية الإيرانية، وعليه فإن أية تسوية سياسية لا تقبل بها طهران لن تتم. وحزب الله الذي يعنون جل قراءاته بشعار «ولاية الفقيه» يدرك أهمية أن تبقى إيران داعمة له سياسياً.
الطائفة الشيعية والتي يزيد تعدادها عن المليون ونيف لا تستطيع أن تفرط اليوم بما أنجزته خلال عقد كامل، وعليه، الحالمون بان ينتهي دور إيران في لبنان هم يعيشون في قصور الأمنيات التي لن تتحقق.
يرى الخبير في شئون المنطقة والمستشار السابق للأمم المتحدة في لبنان تيمور غوكسل «أن طريق السلام للحرب الدائرة بين (إسرائيل) وحزب الله يمر من دمشق، وإذا كان أحد يعتقد أن قوة فعالة ستنتج (عن الخطط التي تدعمها أميركا) من دون كلمة ودية من دمشق، فإنه لا يعرف الشرق الأوسط»، مضيفا «إذا أردت معروفا من سورية، فعليك أن تدفع مقابله...!».
أولاً: لابد من الإشارة إلى أن ثمة قواعد عدة لابد من إدراكها في طبيعة الأجواء في العلاقات بين لبنان وسورية.
- لا يرأس لبنان رئيس لا تقبل به سورية، هذه القاعدة مازالت مستمرة منذ عهد سليمان فرنجية وحتى إميل لحود حالياً.
- الانسحاب السوري كان انسحاباً عسكرياً، فمازالت المخابرات السورية توجد في لبنان، وإن كانت تتبع في تحركاتها أسلوب اللامركزية.
- تستطيع سورية في أي لحظة تكميم لبنان عسكرياً، ما يفرض على اللبنانيين نظاماً خاصاً من العلاقات الإقليمية من اللاعبين الآخرين في الملعب السياسي اللبناني، وهو ما يفرض على اللبنانيين تجاذبات متناظرة ومتداخلة يصعب تفكيكها.
- لا أحد من القوى السياسية اللبنانية بعد الطائف كان ضد الدخول العسكري للسوريين في لبنان، وفيما عدا ميشيل عون كانت شتى الأطراف مؤيدة لذلك، والجميع استفاد من سورية وكانت نظرية المحاسبة لنصرالله تقر بان لديها ملفات معقدة بهذا الشأن.
- ترتبط سورية بعلاقات حميمة وتحالف استراتيجي مع حزب الله، وسابقاً مع الطائفة المارونية نسبياً، والطائفة السنية، إلا أنه وبعد مقتل الرئيس الشهيد الحريري، أصبحت العلاقات متوترة بل عدائية مع السنة، وتحسنت علاقات دمشق بميشيل عون الطامح لرئاسة لبنان بعد لحود، والذي يدرك أن باب الرئاسة اللبنانية تفتحه دمشق، وليس صفير (الأب الروحي للمارونيين) وحده.
وترى الباحثة في الشئون السياسية شيرين فهمي أن سورية كانت دائماً تبدي اهتماماً بالغا بلبنان سواء في سنوات الانتداب الفرنسي أو فيما بعد الاستقلال في العام 1943، ومبعث ذلك الاهتمام يعود إلى ثلاثة أسباب:
1- أن سورية تعتبر لبنان جزءاً منها.
2- أن سورية تخاف من تأثير الحوادث اللبنانية عليها.
3- أن سورية تخشى من أن تستخدم لبنان من قبل قوة أجنبية لإلحاق الضرر بسورية.
كما ساهم قيام «إسرائيل» وتزايد التهديدات لسورية في تصاعد الدور السوري في لبنان، وخصوصاً بعد انتقال قيادة المقاومة الفلسطينية، وكوادرها المقاتلة إلى لبنان، وتعقد الوضع على الساحة اللبنانية ما أدى إلى إقناع اللبنانيين بحتمية ذلك الدور.
تاريخياً، عند احتدام الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1976، تدخلت سورية عسكرياً لصالح إنهاء الأزمة، وتحالفت مع كميل شمعون. وكذلك كان لها تدخل مباشر في 1982. وفي انعقاد مؤتمر الطائف بالمملكة العربية السعودية في أكتوبر/ تشرين الأول 1989 بهدف وضع صيغة للوفاق بين الأطراف المتنازعة كان لسورية حضورها المهم. وانبثق من مؤتمر الطائف أول «وثيقة» تتناول الدور السوري في لبنان بعد تحقيق الوفاق. في 22 مايو/ أيار 1999 تم توقيع «معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق» بين البلدين (سورية ولبنان)، التي نصت على إنشاء مجلس أعلى وهيئة للمتابعة والتنسيق ولجان لتنظيم التعاون في مختلف المجالات، والتي نصت أيضاً على أن «الترابط بين أمن البلدين يقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سورية، وسورية لأمن لبنان، في أي حال من الأحوال».
في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2000 أصدرت الطوائف المسيحية بياناً تابعاً للجنة التنسيق التي تضم حزب الوطنيين الأحرار والقوات اللبنانية، وأكثر ما أكده ذلك البيان أن الوجود العسكري السوري في لبنان لا يحمي أية مصلحة لبنانية ولا يدرأ عن لبنان أي خطر. وتصاعدت المواقف بعد مقتل الحريري، ما أدى إلى خروج السوريين من لبنان نهائياً.
اليوم، واستراتيجياً، تسعى سورية إلى إبقاء حزب الله قوة عسكرية قوية لها داخل لبنان، وجبهة تهدد بها «إسرائيل» إن لاحت بوادر الحروب، كما تحاول سورية إبقاء نفوذها الاستخباراتي داخل لبنان فاعلاً.
وعليه، تسعى دمشق إلى تقديم كل أنواع الدعم لحزب الله، آملة في أن يبقى ذراعها العسكري، والذي تستطيع أن تستبدله استراتيجيا - كما يذهب بعض المحللين - بـ «القاعدة»، إذ يميل البعض إلى ربط عمليات «القاعدة» في الشرق الأوسط بسورية بشكل مباشر أو غير مباشر.
يمثل اللاعب الإسرائيلي في الساحة اللبنانية لاعب المجازر والقتل والدمار.
لبنان كان مسرح مرح «المقاومة الفلسطينية» كما يفضل الإسرائيليون تسميته، فالمخيمات الفلسطينية «المسلحة» أوجدت لاعبين اثنين في المسرح اللبناني، الفلسطينيون من جهة، ومن ورائهم «إسرائيل».
تاريخ العلاقة بين لبنان و«إسرائيل» مشهور بالاتفاقات المخروقة، أولها اتفاق الهدنة 23 مارس/ آذار 1949، والذي أتى بعد انتهاء الحرب العربية - الإسرائيلية في فلسطين سنة 1948 وقد كان اتفاق الهدنة بين لبنان و«إسرائيل» جزءا من تلك الاتفاقات المبرمة. ولم تنفذ «إسرائيل» بنود اتفاق الهدنة، ولم تنسحب إلا إلى الخط الأزرق الذي جرى ترسيمه، وليس إلى الحدود اللبنانية.
اتفاق 17 مايو/ أيار 1983، وبرز سياق ظرف تاريخي لبناني صعب، فقبله سنة 1982 كانت سنة الاجتياح الإسرائيلي للبنان مع ما واكب ذلك من المجازر في حق اللبنانيين، كان أشهرها مجزرة (صبرا وشاتيلا). لقد فرضت «إسرائيل» على لبنان التوقيع على ما عرف باتفاق 17 أيار، الذي نص على انسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان بشرط: خروج القوات السورية ومنظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وعدم نشر أسلحة ثقيلة في الجنوب اللبناني. واحتفظت «إسرائيل» بما أسمته حزاما أمنيا في جنوب لبنان. واتجه الرئيس أمين الجميل إلى إعلان إلغاء اتفاق 17 أيار مع «إسرائيل»، وكان ذلك يوم 5 مارس 1984. ثم اتى تفاهم ابريل/ نيسان 1996، والذي حظي بدعم إقليمي ودولي أميركي متبوعا بالدول السبع في تاريخي عقد في باريس، ووصولا إلى قمة القاهرة. كان من المفترض أن يكون التفاهم أنهى العمليات العسكرية الإسرائيلية في لبنان، بدءا بعناقيد الغضب يوم 11 أبريل، ثم مجزرة قانا يوم 18 أبريل ضد مقر الأمم المتحدة الذي كان يحوي لاجئين لبنانيين. نص الاتفاق صراحة على توقف حزب الله والمنظمات المسلحة عن استهداف «إسرائيل» بالصواريخ، مقابل توقف «إسرائيل» والمتعاونين معها عن استهداف المدنيين اللبنانيين. وتشكيل مجموعة مراقبة دولية من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وسورية ولبنان و«إسرائيل».
اليوم، تدرك «إسرائيل» استراتيجياً أن حزب الله هو الخطر الوحيد الجاثم عند حدودها، وهي تدرك انه مدعوم من عدوتها - إيران - الأكثر خطورة بعد سقوط العراق في كماشة الأميركيين، وعليه فإن إنهاء ما يسمى بحزب الله ضرورة أمنية بالغة الأهمية. كما أن تهديدات حزب الله المستمرة، وروح الانتصار بحزب الله في العام 2000 أججت لدى الإسرائيليين الرغبة في الانتقام بعد الإهانات المتكررة لقوة الجيش الإسرائيلي الأسطوري.
المخيمات الفلسطينية «المسلحة» تمثل قنبلة موقوتة في وجه «إسرائيل»، لذلك تسعى الدولة العبرية إلى الضغط على الولايات المتحدة لتسريع عملية نزع الأسلحة من المليشيات الفلسطينية بأسرع وقت ممكن.
من جهة أخرى، دخلت الفصائل الفلسطينية في الصراع اللبناني منذ أيامها الأولى، هذه الفصائل هي اليوم تبني تحالفا مع حزب الله، والسبب أنها تريد أن تحتمي بموقف حزب الله الرافض لنزع سلاحه. تاريخياً كانت الفصائل الفلسطينية تتدخل في الحروب اللبنانية الأهلية نصرة لمن يقف إلى جانب الكفاح ضد «إسرائيل»، وكانت العمليات الأكثر شراسة آنذاك في الجنوب مع القوى العسكرية لحركة أمل وحزب الله ولأسباب تكتيكية ونتيجة تحالفات معقدة مع القوى السياسية في بيروت.
مشهد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يستوعبه الملعب اللبناني بامتياز، وعليه... فإن لبنان تعتبر أكثر منطقة في الشرق الأوسط تعج بالمخابرات الدولية المنشغلة بالمشهد الفلسطيني، ولبنان في حد ذاته مسرح سياسي أشمل لـ «إسرائيل»، وهذا ما يجعل البعض يعتقد أن «إسرائيل» تحذر عدوتها (إيران) عبر لي ذراعها (حزب الله) في لبنان.
استطاعت «إسرائيل» خلال سنوات الحرب الماضية أن تكون لها أياد عميقة على كل التراب اللبناني، بل نجحت في إحدى الفترات أن تكون لها جيشاً عميلاً في الجنوب اللبناني، وهي أكثر النجاحات التي أوجعت الضمير اللبناني والعربي ككل.
فعلياً، إن تسوية شاملة لا تضمن لـ «إسرائيل» نزع سلاح حزب الله هي بمثابة تضييع للوقت، فـ «إسرائيل» - في أي حال من الأحوال - لن تقبل بإنهاء هذا الصراع بينها وبين لبنان، ما لم تأمن جانب حزب الله في المستقبل، وهنا فرس الرهان فيمن يستطيع أن يحقق النجاحات الدبلوماسية الحقيقية.
ولنا أن نعنون نزع سلاح «الميلشيات الفلسطينية» بالقنبلة الموقوتة التي لم يتكلم عنها أحد إلى الآن
العدد 1432 - الإثنين 07 أغسطس 2006م الموافق 12 رجب 1427هـ