ذكرت وكالة الصحافة الفرنسية الأسبوع الماضي أن غالبية القنوات الفضائية العربية أوكلت مهمة التغطية الإعلامية للحرب الدائرة على لبنان إلى مراسلات «نساء» لينقلن الحوادث بالصوت والصورة من مواقعها مباشرة.
ولم يكن ما ذكرته الوكالة ضرورياً لإدراك هذه الحقيقة، التي تبدو واضحة وضوح الشمس على شاشات التلفزيون ليلاً ونهاراً. ففي كل نشرة أخبار تقريباً، ينتقل المذيع أو المذيعة إلى مراسلة على خط النار، لتنقل بجرأة وشجاعة بالغين ما يحصل في موقع الحادث، حتى أصبحنا كمشاهدين لا ندرك، أو لا نهتم في حقيقة الأمر لكون المراسلة امرأة، معتبرين وجودها أمراً طبيعياً ومتوقعاً، ولم نعد نفكر في مدى الأخطار التي ربما تعرضت لها، ومازالت، تلك المراسلة، لكي تنقل لنا حقيقة ما يجري. فصوتها الثابت، ونبرتها الواثقة، ودقة معلوماتها، لا تترك المجال لكي نفكر فيها كامرأة يؤطرها البعض على أنها مخلوق «ضعيف»، في حين أنها قادرة في الواقع على صنع ما لا يقل عن الرجال، إن لم يزد قليلاً.
في هذا العدد من «جهينة»، نقترب من بعض المراسلات العربيات على خط النار، هناك في لبنان. هن نساء عاديات، قدر لهن أن يعملن صحافيات وإعلاميات، وقدر لهن أن يغطين هذه الحرب المجنونة في لبنان، وقدر لهن أيضاً، أن يشهدن من الفظائع الكثير، ويعانين ويتألمن، وقدر لهن في النهاية ألا يعدن نساء عاديات...
لم تتفوق المراسلات في نقل الحادث، والمنافسة على الوجود في الخطوط الأمامية من القتال فحسب، بل تفوقن في دفع الثمن أيضاً، فبعد مقتل مراسلة العربية في العراق أطوار بهجت منذ أشهر، نجد المصورة الصحافية الحرة ليال نجيب ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً، والتي قتلت في جنوب لبنان بصاروخ إسرائيلي أصاب سيارة الأجرة التي كانت تقلها بين قرى الجنوب المتقدمة، لتسجل رقماً في مقدمة الإعلاميين الذين ذهبوا ضحايا الحرب في لبنان.
«ما يحصل في لبنان مروع، وعلى رغم أنني أحاول أن أكون متماسكة وأنا أؤدي عملي، فإنني لم أتمالك نفسي فدمعت عيناي على الهواء مرتين».
هذا ما تقوله مراسلة تلفزيون «المستقبل» اللبناني نجاة شرف الدين، لتضيف: «في هذه الحرب لم يعد هناك فرق بين المراسلين الرجال والنساء، فالمشكلة هي في صعوبة الذهاب إلى مواقع القتال، ولا يمكن المقارنة بين الوصول إلى مواقع القصف، وما يحصل للمدنيين أثناء القصف. إن ما يحصل أمر مروع فعلاً، كل ما يحصل في لبنان حالياً ينزل الدموع ولا نستطيع إلا أن نتحسر على ما كانه لبنان، فالجو حزين جداً ومؤلم».
وتضيف أن «غالبية المراسلين الذين ذهبوا إلى مواقع القصف في تلفزيون «المستقبل» هم من الرجال، غير أن الخطر الذي يتعرض له الرجال هو في مثل مستوى ما تتعرض له المراسلات النساء، إلا أن الصعوبة بالنسبة إلى النساء تأتي في إيجاد سبل العيش الأساسية».
وتشير شرف الدين إلى أنها تقوم حالياً بعمل لقاءات مفتوحة على الهواء مع شخصيات سياسية لتناقش الحادث، والمعاناة الجارية على الجميع والتي تصفها ب «الكارثة العامة».
وتضيف «ان أحداً لا يستطيع أن يقوم بعمل شيء على أي مستوى، ويبقى دورنا الإعلامي هو إيصال الصوت إلى الخارج ونقل معاناة الناس وهدم البنى التحتية في لبنان واستهداف المدنيين. فأخبار هذه المجازر يجب أن تصل إلى العالم، وهو فعلاً ما نجحنا فيه لشد اهتمام العالم الخارجي، والدليل هو وجود عدد كبير من مندوبي الصحافة الأجنبية في لبنان لينقلوا اهتمام العالم الخارجي، ربما يكون لهذا الأمر دور في التأثير على الموقف السياسي العالمي».
وكانت شرف الدين قد غطت الحرب في أفغانستان والعراق من قبل، ولذلك لديها من الخبرة الكثير في تغطية الحروب، واستطاعت أن تنقل الحوادث في الجنوب اللبناني بشكل دقيق جداً، فقد نشأت في إحدى «ضيع» الجنوب، وتعرف بالضبط المناطق هناك، وكل المواقع التي تتعرض حالياً للقصف الإسرائيلي. وعلى رغم أن الحرب لا تجلب معها أي خير، فإن تجربة شرف الدين في تغطية هذه الحرب قوت من تجربتها الإعلامية وشخصيتها وكيفية تعاطيها مع المعلومات والأخبار من أجل تغيير نظرة المجتمع الدولي والعالم إلى لبنان.
وترى شرف الدين أن من الضرورة بمكان أن تصل الصورة إلى العالم الخارجي عما يحصل في لبنان، وخصوصاً عبر نقل الكوارث الإنسانية بالأرقام، مضيفة أن هناك مآسي كبيرة لم يتمكن الإعلام من رسمها لبشاعتها.
«البكاء لدينا مؤجل، نريد أولاً أن نستوعب ما يحصل، وننقله للناس عبر الإعلام، وعندما ينتهي كل شيء، سنبكي».
بهذه الكلمات وصفت مراسلة صحيفة «الحياة» اللبنانية ناجيا الحصري تغطيتها للحرب على لبنان. فعلى رغم أنها ليست الحرب الأولى التي تغطيها كإعلامية، فإنها المرة الأولى التي تشعر بكل هذا الألم، فهذه هي المرة الأولى التي تشاهد فيها كل هذا الحجم من التدمير والقتل واستهداف المدنيين. تقول الحصري: «الحرب على لبنان لم تستثن امرأة أو رجلاً أو حتى طفلاً، وتغطية الحرب أصعب بطبيعة الحال من تغطية الأخبار أيام السلم، لم أذهب للجنوب لأن شركات التأمين رفضت أن تغطي الصحافيين الذاهبين إلى هناك، لكنني أتابع المناطق المقصوفة يوماً بيوم، أزور المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء، ومواقع القصف، وأتنقل وأعيش في بيروت مثلما يعيش باقي الناس، فقد هجرت من منزلي أنا أيضاً وأسكن حالياً في أحد الفنادق».
وتشير الحصري إلى أن معظم المراسلين القريبين من خط النار خضعوا إلى دورات تدريبية للتعامل مع الحرب، ومهماتهم تتركز في تغطية التدمير والخراب والقصف إضافة إلى نزوح السكان، مضيفة أن المراسل الصحافي يضطر أحياناً إلى التخلي عن مهنته في الميدان ويتحول إلى إنسان ليساعد المهجرين، فتغطية هذه الحوادث تكون مصحوبة دوماً بالألم والعذاب. وعلى رغم أن البكاء مؤجل بالنسبة إلى الصحافيين، فإنه أمام مجزرة قانا لم يتمكن أي من المراسلين، رجالاً ونساء، من تمالك أنفسهم من البكاء.
تقول الحصري: «نشعر أن القصف قريب جداً منا، ومن أماكن عملنا، نعرف بالضبط أن القصف قد ينزل على رؤوسهم في أية لحظة، ولذلك يتضاعف الضغط. والخوف ليس مزحة هنا، فهو شديد جداً، فالقذائف هذه المرة ليست ككل مرة سابقة، ففي العام 1982 كانت الصواريخ كبيرة ولكن ليست بحجم تدمير هذه الصواريخ، إذ إن صواريخ هذه المرة يمكن أن تهد بناية بأكملها، ولا تبقى بعد ذلك إلا رائحة الجثث التي لا يمكن أن تمحى من الذاكرة، شاهدة على الموت والدمار».
تعمل الحصري بشكل متواصل ويومي وسط بيروت هي وفريق عمل متكامل في الصحيفة، ويبقون حتى أوقات متأخرة مساء في مبنى الصحيفة، وأحياناً لا يكون في الشارع غيرهم وغير عناصر الجيش، وأصوات القصف والبنايات التي تتهدم.
«وعيت حياتي على حرب، وعشت دوماً في حرب، وها هي الحرب تعود من جديد، وعلى رغم أنني إعلامية ومطالبة في مهنتي بالموضوعية، فإنه لا يمكنني أن أكون موضوعية في هذه الحرب، في كل لحظة أطرح على نفسي هذا السؤال: لماذا نموت؟ هل سنموت؟ أنا ضد وسائل الموت، لا أعرف في الحقيقة هل يجب أن نغفر ونتحاور، هل يجوز أن نفعل ذلك؟ لا أعرف هل يمكن بعد هذه الحرب المجنونة أن نسامح أو نتحدث عن الغفران؟ لا اعرف...».
تقول الإعلامية منى سكرية التي تعمل حالياً ضمن فريق العمليات المركزية التابع للهيئة العليا للإغاثة إن كل حرب تشبه سابقتها، لأن المشهد نفسه يتكرر دوماً، فهناك على الدوام قتل وتدمير وقصف بحمم الآلة العسكرية التي تفتح مرة واحدة لتنزل على رأس الأبرياء لتقضي على أي لون أخضر أو سياج منزل أو كل ما يتحرك على الأرض. فالحرب برأيها هي الحرب لا توفر أي أحد، لا مدارس ولا بنى تحتية ولا دور عجزة، ولا جسوراً ولا طرقات.
دخلت سكرية الصحافة في العام 1981 وعملت فيها طويلاً، لكنها لم تشهد أبشع من المعلومات التي تصلها كل يوم في عملها عبر الوكالة الوطنية، فمن أرقام النازحين، إلى أعداد الشهداء، إلى الضحايا الأبرياء من أطفال ونساء. فالاعتداءات الإسرائيلية برأيها سريعة وعنيفة جداً، فهناك سرعة في العنف ودورة القصف التي دمرت الجسور والطرقات والمنازل على رؤوس أصحابها من مدنيين وعزل، فكانت النتيجة أن يجتمع الأحياء مع جثث الأموات تحت أنقاض المباني.
وما يميز الحرب برأيها أيضاً هو سرعة نزوح المدنيين، إذ نزح ما بين 300 إلى 900 ألف شخص من القرى إلى العاصمة والمدارس أو عند أقاربهم. وتتسارع وتتضاعف الأعداد بحسب قولها في كل مرة.
تتعاطى سكرية بشكل أساسي في عملها حالياً مع المؤسسة الرسمية التابعة لمجلس الوزراء، لتنقل أخبار النازحين وأعدادهم وكل المعلومات عن الضحايا واللاجئين والمؤن، وهي على اطلاع يومي بالمآسي التي تحصل في كل لبنان على رغم عدم قيامها بعمل ميداني، وتقول «من يريد العمل في هذه المهنة ميدانياً يجب أن يملك ما يمنعه من الانهيار، هناك ضرورة لتمالك الأعصاب، ففي كل مرة نقول إن هذه الحرب هي الأصعب، لكنها على الدوام صعبة ومدمرة، نخجل أن نشتكي من أي صعوبات تواجهنا كإعلاميين، ونحن نرى وضع اللبنانيين تحت القصف الإسرائيلي».
لم تشاهد مراسلة تلفزيون دبي عليا إبراهيم طفلتها البالغة من العمر خمسة أشهر إلا مرتين فقط منذ بدأت الحرب، إذ تركتها لدى أهلها نظراً إلى طبيعة وضغط عملها كمراسلة. شعورها المرهف كأم جعلها قادرة على أن تتناسى أي شيء مما تشاهده كمراسلة، إلا مناظر جثث الأطفال في قانا التي تقول إنها لن تتمكن من نسيانها ما دامت على قيد الحياة.
تقول إبراهيم: «تجربتي في تغطية الحرب على لبنان تتمحور في شقين، أولهما شخصي والثاني مهني، فعلى الصعيد الشخصي، لا استطيع أن أتوقف عن التفكير في طفلتي الصغيرة التي لم أرها منذ مدة، أما على الصعيد المهني فإنني أعاني المشاهد الرهيبة التي نراها للقتلى والجثث في كل موقع يتعرض للقصف. غطيت مجزرة قانا عن قرب ميدانياً، ورأيت أشياء لا يمكن وصفها، وخصوصاً عندما كانوا ينتشلون جثث الأطفال من تحت ردم المباني، لا يمكنني أن أصف كل ما شاهدته إلا بأنه أمر لاإنساني».
وتضيف «نحن طبعاً نشعر بالخوف كمراسلين قريبين من مواقع القصف، فنحن بشر في النهاية نفكر في حياتنا، لكننا نؤدي واجبنا المهني في النهاية، لم أكن أفكر في ضرورة حياتي من قبل عندما غطيت أحداثاً مشابهة، لكنني بعد أن أصبحت أماً، أشعر بأنني لا أريد أن أموت وأترك طفلتي، أفكر فيها قبل أن أفكر في نفسي، الحرب بشعة جداً».
نزلت إبراهيم إلى الجنوب اللبناني لمدة يومين وشهدت غارة قريبة من موقعها جداً، وكان أمراً مرعباً، تقول «شعرت بشعور غريب جداً عندما شهدت تلك الغارة، كان شيئاً مرعباً، شعرت بأن الموت قريب جداً مني، ربما أكون متخوفة أكثر من اللازم، لكن هذا هو الواقع الذي نعيشه، أعرف أننا في كل الأحوال سنموت، ولا نستطيع أن نفعل لذلك شيئاً».
إبراهيم تقطن حالياً بيروت، وتقول إن هناك مشكلة في الوصول إلى الجنوب اللبناني لأن جميع الطرق مغلقة، وهناك قصف وطيران مستمر، والطرق كلها جبلية.
وتؤكد «ليس هناك فرق بين الرجل والمرأة في تغطية الحرب، فالخطر واقع على الاثنين، كل منهما يؤدي عمله، والعمل ليس اختيارياً، لأنه يأتي من صميم الواجب».
ليست امرأة فقط، لكنها مصابة بإعاقة جسدية أيضاً، ومع ذلك لم يمنعها أي من ذلك من تغطية الحرب على لبنان، إنها الإعلامية آمنة القرى، التي تعمل حالياً في مركز الحوار للأبحاث التابع للسياسي اللبناني فؤاد مخزومي الذي تصدر عنه دراسات وبحوث إلى جانب صحيفة متخصصة.
تقول القرى: «في بيروت ديناميكية كبيرة، والناس فيها معتادون على التحرك الحر في وقت الحرب، لذلك نجد الإعلاميين يقومون على رغم القصف بواجبهم على أكمل وجه، لقد ساهم الانترنت ووسائل الاتصال السريعة في إيصال المعلومات بالنسبة إلى الإعلاميين، بحيث يتم نقل المعلومات خلال لحظات، ولا يفصل عن حصول الحدث وانتشار خبره شيء، لقد عمل الإعلاميون الذين غطوا مجزرة قانا في ظروف نفسية سيئة جداً، وخصوصاً في تعاطيهم مع مناظر مؤلمة للأطفال، لكن على رغم كل شيء لم تتوقف التغطية».
وتضيف «العمل الإعلامي مهم جداً في هذا الصدد، ولا تقل عنه أهمية تغطية حال اللاجئين التي تكشف المناطق التي لم تصل إليها المساعدات، ووصول المسعفين والخدمات الاجتماعية إلى لبنان والتي تعتبر واسعة التأثير».
تقول القرى أيضاً: «الصعوبات التي يواجهها الإعلاميون في الحرب ليست قاسية بالمعنى «اللوجستي» بسبب تطور الأجهزة الإعلامية والمساعدة التي يتم تلقيها من الوكالات كافة، فما بنيناه في السنوات الماضية استفدنا منه، والجميع مجهز بالمعدات والأجهزة اللازمة لتوفير تغطية إعلامية متميزة من رجال ونساء، وفي لبنان يقدمون الدعم الكامل للإعلاميين، ولم يتوقف البث الإعلامي على رغم قطع الجسور والدمار المذهل، لقد عمل بعض الناس العاديين إعلاميين أيضاً من دون وجود خبرة سابقة، فبين حين وآخر يتطوع الكثيرون لنقل الحوادث وما يجري أولاً بأول، الجميع موجود في الساحات البيروتية بكل صمود وقوة. لم تؤثر الحرب على مستوى الإعلام فقد زادت التقارير الإعلامية وتم تناقل الأنباء على صعيد الصحف المحلية والوكالات التي تنقل التفاصيل الدقيقة حول أي حدث أولاً بأول، وعندما قطعت الكهرباء، لم يتذمر أحد من ذلك، فقد اعتبروا الكهرباء ترفاً مقارنة بما يعاني منه اللبنانيون تحت نيران القصف الإسرائيلي».
تنزل القرى يومياً إلى الشارع وتتنقل في المناطق التي تعرضت للقصف في الليلة الماضية أو مراكز الإيواء، وتتلقى التقارير وتنقلها بشكل شبه يومي وعلى نطاق واسع جداً. وعلى رغم أن عملها لا يرتكز على الميدان، فإنها تقوم بعمل خطر، فالقذائف والقصف متواصل قريباً من مكتبها الذي تحرك من موضعه بسبب إحدى الضربات، لكنها مؤمنة بأنك مادمت تسمع صوت القذيفة فهي لن تضربك.
تقول القرى: «يمكننا أن نعتبر الإعلاميين في الخارج مقاتلين مثلهم مثل المقاومة، فبفضلهم لم يعد الاستشهاد مجانياً».
أثبتت مراسلة قناة ال CBL اللبنانية الميدانية منى صليبا جدارتها في نقل العدوان على لبنان، على رغم أنها المرة الأولى التي تغطي فيها أي حرب، إذ لا يتجاوز عمرها الصحافي 3 سنوات ونصف، فيما لا تتجاوز خبرتها كمراسلة على الأرض السنتين والنصف.
تقول صليبا: «تجربة الحرب بشعة جداً، فقد سبق أن غطيت الانفجارات التي حصلت في لبنان، ولكن الحرب تبقى مختلفة، فهي حال قائمة بذاتها، فقد قضيت أسبوعاً في الجنوب، قريباً جداً من خط النار، وشاهدت جميع المناطق الساخنة عن قرب، لم أكن خائفة في أداء واجبي المهني».
وعلى رغم صعوبة التجربة والألم الذي تبعثه في النفس، تصفها صليبا بأنها تجربة غنية لا تتكرر أثرت تجربتها الإعلامية، لكنها أثارت في نفسها سؤالاً كبيراً كيف يمكن للإعلامي أن يكون موضوعياً في نقل صورة إنسانية «غير موضوعية»؟!
وتعمل صليبا حالياً على تقديم رسالة يومية لمحطتها، التي تصفها بأنها آمنة إلى حد ما، فعلى رغم قصف إحدى محطات الإرسال التابعة لها، فإنها تمكنت من مواصلة البث بشكل مستمر ومن دون انقطاع.
وتعرضت صليبا إلى مصاعب جمة بسبب الحرب، فقد كان التصوير محظوراً في بعض المناطق، ومنعت من الظهور المباشر في مناطق أخرى، علاوة على الصعوبات اللوجستية الأخرى، فأحياناً ترسل «إسرائيل» المنشورات التي تنذر بالقصف فتجبر الفرق الإعلامية على الرحيل. غير أن كونها امرأة ساعدها كثيراً في تغطيتها للحدث، فقد تمكنت من الدخول إلى مواقع لا يمكن للرجال أن يدخلوها كالملاجئ التي تخصص للنساء والأطفال، والتي نقلت بمجرد الحديث معهن صورة واقعية عن أوضاعهن.
وتتحسر صليبا على الوضع الأمني في الجنوب اللبناني قائلة: «كان النظام الأمني في جنوب لبنان مضرب الأمثال، كنا عندما نزوره في السابق نشعر بالنظام والأمن المستتب، لكننا حالياً لا نشاهد إلا الدمار والخراب، لقد خسر الجنوب هالته الأمنية وأصبح خراباً، لا يوجد غير صوت الحزن والموت، وصوت الريح يهب عبر الفضاء الواسع الذي خلا من البنايات التي كانت تمنع صوت الريح أن يسمع من قبل لكثرتها».
لم تتمالك الصحافية في صحيفة السفير اللبنانية سعدة علاو نفسها من البكاء وهي تتحدث عما حل في لبنان، لتقول بصوت باك ونبرات متشنجة: «أقول للعرب الذين يرسلون لنا المعونات، لسنا بحاجة للفتات، لكننا نشعر بالعري، عرينا عربي قبل أن يكون دولياً. «إسرائيل» تتفنن في قتلنا، وتفعل كل شيء بغطاء دولي وعربي».
تقول علاو: «إن الصعوبات التي قد تصادفنا لا تقارن نهائياً بالمآسي التي نراها يومياً، فمع وجع الأمهات والرجال والأطفال من المخجل أن نتحدث عن أي صعوبات تواجه الصحافيين. إن ما يحصل في لبنان يعجز المرء عن التعبير عنه. هل يمكن أن أتحدث عن صعوبات وأنا أعرف عن عشرات الجثث التي تحللت تحت ركام المباني من دون الوصول إليها، كثير من الجرحى أصبحوا شهداء بعد أن قضوا أياماً ينزفون. الوضع أكبر بكثير من أن ننظر إليه بمنظار شخصي».
وتضيف «لا يميز الإسرائيليون بين رضيع وبالغ، وامرأة ورجل، فكيف نميز في عملنا بين رجل وامرأة وكلنا في النهاية بشر؟ وما يصادفنا كصحافيات مشابه لما يتعرض له زملائنا الصحافيين الرجال، والوضع أكبر بكثير من أن نشعر بتلك الصعوبات، فكل ما يحصل قاس جداً يمنعنا من نقل ولو صورة مقاربة للواقع ولما يحصل من مجازر، نحن عاجزون عن نقل الصورة الحقيقية حتى عبر الإعلام. فليسألوا عن أنواع الأسلحة والغازات المحرمة دولياً التي تستخدم في قتل الأطفال، والتي أجهضت الحوامل وقتلت المرأة وهي ترضع طفلها وصدرها في فمه، لا يوجد من يسأل عن كل ذلك، بل تعطى المهلة تلو الأخرى لقتل أطفالنا».
وتضيف «كنت في صور منذ أيام، ورجعت إلى بيروت لإصابتي في ركبتي، وتسنى لي لقاء مجموعة من الناجين من القصف هناك، لقد شاهدت من المناظر ما يفزع له أي إنسان، لم يتسع براد المستشفى للجثث، ولم يعد يمكن لأهالي التعرف على جثث أقاربهم بعد أن تحللت».
أما سبب شراسة «إسرائيل» في عدوانها هذه المرة فهو برأيها الغطاء العربي والدولي لهذا العدوان، «إذ يتحدثون عن ضوء أخضر أعطاه العرب والعالم أجمع لقصف لبنان، لقد عملت «إسرائيل» على تدمير بلدنا، ولا يمكن للعرب أن يفعلوا من أجلنا شيئاً لأن أنظمتهم كلها ربيبة الأميركان. إن ما يبلسم جروحنا فقط هو موقف الشعوب العربية، نحن تقهرنا «إسرائيل»، والشعوب العربية تقهرها أنظمتها».
وتضيف «نعم لسنا محميين لوجستياً كإعلاميين، جميعنا مستهدفون، نحن وأبناء شعبنا جميعاً، علينا أن نأخذ كل يوم مهدئاً للأعصاب حتى نتمكن من الصبر على رؤية ما نشاهده من مجازر... يهددون بقصف بيروت، فليقصفوها، فلم يبق الكثير».
«يوميات بيروت المحاصرة»، هو عمودها اليومي منذ بدأ العدوان الإسرائيلي على لبنان، إنها رئيس التحرير المسئول في صحيفة «الوقت» البحرينية خولة مطر، التي تسكن ببيروت منذ أسابيع، ناقلة يوميات ما يجري هناك.
تقول مطر في حديثها مع «جهينة»: «نحن نعيش كل يوم بيومه هنا، الأيام الأولى كانت أصعب إذ كان القصف قريباً من كل المناطق التي تجولنا فيها، وكان السؤال المتكرر هو أي طريق نسلك اليوم؟ لقد كان الناس يسرعون على الجسور في الأيام الأولى مذعورين، تحسباً لأية قذيفة يمكن أن تقصف الجسر».
وتضيف «الصعوبة تبدأ بعد أن يتوقف القصف، ويبدأ انتشال الجثث من كل موقع، بيروت التي كانت تعج بالحياة أصبحت مدينة أشباح، يظل الناس في الشوارع حتى الساعة الثامنة مساء كحد أقصى».
وعن عمل الإعلاميين هناك تقول: «يتعرض الإعلاميون والصحافيون إلى مشكلات في الكهرباء والتوصيلات في أجهزة الكمبيوتر، بالإضافة إلى مشكلات الماء والبنزين، ولذلك فإن تجولي بالسيارة يجب أن يكون محسوباً ومخططاً له فالمواصلات شبه معطلة هنا، ولا أرى صعوبة تتعرض لها الإعلاميات ولا يتعرض لها الإعلاميون من الرجال، فالجميع على خط النار، ولا تفرق المؤسسات الإعلامية بينهم، كما ترفض المقاومة وجود الإعلاميين رجالاً ونساء قريبين من الخطوط الأمامية للصراع».
مطر التي قامت من قبل بتغطية الحرب الأهلية اللبنانية، وحرب اليمن الجنوبي، والحرب العراقية الإيرانية، إلى جانب عملها مراسلة لقناة «إم بي سي» في تغطية حرب البوسنة والهرسك، ترفض العودة إلى البحرين على رغم طلب مؤسستها الإعلامية منها بذلك، وتفضل البقاء في بيروت لتساهم في نقل جزء من الصورة، وتتجول يومياً في المناطق التي قصفت في الليل، لتلتقي أهالي الضحايا، والنازحين، وتزور المدارس والمخيمات، وتزور المقاهي لتستمع إلى ما يقوله الناس هناك.
تقول مطر: «أرى العجز والألم في كل مكان أزوره، المشاهد مؤلمة جداً وحجم الدمار رهيب، يجب أن ننقل كل ما يحصل في لبنان للناس، فهذا هو نوع من أنواع المقاومة، فهناك من يقاتل على خط النار، وهناك من يوفر الماء والغذاء، وهناك الإعلاميون الذين يقومون بالكتابة ونقل الكلمة».
تحية للإعلاميات والإعلاميين على خط النار، هناك في لبنان الذي يتعرض للقصف اليومي، فبهم، وبهن، تنتقل إلينا أجزاء من الصورة، وأجزاء من الحقيقة
العدد 1430 - السبت 05 أغسطس 2006م الموافق 10 رجب 1427هـ