يخطئ من يعتقد بأن الحرب الدائرة على لبنان هي حرب تشنها الدولة الصهيونية لحسابها فقط، وأن أميركا تقوم بلعب دور الحماية وتوفير الغطاء السياسي الدولي لها فحسب، ذلك أن تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية في المنطقة وخارجها لا توحي بذلك أبداً، ولو كان الأمر كما تتناقله وكالات الأنباء لما رأينا رايس تتحدث بهذه الصلافة، حتى وهي في بيروت المدمرة بفعل الأسلحة الأميركية والغطرسة الصهيونية قائلة: «إن الوقت لم يحن بعد وأن الظروف غير ناضجة لوقف إطلاق النار».
لبنان اليوم يتعرض لهجوم أميركي مباشر، ومن المؤكد أننا سنكتشف في الأيام المقبلة أن أميركا لم تكتف بتزويد الكيان الغاصب بالقنابل الذكية فحسب، بل إن سلاحها وجيشها يشارك في العمليات العدوانية العسكرية فعلياً، وربما يكون هو من يقوم بإلقاء تلك «القنابل الذكية» على بيروت وكل لبنان، مستفيداً من تجربته وخبراته في كل من أفغانستان والعراق. ولن يقف الأمر عند هذا الحد، فأميركا اليوم ترى أن كرامتها في الميدان وسلاحها وجبروتها هم الذين يهانون في لبنان، لذلك لن تدخر أي جهد في سبيل تحقيق أي نصر هش يعيد لها قليلا من جبروتها المتهاوي.
إن الحديث عن المواجهة بين السلاح الأميركي والأسلحة الإيرانية لا يخلو من صحة، وهنا فإن الأمر يتجاوز رغبة واشنطن في توريط طهران ومحاصرتها بتهمة «دعم الإرهاب» كما تتحدث أميركا، ذلك ان رغبة واشنطن في تطويع المنطقة وإذلال المسلمين عموماً والعرب منهم خصوصاً، هو بحاجة إلى تحييد إيران وإخراجها من التوازنات السياسية والعسكرية في المنطقة، وخصوصاً بعد أن أحرزت إيران تقدماً كبيراً في طريق امتلاك التكنولوجيا النووية.
لقد راقبت واشنطن اتفاق الدفاع المشترك بين إيران وسورية، وهي تعلم أن هذا الاتفاق لا يشبه اتفاقات الدفاع العربي الاستراتيجي في شيء، وتثق بأن الإيرانيين جادون في التدخل إذا ما تعرضت حليفتهم سورية لأي اعتداء. ثم ان أميركا استمعت جيداً إلى تصريحات الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد وهو يقول إن «إسرائيل» يجب أن تزول، وأن على الصهاينة أن يحزموا حقائبهم ويرحلوا من المنطقة، وهي تعلم أن هذا المنطق الذي يتحدث عنه الرئيس الإيراني لم يأت من فراغ، فهو ينطلق من ثقافة جديدة ذات نفس مقاومة أطلقها وأرسى دعائمها الراحل الإمام الخميني (قدس سره)، حين أعلن منذ اليوم الأول لانتصار الثورة الإسلامية في إيران أن لا مكان للصهاينة في إيران الإسلام، واستبدل السفارة الصهيونية في طهران بأول سفارة لفلسطين في العالم، وأطلق عبارته المشهورة «يجب أن تزول إسرائيل من الوجود».
بل إن أميركا تعلم علم اليقين أن الإمام الخميني كان يقرأ التاريخ والمستقبل جيداً حين أعلن عن يوم القدس العالمي، مطلقاً حملة تضامنية واسعة ومتجددة لن تتوقف حتى تستعيد هذه المدينة المقدسة حريتها وكرامتها التي أهينت تحت مرأى ومسمع من الأنظمة العربية والحكام العرب فلم يحركوا ساكناً، واكتفوا بالندب والعويل تاركين الأشقاء الفلسطينيين يواجهون مصيرهم منفردين، حتى قال أقرب الناس لهذه الأنظمة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات «يا وحدنا».
إنها روح الكرامة الإسلامية ذات النفس الاستشهادي الذي يكتنز مواقف الإمام الحسين في كربلاء حين وقف وحيداً يواجه الجيوش الجرارة التي جاءت لتجبره على الخنوع والمبايعة، فما كان منه إلا أن رفع الشعار الخالد «هيهات منا الذلة»، وحين تسري روح الإمام الحسين في جسد الأمة الإسلامية ممثلة في سيد المقاومة المنصور بإذن الله حسن نصر الله واخوته المجاهدين في صفوف المقاومة الإسلامية وجماهير ومناصري حزب الله، فإن نص الآية القرآنية «فإن حزب الله هم الغالبون» (المائدة: 56)، يتجسد على أرض الواقع، وترتعد فرائص العدو الصهيوني في كل من تل أبيب وواشنطن ونيويورك وعواصم العدوان العالمية الأخرى.
لقد أدركت أميركا مغزى انتشار هذه الروح، ودرست تأثير ذلك على الجماهير العربية والمسلمة التي تذوقت طعم الانتصار الشامخ الخالص الذي حققته البندقية المقاومة في لبنان بعيداً عن كل الأسلحة المتطورة المخزنة في ترسانات الدول العربية، والتي يتم صيانتها واستبدالها لاستخدامها في الاستعراضات العسكرية فقط، أو كمخزون استراتيجي للجيش الأميركي تحت متناول اليد عند الحاجة كما يحدث الآن عندما تستدعي أميركا القنابل الذكية وأسلحة الدمار الأخرى لتزود بها العدو الصهيوني من قواعدها العسكرية المنتشرة في عدد من الدول العربية والإسلامية.
لقد هال أميركا منظر الجماهير العربية والمسلمة وهي ترفع صور سيد المقاومة، وحاولت أن تصم آذانها لكي لا تسمع نداء الجماهير الهادرة من المحيط إلى الخليج وهي تردد «يا نصر الله يا حبيب دمر حيفا وتل أبيب»، وكبرت علامات التعجب والأسئلة عن فشل كل محاولات التطويع وتجارب التغريب التي مورست في المنطقة، والمشروعات التي تم تسويقها تحت مسميات مختلفة! لذلك تم استدعاء خبراء السياسة والمحللين الاستراتيجيين لدراسة هذه الظاهرة التي اعتقد الأميركان أنهم انتهوا منها!
لقد توهموا بأنهم تمكنوا من تدجين كل العرب والمسلمين، وبأن المسألة لا تحتاج إلا إلى وقت قصير حتى يرفع العرب والمسلمون الراية البيضاء ويخروا راكعين تحت راية أميركا والكيان الصهيوني، فإذا بهم أمام كلمات السيدنصر الله المليئة بالثقة والعنفوان والإيمان بالله وبالنصر، وإذا بهم أمام فعل المقاومة الإسلامية في كل من لبنان وفلسطين، وإذا بهم أمام بحر من الجماهير العربية والمسلمة يهدر موجها في كل مكان مردداً «لبيك يا مقاومة». لقد آذت هذه الكلمات مشاعر المحافظين الصهاينة في البيت الأبيض، لذلك لم يكتفوا بالسكوت أو إمداد وكيلهم في المنطقة بالسلاح والدعم السياسي واستخدام حق الفيتو لمنع إدانته في مجلس الأمن.
لقد مارس الأميركان سياسة الخطف والإرهاب بحق المجتمع الدولي، إلى الدرجة التي يتخيل فيها المرء بأن قرارات مجلس الأمن أصبحت في حقيبة وزيرة الخارجية الأميركية، تسحب منها ما تشاء لتمررها لمجلس الأمن عبر وكيلها الصهيوني المندوب الأميركي الدائم في مجلس الأمن جون بولتون. بل إن أميركا جيرت كل دول العالم والأجهزة الإعلامية كافة للوقوف إلى صف العدوان على لبنان، ثم راحت تتباكى على الدمار الذي لحق به، متخذة من قضية أسر الجنود الصهاينة ذريعة واهية لتنفيذ مخططاتها المبيتة والمرسومة منذ زمان بالتنسيق مع الكيان الصهيوني. لكن لسان حال الشعوب يقول لهم لقد ولى زمان الهزائم، وابتدأ زمن الانتصارات والروح المقاومة. وبكل تأكيد فإن الإرادة التي هزمت الصهاينة وأخرجتهم أذلة خاسئين في مايو/ أيار العام ،2000 قادرة على دحر الغزاة الصهاينة وشركائهم الأميركيين في هذه الحرب الأميركية المفتوحة المفروضة على لبنان والمقاومة.
إنها لحظات الفخر والانتصار التي وعد بها سيد المقاومة حسن نصر الله الذي وحد الأمة الإسلامية تحت لواء «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، قائلاً لنا جميعاً: «النصر آت آت... إن شاء الله»
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 1431 - الأحد 06 أغسطس 2006م الموافق 11 رجب 1427هـ