دائما تكون المنعطفات زلزالية وصاعقة وعظيمة الوطء، لأنها تكشف قرب الإنسان من الأشياء (أي تكون) من عدمه وصدقه من كذبه وإيمانه من نفاقه.
من يدعي الحب تكشفه لحظات الحرج والشدة، ومن يدعي الأخوة تفضحه أوقات الحاجة، ومن يدعي الصلابة يمحص ما في قلبه حين يدور الأمر بين سلامته أو الدفاع عن معتقده.
المنعطفات هي الامتحانات الصعبة والفتن التي يقول القرآن الكريم عنها (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون).
الكثير من الناس تنتهي المنعطفات بهلاكهم وتوقفهم وسقوط الأقنعة عنهم (أقنعة الكذب والنفاق والتزلف والخداع)، وبقدر ما يعني ذلك انفضاضا للكثيرين لمن كانوا يبحثون عن الغنائم والهدوء والدعة والاستقرار ورؤيتهم على حقيقتهم هكذا يتهافتون كأوراق الشجر، لتبقى أشجار قليلة تحافظ على أوراقها وخضرتها من دون أن يعنيها دخول الخريف أو خروجه، تلك هي الأشجار التي تحافظ على جمال طبيعتنا في الأوقات القاسية والظروف الصعبة والمنعطفات الخطيرة.
لقد امتدح الشعراء الشدائد وأوقات الضيق وراجت قصائدهم مضرب أمثال ترددها الأجيال وتتغنى بها، وكما يقول الشاعر:
جزى الله الشدائد كل خير
وان كانت تغصصني بريقي
وما مدحي لها حبا ولكن
عرفت بها عدوي من صديقي
قضايا أمتنا العربية والإسلامية كثيرة وكبيرة، وكل قضية منها لها ألف أب يتباهى بشعارها وألف تاجر يتاجر بها، وألف حلاب يجفف ضرعها، ويربح الكثير من السمعة والمعروفية باسمها، لكن هؤلاء جميعا يتبرأون منها حين الشدائد والمحن، ويفصلون أنفسهم عن كل ما يرتبط بها حين الخوف والخطر ولا يبقى لها إلا الأب الحقيقي الذي تنتمي إليه وينتمي إليها.
ما يمكن قوله هنا ان الشدائد ليست كلها نقمة وخسارة، بل في الكثير منها خير عظيم، فكما أن لفترات الهدوء والاستقرار والدعة مرابح ومكاسب يعود قسم منها بالنفع على الأمة، كذلك للشدائد والملمات ميزاتها وعطاياها التي لا تخفى.
أول تلك الميزات التي تمتاز بها ظروف الشدة والضيق هو سقوط الشعارات الخادعة والكلمات المعسولة واليافطات الوطنية أو القومية أو الدينية الكاذبة لأن خطورة المراحل وحرج الظروف يستدعيان موقفا لا شعارا، ودما لا غناء، وتضحية ربما يكون ثمنها النفس والأولاد والممتلكات.
ساعات الزلزال تجعل الجميع على المحك لا فرق فيها بين الكبير والصغير ولا بين الحاكم والمحكوم، ولا بين الدول والأفراد.
من يدعي الوطنية ملزم لتحكي أعماله عن وطنيته بعد أن دوت شعاراته وصمت الآذان، ومن يرفع لواء القومية يتطلع الجميع ليرى واجبه القومي كيف يتحول من النظرية إلى الفعل والعمل.
في أوقات الحرج والشدة تفضح الشعارات وتسقط لتسمى الأشياء بأسمائها، فليس الإسرائيليون هم من يعيشون في فلسطين المغتصبة وليس الصهاينة هم من يوجدون في تلك البقعة الجغرافية المغتصبة (فلسطين) إذ ربما يكون في وسطنا العربي والإسلامي من هو أكثر صهيونية منهم ولكنه يجيد التستر ولا يريد لنهجه الافتضاح مستعينا بما أتيح له من أقنعة، لكنه الآن مع هدير الطائرات وانهمار الصواريخ على الأبرياء والنساء والأطفال لا يتاح له التستر ولا تستطيع الأقنعة مهما كانت سماكتها أن تثبت وتخفي الخذلان والخيانة.
من ناحية ثانية تكشف الأزمات مقدار الفداء والتضحية ومدى الاستعداد للعطاء خصوصا في القضايا المصيرية والخطرة التي تحيط بالأمة، كالحرب التي تدور رحاها الآن بين الصهاينة المعتدين وبين المقاومة الإسلامية للشعبين الفلسطيني واللبناني، فهل العطاء المقدم من دولنا العربية والاسلامية شعوبا وحكومات يتناسب مع حجم المأساة؟ وهل المساعدة تصل إلى مستوى التحدي؟ وهل دعمنا جميعا (في وضعه الحالي) يساعد في استمرار الصمود والمقاومة؟ أم أن ما نقدمه لشعب تتمزق أجساد أطفاله بالصواريخ والقنابل المحرمة دولياً هو بعض فتات من طحين وقمح وسكر وملح؟
إن هذا الأمر يصدق على مستوى الأفراد أيضاً، فلا يقبل أن يقبض الإنسان على ما في يده وهو يشاهد بأم عينه ما تؤول إليه الأوضاع في لبنان والدولة الفلسطينية ثم يتبرع بالفضلة من عيشه وراحته.
أما على مستوى القرار وأهل القرار، فإن الفجائع والأهوال التي يتعرض لها الشعبان الفلسطيني واللبناني أكبر من أن تواجه بالشجب والاستنكار والتنديد، والقول إن ما أقدمت عليه «إسرائيل» أمر خطير، يهدد أمن المنطقة، أو أنه ينسف عملية السلام، وينذر بوقوع كوارث.
تلك مقولات قد تقبل في الظروف العادية والأوضاع الطبيعية، أما وقد حمي الوطيس وجد الجد وتناثرت أشلاء الأطفال والنساء، فلا محل لتلك الكلمات لأنها أصبحت فارغة وخاوية من أي معنى أو قيمة يمكن أن يعول عليه المظلومون والصامدون.
الحال الذي نحن فيه وما آلت اليه الأوضاع يكشف أننا لم نكن في عملية سلام إلا من طرف واحد وهو نحن كعرب ومسلمين، لأننا غفلنا عن عدونا وانشغلنا بالفتن الداخلية بيننا، أما الكيان الغاصب فلم ينفك لحظة عن خططه ضدنا واهانته لكرامتنا.
آن الأوان لنصحو من تخدير السلام الموهوم ونعد العدة ليوم نحن شاهدوه مع عدونا طال الزمان أم قصر بمبرر أو من دون مبرر، لأنه لن يرضى عنا حتى نتبع ملته وأفكاره ومخططاته، ونصبح جزءا من شرق أوسطه الكبير
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1431 - الأحد 06 أغسطس 2006م الموافق 11 رجب 1427هـ