في كل حرب هناك عامل حاسم يرجح النصر أو الهزيمة، قد يحدث الانتصار العسكري ولكنه لا يأتي بالنصر السياسي. في حروب العرب مع «إسرائيل» منذ نشأتها في المنطقة كان هناك عامل حاسم لم يقدره العرب حق قدره وهو الطرف الثالث (المساند) ظاهرا كان أم خفيا، وقد استفادت منه الدولة الإسرائيلية، في حين لم يكن للعرب نظرة تفرق بين (العدو) وصديق العدو.
في البداية قامت «إسرائيل» على عاملين، الأول هو عقدة الذنب الأوروبية التي جعلت من اليهود الضحية الكبرى في الحرب العالمية الثانية، وهي عقدة أريد التخفيف منها بإقامة وطن لهم؛ والثاني هو دعم الاتحاد السوفياتي وقتها، والذي اعتقد أن مجرد تبني الدولة الجديدة «الاشتراكية» مثل إنشاء المزارع التعاونية (الكيبوتز) دليل على أنها قد تصبح حليفا للدولة الاشتراكية الكبرى وقتها وهي الاتحاد السوفياتي.
وتتبدل المصالح بعد إنشاء الدولة، فقد وجدت بريطانيا وفرنسا اللتان كانتا تحتلان دولا في الشرق العربي، أن موقف عبدالناصر يهدد مصالحهما المشتركة، فقام الحلف الثلاثي الاسرائيلي، الفرنسي والبريطاني (للدفاع المستميت عن تلك المصالح) فيما عرف بـ «حرب العدوان الثلاثي على مصر»، لم تستطع مصر أن تصد العدوان عسكريا، ولكنها ربحت المعركة سياسيا.
في حرب يونيو/ حزيران 67 حاربت «إسرائيل» الدول الثلاث العربية، وهي الأردن ومصر وسورية بعتاد فرنسي، وخصوصاً طائرات الميراج الفرنسية التي ضربت الطائرات العربية وهي في مرابضها.
العام 1973 مع الحرب التي سميت بـ «حرب أكتوبر» وخاضتها مصر وسورية فقط، توافرت عناصر مختلفة لتحقيق نصر عربي مؤقت على الترسانة الإسرائيلية، ولكن النصر الأهم هو أن الطرفين العربي والإسرائيلي، استطاعا أمام مقاومة شديدة من شارعيهما (المتشددان) أن يصلا إلى شيء من السلام، فيما عرف بمسيرة الرئيس الراحل أنور السادات. تلك المسيرة العسيرة والشائكة، وصلت إلى شيء من التوافق المصري الإسرائيلي بسبب «احترام تضحيات ميدان الحرب» ثم تبعها الأردن.
الملاحظ هنا هو تناقص عدد الدول العربية التي تخوض الحرب مع «إسرائيل» من خمس دول العام 48، إلى ثلاث العام 67، إلى «حزب» العام .,,2006 من هنا شكوى اللبنانيين المرة: لماذا وحدنا؟
في الوقت نفسه ثبات العامل الخارجي المساند إلى «إسرائيل» من الاتحاد السوفياتي إلى فرنسا وبريطانيا إلى أميركا، كثير منها إما لمصالحها الخاصة أو نكاية بالعرب، أخذا بثار أو تحقيقا لمصلحة! في الوقت الذي اتكأ العرب على سلاح من أصدقاء غير دائمين.
مهما كان الموقف السياسي المناصر أو المعارض لحزب الله، إلا أن الموضوعية تقرر أن مقاتلي حزب الله قد أبلوا بلاء حسنا في ساحة المعركة. صحيح أن تضحيات الشعب اللبناني كانت هائلة، إلا أن الصحيح أيضا أن حزب الله يفوز حتى لو خسر المعركة العسكرية. ويمكن لهذا النصر أن يوفر الاحترام للإنسان العربي، وخصوصاً اللبناني «المقاتل». فقد كان للعرب تاريخ من الهزائم السريعة أمام جحافل الجيش الاسرائيلي، بنيت عليها عقيدة سياسية إسرائيلية أن ما أمامهم فقط هو ليس أكثر من مجموعة من المتخاذلين قصيري النفس و«المتخلفين»، اضربهم بقوة وبقسوة فسينصاعون، خصوصا في الحروب المفتوحة.
معركة الجنوب اللبناني في العام 2006 قلبت جزئيا تلك العقيدة، وأصبح أولئك الذين رتبوا حساباتهم على هزيمة سريعة ومنكرة مشدوهين من قدرة الصمود، إذا لم نسم ما نراه تسمية أخرى. لذلك فان القادم من الأيام سيقرر العامل الحاسم في الربح النهائي للمعركة والقرار سيكون على الساحة السياسية، بسبب استنفاد القوة العسكرية، وتقديم بعض الاحترام للقوة العربية (المختلفة عما عرفته «إسرائيل»).
الكارثة هي إن نقلت المعركة إلى الساحة اللبنانية الداخلية من دون توافق سياسي واضح وجلي بين الأطراف اللبنانية على الخطوات اللاحقة لسكوت المدافع، وخصوصاً التوافق بين الطرفين: حزب الله وتيار المستقبل وحلفاؤه، فإن المردود الذي وصفناه بالنصر، سيتناقص بسرعة لينقلب إلى تحقيق الهدف الإسرائيلي من دون أن يطلق الإسرائيلي طلقة إضافية واحدة.
المعركة الداخلية اللبنانية هي الأقسى في القادم من الأيام. وإذا كان لمحلل أن يجرؤ بالتنبؤ، فإن الرهان على دور رجلين بالغ الأهمية، قدرة حسن نصرالله السياسية، واستيعاب نبيه بري للموقف السياسي. بموقف الرجلين يستطيع لبنان أن يعبر أصعب جسر سياسي، في الوقت الذي هدمت فيه كل جسوره المادية. إن الخطأ في الحساب هنا قد يحقق لـ «إسرائيل» ما لم تستطع تحقيقه بالمدافع.
بقي أمران، الأول هو القول ان بعض الدول العربية وقفت مع «إسرائيل»، أو أن الموقف العربي قد جرأ «إسرائيل» أكثر على لبنان، أو أي شيء من هذا القبيل؟ وكلما سحبت هذه الفكرة من التداول العام، كان ذلك أفضل. لسببين، الأول أن هذا القول لا ينتمي للحقيقة، مهما فسرت التصريحات من بعض الجوانب العربية في الأيام الأولى لمعركة الجنوب. فقد كانت تلك التصريحات، كما هي التعليقات الصحافية، تطلق خوفا وهلعا على لبنان وليس نصرة للمعتدي، بدليل الجهد الخارق الذي تم على الساحة الدولية لهذه البلدان العربية، والذي لا يجوز التشكيك فيه، كما أن هذا الموقف الناقد من بعض المعلقين العرب، هو موقف يجب أن يقبل، لأنه حتى في «إسرائيل» نفسها، بدأ النقاش من أول طلقة في الحرب عن أهدافها وأخلاقياتها، بل ظهرت هناك أصوات عالية معارضة للحرب برمتها، وكذلك حدث في الولايات المتحدة، وكان الصوت العربي الناقد يريد أن ينبه للالتفات لحساب المكاسب المحققة والأثمان المدفوعة، وهي أثمان إنسانية غالية بكل المعنى الذي تحتمله الكلمات.
السبب الثاني لسحب هذا التداول وهو الأهم إطفاء شرارة النزاع الطائفي الذي يمكن أن تطلقه مثل تلك الأفكار، والذي تتمنى اليوم «إسرائيل» إشاعته، قبل غيرها (بدليل التصريحات التي أطلقت من شيمون بيريز إلى نتنياهو) للمراهنة على نزاع فئوي عربي. قال نتنياهو على شبكة «سكاي» البريطانية ان النزاع السني الشيعي قائم وله ألف عام ولن يهدأ! كما كرر شيمون بيريز القول أمام مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، إذ بشر تخويفا، بصراع سني شيعي دموي. المساعدة في إطلاق شرارة النزاع الطائفي هو أكبر من إلقاء قنبلة نووية تكتيكية على منطقتنا! وهي أشرس كثيرا من كل قوة «إسرائيل» العسكرية! وهنا لابد من تحية القول الشامل والقاطع للرئيس نبيه بري إذ قال «إن الهلال الشيعي جزء من القمر السني»، وهو كلام بليغ وعاقل وتاريخي أيضاً.
أما الأمر الثاني فهو موقف الدول العربية التي لها علاقة ما بـ «إسرائيل»، وهذا ليس سرا، فهناك دول عربية لها علاقة علنية معروفة، وأخرى لها علاقة «مستحية» إلا أن الفكرة الرئيسية أن كل العلاقات تلك ليس لها تأثير في إطفاء شراهة «القومية الإسرائيلية» تجاه جيرانها العرب. وهناك الكثير مما كتب عن النظرة الإسرائيلية للعرب، وهي نظرة دونية تؤسس لصورة غير حقيقية تؤدي إلى فكرة خاطئة تماما. وقد أثبت حزب الله خطأها، وهي قدرتها على «هزيمة» العرب، مجتمعين ومنفردين! والسؤال: لماذا لم يؤسس حتى الآن رأس جسر بين الدول المصالحة وبين بعض قوى السلام في «إسرائيل» لتقديم فهم أفضل لهذه القضية التي استنزفت ومازالت تستنزف هذه المنطقة الموبوءة بالحروب والدم! ذلك قصور يجدر البحث فيه.
لابد من القول في النهاية ان القضية الفلسطينية، هي أم القضايا في المعارك الدائرة، وهي مفجعة لأي إنسان، فاختطاف جندي إسرائيلي في غزة لمبادلته بتسعة وخمسين امرأة وثلاثمئة وثلاثة عشر طفلا في سجون إسرائيلية (عدا آلاف الرجال) معارضة هذا التبادل هو أمر يندى له جبين الإنسانية بأي عقيدة التزمت. فلم يتحدث الخاطفون هنا عن آلاف الرجال، بل نساء وأطفال في سجون من تدعي أنها البلاد «الديمقراطية» الوحيدة في الشرق! كيف يمكن إلا إدانة هذا الأمر الذي يحتجز النساء والأطفال، وهي إدانة تساير إدانة قتل أطفال قانا اثنين، وقانا واحد ومروحين وعشرات القرى اللبنانية والبيوت الفلسطينية.
حرب جنوب لبنان تقول لنا بوضوح ان هناك حدودا للقوة العسكرية، فإما إبادة كاملة وإما الوصول إلى نقاط تفاهم سياسية تتوقف بعدها «إسرائيل» عن التفكير في أنها ذات «طهرانية» عرقية، كما يتوقف فيها التفكير الأميركي اللاهوتي أن «فلسطين لليهود» بكامل ترابها وبمن عليه من بشر.
ان النازحين أمام جنود «إسرائيل» في الجنوب هم وقود الكراهية في المستقبل، وان القتال الحقيقي هو خارج الحلبة العسكرية، هو في عقول وأرواح الإسرائيليين الذين عليهم أن يعرفوا أن التفوق العسكري مثله مثل أي شيء آخر له حدود، ويمكن أن تخترع وسائل تعطل من قدرته وتفوقه، أما النجاح في تغير الأفكار فهو الذي يجعل من هذه المنطقة بكل شعوبها وأعراقها تنعم بالسلم الحقيقي، ذلك هو العامل الأكثر حسما
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1432 - الإثنين 07 أغسطس 2006م الموافق 12 رجب 1427هـ