العدد 1431 - الأحد 06 أغسطس 2006م الموافق 11 رجب 1427هـ

همسات من بلاد الأرز

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أظهر العدوان الصهيوني على لبنان موزاييكاً عجيباً من المواقف والتصريحات التي من المؤكد أن تجاوزها كما السابق سيعني أننا دخلنا عملياً مرحلةً ماستودونتيةً بشكلها الأسوأ، بعد أن عشنا نمطية بصرية وسمعية وحتى قلبية اعتدنا عليها منذ زمن، فلم تعد حوادثاً جساماً لتؤثر فينا بأكثر من «هزة كتف»! وهو زمان كئيب وقاس أنسى من قبله وأتعب من بعده. قديس هذا الزمان وملهمه جورج بورش قال بلغة استعمارية حاقدة: إن «التحدي المشترك للعراق ولبنان في هذه المرحلة هو في محاربة الارهاب»! أما مندوبه لدى الأمم المتحدة جون بولتون فقد قال بتحامق يميني فجّ رداً على سؤال لبرنامج محلي على قناة «فوكس نيوز»: إن «على السوريين أن يضعوا حداً لإطلاق الصواريخ على أناس أبرياء في (إسرائيل)»! أما البطريرك مار نصرالله بطرس صفير فقد قال إن «المآسي التي تتوالى على لبنان لا سبيل لنا إلى التخلص منها إلا بالصلاة والتوبة»! في حين صرح مساعد الأمين العام لشئون الإغاثة إيان إيغلند قائلاً بعيد زيارته التفقدية للبنان: «اليوم رأيت الدمار في الضاحية الجنوبية، وقد أثر فيا كثيراً، كيف أن مباني سكنية بكاملها سويت بالأرض، ولم أكن أعرف أنها مجمعات سكنية، ووجدت بقايا كتب مدرسية وهي أحد الأمثلة على معاناة الأطفال، الوضع مروع».

أما العزاء فقد كان لدى مدير الوكالة الأميركية في الشرق الأوسط عندما سأله أحد الصحافيين المحترفين: ألا تعتقدون أن من سخرية الأقدار أن ترسلوا مساعدات طبية لضحايا يسقطون بواسطة أسلحة أرسلتموها إلى «إسرائيل»؟ وهو ما دفعه لأن يلوذ بصمت ممزوج بعرق طارئ، الأمر الذي شجع صحافياً آخر لأن يفاجئه بسؤال أمر من سابقه: هل هذه الشحنة التي تبرعت بها واشنطن تتضمن أدوية للأسلحة الفوسفورية التي قيل إن الإسرائيليين يستعملونها؟ فأجاب بفم فاغر: «لست خبيراً طبياً» وهنا أترك التعليق للقارئ الكريم.

وفي الميدان سجلت كاميرات الصحافيين وأقلامهم مشاهد تندى لها الجباه وتشيب لها الولدان، وكيف كانت الصواريخ الأميريكية الذكية المهداة للكيان الصهيوني تصطاد أهدافها بدقة متناهية، ففي بلدة طلوسة سقط صاروخ على منزل تختبئ فيه امرأة عجوز فأصيبت بجروح خطيرة وبقيت تنزف من دون أن يتمكن المسعفون من انتشالها من تحت الأنقاض فقضت هناك. وأغارت الطائرات الصهيونية فجراً على بلدة عنجر مستهدفة جراراً زراعياً كان سائقه يعمل في الحقل عندما فاجأه صاروخ صهيوني أدى إلى تدمير الجرار، وفي مكان آخر أغارت الطائرات الصهيونية في الثانية بعد الظهر على سيارة بيك آب محمل بالبطاطا، وأخرى على حفارة آبار ارتوازية، حتى كللت تلك الاعتداءات بفاجعة قانا. إنها حقاً مأساة ضمير لم يعد يفهم الأشياء كما هي فاختلطت عليه المفاهيم حتى انحرف بسرنمة مزمنة أعيت كل من أراد لها شفاءً وعافية.

وفي بلاد الأرز أيضاً حيث عاشت الثقافات والتقت الحضارات وانهزمت الامبراطوريات وتآلف البشر وتصاهروا وتدارروا، ظهرت من بين حجره وحديده نار الصمود والشرف والتضحية في قبالة النيئين والمرعوبين من أصحاب الكروش الأمومية ورساميل الكازينوات الليلية، ومن بينه أيضاً ظهرت جوقة «المغامرين» الحقيقيين، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فأسبغوا على أنفسهم نعوتاً ونياشين كثورة التحرير و14 مارس/ آذار والثورة البرتقالية، فعبثوا بأقدار بلدهم وبعذرية ما يجمع الشعوب والناس وأساؤوا إلى علاقات بلد يجاورهم منذ زمن سحيق، إلى الحد الذي وصف فيه عرابهم وليد بيك جنبلاط الشعب السوري بأنه شعب «بائس» فتشاحنت النفوس تجاه بعضها حتى ظن بعض اللبنانيين أن عدوهم الأول هو في دمشق لا في تل أبيب، وأنه بشار الأسد لا أرييل شارون، حتى انكشف المستور ولانت القلوب وانحنت القامات، فبان الآن أن أحداً لم يكن ليفقه بعد أسرار العلاقة القائمة بين الشعبين التي تجلت بوضوح في الأزمة الأخيرة، ورأى الناس بعضهم بعضاً ببشرة شفافة عندما تلاقوا عند نقطة عاطفية حاسمة، فبمجرد وصول النازحين اللبنانيين إلى الحدود السورية قدمت لهم تسهيلات العبور، وعرضت خدمات النقل المجانية إلى دمشق وأرقام الهواتف لربط القادمين بعائلات ومؤسسات سورية، كما ملئت شوارع دمشق بإعلانات حائطية تدل على عائلات مستعدة لاستضافة «الأخوة اللبنانيين» مجاناً. وفي بلدة جرمانا (15 كم من دمشق) فتح أهلها مزارعهم وفللهم الصيفية أمام النازحين اللبنانيين، ولم تتأخر جمعية حماية الأسرة في سورية في تحويل مراكزها إلى فنادق مؤقتة ضمت 32 عائلة جاءت من النبطية والضاحية الجنوبية والبقاع الغربي. وبعد ذلك الرهان الخاسر بدأت تلك الجوقة تتحدث بأن ما قام ويقوم به حزب الله هو حرب بالوكالة لا بالأصالة، وأنه ينفذ لائحة التحالف السوري - الإيراني في المنطقة، وأن اختطاف الجنديين كان خطأ فادحاً، لأنه تجاوز الخط الأزرق بين لبنان والكيان الصهيوني، وبالتالي أعطى الأخير ذريعة لهجومه الوحشي على لبنان، ونسوا أن ذلك الكيان الغاصب قد خرق الحدود البرية والبحرية والجوية اللبنانية أكثر من 2400 مرة منذ هزيمته وانسحابه من لبنان في مايو/ أيار 2000، ونسوا ما قاله أحد مرافقي كوندوليزا رايس عند زيارتها لبيروت إن أحد أهداف المعركة المحتدمة هو تحجيم الدور الإيراني في المنطقة، ونسوا أيضاً أن حديث الوزيرة عن الشرق الأوسط الجديد سيعني النظر في القوميات والأعراق والأديان والطوائف التي اضطر بعضها للانضواء قسراً تحت لواء دول بعينها بقوة الاستبداد وليس بالتوافق والرضا، وحان الوقت الآن لتفكيكها وكنتنتها بالشكل الذي يؤمن مزيداً من الاستقرار للسياسة الأميركية في المنطقة، وبالتالي فهم يساهمون بشكل آلي في ترجمة ذلك من خلالهم وعبر بلدهم، ونسوا أيضاً أن هذه الحرب لم يكن هدفها تحرير الجنديين بل إن أهدافها أكبر من ذلك، وقد قال أولمرت ذلك صراحة للموفد الدولي: «لا أريد الجنديين، فليحتفظوا بهما ولن أفاوض عليهما، وقد أبلغت عائلتيهما أن عليهما ألا تتوقعا عودتهما القريبة، وأن استعادتهما قد تطول، حتى لا تنتظرا حلاً سريعاً لقضيتهما لأني لست مستعجلاً في ذلك». وعندما سأله الموفد الدولي: إذاً ما الذي تريده؟ أجابه أولمرت: «سأحطم حزب الله».

إذاً... ماذا بقي أمامنا لكي نفهم ولكي ندرك، والأكثر لكي نتعظ، لكي لا يعيد التاريخ نفسه بالشكل الأسوأ لأن في ذلك ترديد وتكرار للأخطاء

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 1431 - الأحد 06 أغسطس 2006م الموافق 11 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً