تم في المقال السابق تتبع مسيرة الفكر العالمي للمياه بدءاً من انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة الأول عن «بيئة الإنسان» في 1972 بستوكهولم (السويد)، ووصول هذا الفكر بعد عقدين من انطلاق العمل البيئي العالمي إلى «مبادئ الإدارة المتكاملة للمياه» عندما عقد المؤتمر الدولي عند «المياه والبيئة» في 1992.
وفي هذا العام نفسه عقد مؤتمر «البيئة والتنمية»، أو ما سمي بـ «قمة الأرض بشأن التنمية المستدامة»، في ريو دي جانيرو بالبرازيل، وناقش موضوعات كثيرة، منها قضايا التعاون، واقتصادات المياه، والمشاركة، ومياه الشرب والصرف الصحي، والتنمية المستدامة، وإنتاج الغذاء، والتغيرات المناخية. وأكدت قمة الأرض تبني منهج الإدارة المتكاملة للموارد المائية لتنمية وإدارة مصادر المياه، وتم إدراج مبادئ دبلن ضمن الفصل 18 لأجندة القرن الحادي والعشرين. وجاء في هذا الفصل «أن الإدارة الشاملة للمياه العذبة وتكامل خطط وبرامج قطاعات المياه المختلفة في إطار السياسات الاقتصادية والاجتماعية الوطنية لهما أهمية قصوى للعمل في عقد التسعينات وما بعد ذلك».
وتبعت هذا المؤتمر الكثير من الاجتماعات الوزارية والمؤتمرات، منها المؤتمر الوزاري العالمي في 1994 بشأن مياه الشرب والصرف الصحي في نورديك (هولندا)، والمؤتمر العالمي للأمم المتحدة عن السكان والتنمية في العام نفسه، وقمة الأرض عن التنمية الاجتماعية في كوبنهاغن في 1995، ومؤتمر الأمم المتحدة الرابع بشأن المرأة في بكين في العام نفسه، ومؤتمر الأمم المتحدة عن التجمعات السكانية في اسطنبول في 1996، وقمة الأرض بشأن الغذاء في روما في العام نفسه. وجميع هذه المؤتمرات رددت ما توصلت إليه قمة الأرض بشكل أو بآخر من حيث التوصية بوضع أهمية قصوى لتزويد الاحتياجات المائية الأساسية للإنسان (مياه الشرب والصرف الصحي)، ومحو الفقر، وإيجاد التوازن يين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمحافظة على المياه والبيئة، وإيجاد بيئة صحية للتجمعات السكانية، وإعادة تأهيل البيئات المعتمدة على المياه بالمحافظة على المياه وإدارتها السليمة لاستعادة وظائفها وإنتاجيتها الحيوية.
وفي العام 1996 أنشئ «المجلس العالمي للمياه»، كمنظمة مجتمعية عالمية مختصة بالسياسات المائية على مستوى العالم، استجابة للقلق العالمي تجاه الضغوطات التي تتعرض لها المياه العذبة في مناطق العالم المختلفة، ويهدف المجلس إلى رفع أهمية المياه إلى مستويات عالية في الأجندة السياسية للدول والعالم عموماً، ودعم الحوار والمناقشات المعمقة نحو حل قضايا المياه العالمية في القرن الحادي والعشرين، وصوغ مقترحات الحلول، وتوليد الالتزامات السياسية لحل هذه القضايا.
وفي العام 1997 عقد المجلس العالمي للمياه «المنتدى العالمي الأول للمياه» في مراكش، وتطرق إلى موضوعات المياه والصرف الصحي، وإدارة الموارد المائية المشتركة، والمحافظة على الأنظمة البيئية، ودور المرأة، والاستخدام الكفء للمياه. ونتج عن المؤتمر «إعلان مراكش» الذي حذر من التعامل مع المياه على أنها سلعة سوقية تباع وتشترى، كما ركز في توصياته على ضرورة الاهتمام بتوفير احتياجات الإنسان الأساسية في الحصول على مياه شرب نظيفة وصرف صحي، وإنشاء آلية لإدارة الموارد المائية المشتركة، ودعم النظم الايكولوجية والمحافظة عليها، وتشجيع الاستخدام الكفء للمياه. وكلف المؤتمر المجلس العالمي للمياه بإعداد رؤية بعيدة المدى للمياه والحياة والبيئة على مستوى العالم، كما تم الاتفاق على عقد المنتدى العالمي للمياه كل ثلاث سنوات.
وبعد ذلك، عقد «المنتدى العالمي الثاني للمياه» في هولندا في العام 2000 الذي صدرت فيه الرؤية العالمية للمياه وشاركت في إعدادها جميع مناطق العالم بما فيها الوطن العربي وتمت التوصية بمشاركة جميع المنتفعين في الإدارة المتكاملة للمياه، التوجه نحو تسعير خدمات المياه لتعكس الكلفة الكلية لها، وزيادة الإنفاق العام على البحوث المائية والتعليم ورفع الوعي، وزيادة التعاون في الأحواض المائية العالمية المشتركة، وزيادة وتعظيم الاستثمار في قطاع المياه. كذلك تمخض عن المؤتمر الوزراي المتزامن مع فعاليات هذا المنتدى تحديد 7 تحديات رئيسية في العالم، هي: تلبية المتطلبات الرئيسية للإنسان من المياه، ضمان الإمداد الغذائي، حماية الأنظمة الحيوية، المشاركة في الموارد المائية، إدارة المخاطر، تقييم المياه، وحاكمية المياه الجيدة. وتم التعهد من قبل الدول بدعم منظمات الأمم المتحدة في التقييم الدوري لحال موارد المياه العذبة والأنظمة الحيوية المرتبطة بها، ومساعدة الدول النامية في تطوير أنظمتها لرصد التقدم نحو تحقيق الأهداف الموضوعة.
وفي السنوات اللاحقة اتجهت أنظار المهتمين إلى تنفيذ التوصيات الأخيرة، وهذا ما اتضح في المؤتمر التمهيدي لقمة الأرض عن التنمية المستدامة (جوهانسبرغ 2002)، الذي عقد في العام 2001 في بون (ألمانيا)، بعنوان «المؤتمر العالمي للمياه العذبة... المياه مفتاح التنمية المستدامة»، وركز المؤتمر على الحاكمية، وتوفير الموارد المالية لقطاع المياه، وبناء القدرات والمشاركة في المعرفة. وكذلك عقد في المؤتمر اجتماع وزاري نتج عنه إعلان وزاري استنتج أن مكافحة الفقر هو التحدي الرئيسي للوصول إلى التنمية العادلة المستدامة، وأن المياه تلعب دوراً حيوياً لصحة الإنسان ومعيشته والنمو الاقتصادي واستدامة الأنظمة الحيوية. كما تم وضع توصيات عن أولويات العمل المستقبلي شملت المواضيع الرئيسية المذكورة أعلاه.
ثم، وفي سبتمبر/ أيلول 2002 عقدت قمة الأرض عن التنمية المستدامة في جوهانسبرغ (جنوب إفريقيا) أو ما يسمى بـ «ريو +10»، وتركزت مواضيعها على: محو الفقر، الصرف الصحي، الطاقة، التمويل، الإدارة المتكاملة للموارد المائية، والمياه في القارة الافريقية. وصدرت في ختامها أهداف الألفية التنموية المشهورة وهي الاتفاق على خفض نسبة السكان الذين ليس لديهم مياه شرب آمنة وصرف صحي ملائم إلى النصف بحلول العام 2015 في جميع دول العالم، كما تم الاتفاق على «تبني سياسات واستراتيجيات الإدارة المتكاملة للموارد المائية وتطبيقها بشكل فعال في دول العالم كافة بحلول العام 2005».
كما تم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002 إضافة الملاحظة العامة عن «حق الإنسان في الحصول على مياه الشرب» إلى ميثاق حقوق الإنسان، وأصبح لزاماً على الـ 145 دولة التي صادقت على ميثاق حقوق الإنسان أن تضمن أن يحصل كل فرد من أفرادها على مياه شرب آمنة وبشكل عادل ومنصف ومن دون تمييز، وتبني الإجراءات الضرورية نحو تحقيق هذا الحق.
بعد ذلك، وفي العام 2003 الذي أطلق عليه «العام العالمي للمياه العذبة»، عقد «المنتدى العالمي الثالث للمياه» في اليابان، وحضره 24 ألف مشارك من أكثر من 170 دولة ليصبح اكبر تجمع عقد بشأن المياه في العالم. وناقش المؤتمر الوزاري موضوعات الحاكمية، وإدارة الموارد المائية المتكاملة، والسياسات المائية المطلوبة، والتمويل، والتعاون، وبناء القدرات، والاستخدام الكفء للمياه، ومنع تلوث المياه، وتخفيف تأثيرات الكوارث. وعقد في هذا المنتدى المؤتمر الوزاري عن المياه وحضره 130 وزيراً مسئولاً عن المياه من مختلف دول العالم، وتبنى الوزراء الإعلان الوزاري الذي ركز على أهمية دور المياه في التنمية المستدامة، والذي جاء فيه «... ندرك أن الحاكمية الجيدة وبناء القدرات والتمويل هي أهم المواضيع المطلوبة للنجاح في جهودنا المبذولة».
وفي المنتدى نفسه صدر «تقرير تنمية المياه العالمي» الأول تحت عنوان «الماء للناس، الماء للحياة»، الذي تم إعداده ضمن مشروع «تقييم المياه العالمي» التابع للأمم المتحدة، وهو مشروع بعيد المدى اعتمد بناء على توصيات الجمعية العمومية للأمم المتحدة ولجنة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة في العام 2001، وتشترك فيه 23 منظمة تابعة للأمم المتحدة. ومما جاء فيه: «... نحن نعيش حالياً في أزمة مائية متعددة الوجوه، سواء تلك المتعلقة بقضايا الصحة أو البيئة أو الغذاء أو الصناعة أو الطاقة. إن القرن الحادي والعشرين هو القرن الذي ستكون فيه مشكلة نوعية المياه وإدارتها هي الطاغية على الأجندة العالمية».
وبعد ذلك، عقدت الكثير من الاجتماعات العالمية التي تطرقت إلى مواضيع المياه، وأهمها قمة الثمانية الكبار (جي - 8) في فرنسا في يونيو/حزيران 2003، والتي تبنت خطة العمل المتعلقة بالمياه لتحقيق أهداف الألفية التنموية، وتعهد قادة الدول الثماني بتشجيع الحاكمية الجيدة، وتوفير الموارد المالية، وإنشاء البنى التحتية للمياه عن طريق تمكين المجتمعات المحلية، وتقوية نظم المراقبة والتقييم والبحث العلمي، وتعزيز دور المنظمات الدولية. كما عقد الاجتماع الثاني عشر في 2004 والثالث عشر في 2005 للجنة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة وتم التركيز على السياسات والخيارات المتعلقة بتطبيق الالتزامات الدولية في مجال المياه، ودعت وثائقه إلى تسريع التقدم نحو أهداف الألفية بحلول العام 2015 بواسطة زيادة الموارد المالية، واستخدام المدى الواسع للأدوات الإدارية المتاحة مثل التنظيم والأدوات الاقتصادية واستعادة التكاليف وتحسين إدارة الطلب وخصوصاً في القطاع الزراعي، وتسريع توفير المساعدة التقنية والمالية للدول التي تحتاج إلى المساعدة في تحقيق الهدف الذي اتفق عليه عالمياً في مؤتمر التنمية المستدامة في 2002 وهو صوغ استراتيجيات الإدارة المتكاملة للموارد المائية وتطبيقها بحلول 2005.
ويلاحظ أن الفترة من 1992 إلى 2005 تميزت بكثافة المؤتمرات والاجتماعات والمنتديات المتخصصة في المياه وقضاياها على مستوى العالم، كما أصبحت المياه من القضايا الرئيسية التي تتم مناقشتها في الاجتماعات المتعلقة بالتنمية في العالم، وبرزت المياه في الأجندة العالمية بشكل واضح ومتزايد.
وأخيراً، حددت الجمعية العامة للأمم المتحدة العقد 2005 -2015 ليكون العقد العالمي للعمل تحت شعار «الماء للحياة»، وذلك للتركيز على تطبيق البرامج والمشروعات المتعلقة بالمياه، ولزيادة وتعزيز التعاون في قضايا المياه على جميع المستويات. وتم تحديد مناطق التركيز لهذا العقد في الصرف الصحي، منع الكوارث، قضايا المياه المشتركة، بناء القدرات، التمويل، والإدارة المتكاملة للمياه.
وسيتم في المقال القادم، وهو الأخير، التركيز على المنتدى العالمي الرابع للمياه الذي عقد أخيراً في المكسيك (16 - 22 مارس/ آذار 2006) والموضوعات التي تطرق لها ونتائجه وتوصياته، وتحليل تطور الفكر العالمي للمياه ومبادئ التعامل مع قضايا المياه، وتحليل تطور مستوى إدارة المياه في مملكة البحرين خصوصاً، ودول المنطقة عموماً في ظل هذه التطورات
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1430 - السبت 05 أغسطس 2006م الموافق 10 رجب 1427هـ